ثلاثية المخرج البولندي كريستوف كيسلوفسكي التي يحمل عنوانها الوان العلم
الفرنسي:الازرق,الأبيض الأحمر..والتي تمثل الحرية الاخاء..لا تحاول – هذه
الثلاثية – أن تحلل أو تسير أو تستجوب تلك المفاهيم على المستوى السياسي أو
الاجتماعي ,إنما تحاول ان تعرضها في إطار فردي.شخصي.فالمخرج كيسلوفكسي
وشريكه في كتابة السيناريو كريستوف بيزيفيتش ليسا مهتمين بالبحث في شعارات
الثورة الفرنسية ,وليست الحرية التي يريدان إستقصاءها هي حرية الاختبار أو
التعبير ,بل المفهوم المجرد للحرية الفردية ,أنهما يدرسان مدى قدرة الفرد
على عزل نفسه ليس فقط عن محيطه وعائلته وأصدقائه ومهنته واهتماماته, إنما
أيضا عن ماضيه وذكرياته.
في الجزء الأول " ثلاثة ألوان.. الأزرق" تحمل الحرية بعدا تراجيديا. جولي
(جولييت بينو شيه) امرأة باريسية تفقد ابنتها الصغيرة وزوجها الموسيقار
الشهير في حادث سيارة, فتبلغ الحالة القصوى من اليأس والانهيار الداخلي
التي تدفعها الى محاولة الانتحار لكنها تتراجع, وتقرر قطع كل الخيوط التي
تربطها بالماضي، وفصل نفسها عن الواقع, والنأي عن أي ارتباط عاطفي أو عائلي
أو اجتماعي أو مهني.. إنها ترتد الى ذاتها لتسكن جرحا عميقا مغلفا بالحزن
والرجع والألم, وتحيط نفسها بصدفة صلبة لا يسهل اختراقها، ثم تمشي معصوبة
العينين نحو الفراغ الهائل.
تطلب جولي من محاميها بيع البيت الفخم, وترفض حب صديقها الموسيقي وساعدته
في إكمال المقطوعة الموسيقية الأخيرة التي تركها زوجها، وتقيم في شقة صغيرة
عادية لتبني لنفسها حياة جديدة, مجهولة معزولة, ولتتجرع فيها أحزانها قطرة
قطرة.. وحيدة وخائفة.
لكن الواقع يرفض أن يدعها وشأنها، إنه يحاول اختراق عالمها بإلحاح.. من
النافذة تلمح أشخاصا يضربون الرجل يهرب ويطرق بابها ناشدا المساعدة لكنها
لا تفتح. بعد تردد طويل تفتح الباب فلا تجد أحدا. الفيلم لا يفسر ولا يوضح
الحدث العابر، بل يدع لنا تأويل المجاز: الواقع يريد أن يخترق الصدفة وهي
تصر على الانكماش والنأي، لكن في الوقت ذاته, ومن جانبها، نجد ذلك الصراع
الداخلي العميق بين الانفتاح والانفلاق, الانفصال والارتباط, الحياد
والمبالاة الانكفاء والفضول.
إنها تقضي أوقاتها في التجول داخل شقتها، التحديق في أشياء تحمل شحنات
عاطفية خاصة, السباحة, ارتياد المقهى، زيارة أمها العجوز في المصح.. المحيط
الخارجي بالنسبة لها أشبه بعالم مجهول, أشبه بمتاهة, ينتحل خاصيات غريبة
وخارقة, وبوجه خاص, يثير اهتمامها أو فضولها، وان بشكل عابر وطفيف, عازف
فلوت يعزف جزءا من مقطوعة زوجها الناقصة. مرة ترده في الشارع يعز في للمارة
لقاء بعض النقود، ومرة ثانية ترده ينزل من سيارة فاخرة, ومرة ثالثة ترده
نائما في الشارع مثل أي متشرد.. وعندما تسأله, في دهشة وفضول,عن مصدر
الموسيقى وأين سمعها، يعطيها جوابا غامضا. هذه الشخصية, بمختلف حالاتها،
تظل أيضا خارج نطاق التوضيح والتفسير والسبر. إنها خارقة تقريبا، وتمثل
نوعا أخز من محاولة الواقع اختراق عