نزهة في
صالة سينما:
بعد
مشاهدته لأحد الأفلام الهندية، في صالة سينما بإحدى المدن الهندية، أبدى
المخرج الأسترالي باز لوهرمان – مخرج الفيلم الشهير "مولان روج"
- دهشته وانذهاله من الطريقة التي يستقبل ويتفاعل بها الجمهور
الهندي مع الفيلم المعروض على الشاشة..
هذه الطريقة التي اعتبرها تجربة فريدة واستثنائية، أتاحت له فرصة اختبار
فهم جديد ومختلف للعلاقة بين المتفرج والفيلم.
إذا كان
المتفرج الأوروبي، مثلا، يفضـّل مشاهدة الفيلم في صالة ساكنة تماما، في صمت
مطبق، دونما أي إلهاء من أي نوع، وفي خشوع وتبجيل.. كأنه في كاتدرائية،
فإن المتفرج الهندي يذهب إلى السينما كما لو يذهب إلى نزهة. وهو لا يعبّر
عن تقديره واحترامه للفيلم بالتزام الصمت، كما يفعل زميله الأوروبي، بل عبر
الضجيج والتفاعل الحر، الفوضوي.. إن شئت.
الجمهور
الهندي في الصالة يأخذ حريته المطلقة في تبادل الأحاديث الصاخبة، في الرد
على المكالمات الهاتفية عبر الموبايل، في الرقص والغناء الفردي أو الجماعي
مع الأغنية المعروضة على الشاشة، في الخروج من الصالة لتدخين سيجارة.. إنها
أمسية مخصصة للترفيه البحت، والفيلم في بؤرة الاهتمام لكن ليس إلى حد
الاستحواذ.
غالبا ما
يطلق على الأفلام الهندية صفة "أفلام
masala"
(أي ذلك المزيج من التوابل): وضع كل شيء في طبق واحد، حالة متجذرة بعمق في
الروح الهندية.. نجد انعكاس ذلك في الوجبة الهندية حيث تقدم مختلف أنواع
الأطعمة والتوابل والبهارات في طاسات على صحن واحد. مثلما نجده في المسرح
الكلاسيكي الهندي الذي يستلزم: الحدث الدرامي، الأغنية، الرقص، الصراع،
والنهاية السعيدة.. كل هذا منطلق من نظرية "الراسا"
rasa (الجوهر/ العاطفة) أو (الماهية/ الإحساس)، هذه النظرية التي
تسعى إلى "الشعور المفعم بالبهجة، الذي يشعره المتفرج حين تكون صراعاته
محلولة، حيث يحس بالتناغم والانسجام مع نفسه ومع الطبيعة".
ذهاب إلى
الفنتازي:
طوال
ساعات ثلاث أو أكثر، حافلة بمزيج من الميلودراما الصارخة والرومانسية
الحالمة والاستعراضات الغنائية الراقصة والفكاهة والإثارة والمعارك
والمطاردات (تبلغ ذروتها مع نهاية سعيدة ينتصر فيها الخير والبطولة على كل
المحن والكوارث والشرور التي طالت الشخوص الطيبة) تصور الأفلام الهندية
واقعاً مختلفا بشكل جذري عن الواقع الذي يعيشه المتفرج، المواطن الهندي
خصوصا.
إنها تصور
عالما سحرياً، شبيهاً بالحكايات الخرافية، يستمد مكوناته وعناصره من الواقع
والميثولوجيا في آن واحد.
المنطق
مفتقد كليا. القوانين الفيزيائية تتعرض للنقض أو التجاوز على أكثر من صعيد.
الحياة اليومية محرّفة أو محجوبة تحت سطح مصقول يعرض الوجه المتخيل..
الجميل والفاتن. الزمن والمكان يحملان خاصية حلمية وارتباطهما بالحدث أو
بالشخصية ارتباط عفوي إن لم يكن عشوائيا. لا حدود بين العقلاني
واللاعقلاني، الممكن والمستحيل، فهما يتجاوران ويتصلان ببساطة كلما استدعت
الحبكة ذلك. العلاقات مفتعلة وغير مبرّرة، تحكمها الصدفة لا الضرورة
الدرامية.
الشاشة
المستطيلة، البرّاقة، تصبح فضاءً مأهولاً بكائنات بشرية في مظهرها الخارجي
لكنها لا تنتسب إلى البشر الذين نصادفهم في حياتنا اليومية. إنها أشبه
بمخلوقات كوكب آخر تنتحل أحزاننا وأفراحنا، آلامنا ومباهجنا، لكنها غريبة
عنا، أجنبية ودخيلة.
من هذا
الفضاء (الشاشة) تخرج الأشكال والمناظر والصور لتخلب لبّ المتفرج وتأسر
عينيه، لتمارس عليه فعل التنويم المغناطيسي، ولتمنحه مادة خصبة لأحلام
يقظته.
تقنية هذه
الأفلام غالباً ما تفتقر إلى الصقل - رغم المهارات العالية في التصوير -
وفق رؤية فنية متماسكة. الكاميرا استعراضية أكثر من كونها أداة للتعبير.
الأسلوب مبسط وتقليدي للغاية. الحبكات متماثلة ومشحونة بالكليشيهات.
التفاصيل الصغيرة مهملة ومن السهل اكتشاف الأخطاء أو الشوائب الفنية.
الشخصيات نمطية. الأحداث يمكن التنبؤ بها بسهولة.
إذا علمنا
أن الأفلام المنتجة سنوياً، الموزعة على 39 لغة ولهجة، لا تقل عن 1000
فيلم (في العام 2005 بلغ الإنتاج 1041 فيلما) وهو يشكّل أعلى معدّل إنتاج
في السينما العالمية، فسوف ندرك مدى السرعة والفبركة في تنفيذ الأفلام،
والنظرة التجارية البحتة التي تحكم عملية الإنتاج باعتبار الفيلم سلعة
استهلاكية.
الحالم
والواقع البديل:
في بلاد
يعيش أغلب سكانها في حالة فقر وبؤس، في صراع مرير مع واقع شرس وقاس، تأتي
الأفلام الهندية لتكون ملاذا يلجأ إليه المواطن لتفريغ كل قهره ومعاناته،
وللهروب إلى عالم من الحلم والفنتازيا.
الأفلام
الهندية تتوجه إلى جمهور واسع، يائس من تحقق أحلامه في الواقع. يرى أن
أحلامه وأمنياته وطموحاته وتخيلاته ورغباته الدفينة لا تتجسد إلا على
الشاشة، وتجد تصعيدها في السحر الذي يغلّفه.
هو يذهب
إلى الشاشة (العالم الآخر) طواعية، وبلا إكراه، ليعيش حالة من الغشيان،
حالة هي بين الصحو والنوم. وهو يدفع نقودا ليتعاطى جرعات من الوهم، ليرى
مشاكله وأزماته محلولة. يريد أن ينسى نفسه ويغيب عن عالمه الحقيقي المليء
بالمآسي والبؤس والشقاء.
إنه يحقّق
سمّوه بواسطة الصور المتحركة التي تغزو حواسه ومشاعره، وما إن تحتل الصور
كيانه حتى يفقد ذاته. هكذا، في صالة معتمة، معزولا عن محيطه وأقرانه،
مستسلما كليا للصور المهيمنة، يبتعد المتفرج عن عالمه الحقيقي ليدخل في
عالم زائف، مصطنع، يتشكل في فضاء الحلم. ويزداد اندماجه وانفعاله وهيجانه -
فسيولوجيا وسيكولوجيا - كلما ازدادت جرعات التوابل والمنبهات التي يضيفها
صانعو الفيلم، وأيضا كلما بلغ التلاعب بالمشاعر والغرائز مستويات أعمق.
استجابات
المتفرج هنا صريحة وظاهرة وهذيانية. إنه يتفاعل بحماسة عفوية، وإزاء كل
حالة يعبّر بردّ فعل متلائم ومختلف. اللاوعي يتحرر من الكوابح والموانع.
عملية المشاهدة تنتفي منها صفة النقد والتحليل لتتسم بالتنفيس والتعويض
والتطابق أو التماهي. الإحساس بالعنف والغضب والرغبة الجنسية والعاطفة
الرومانسية.. كل هذه الأحاسيس وغيرها تتملك المتفرج طوال مدة العرض.
الملفت
للنظر أن عروض بعض الأفلام الناجحة تستمر لسنوات: فيلم
sholay
عُرض
مدّة سبع سنوات متواصلة، بينما عُرض فيلم
dilwale
dulhaniya le jayenge
مدّة عشر سنوات متواصلة، فالجمهور الهندي لا يمانع من مشاهدة
أفلامه المفضلة أكثر من عشرين مرّة لمجرد الاستمتاع بتأدية أغاني الفيلم
الناجحة وإلقاء حوارات الممثلين بالتزامن مع الشاشة.
الأفلام
التي تتناول حقائق حياته وتناقضات واقعه وقضايا مجتمعه بالتحليل والنقد،
بدافع التغيير أو التحريض على التغيير، لا تلقى دائما قبولاً واستجابة
إيجابية من القسم الأكبر من الجمهور. فالمتفرج، من جهة، يختبر هذه الحقائق،
يعيشها ويعانيها يوميا، فلا يشعر بحاجة إلى رؤيتها ثانية وقد أعيد تمثيلها
على الشاشة. إنه يأتي باحثا عن الحلول أو الاكتفاء بالفرجة لا المشاركة في
إيجاد الأجوبة.
من جهة
أخرى، السينما بالنسبة إلى المتفرج هي المفسّر الوحيد للعالم وظواهره. إن
ما تظهره الأفلام يصبح حقائق ثابتة. والواقع السينمائي يتحول مع مرور الوقت
ليصبح الواقع الذي يتوق إليه المتفرج ويرغب في الانتماء إليه والإقامة فيه،
يصبح الواقع البديل الذي يمثل الخلاص. ويبدأ في النظر إلى واقعه كحالة
مؤقتة، زائلة، سوف يغادره يوما لينتقل ويعيش في الواقع الآخر.. واقع
الشاشة.
( يتبع) |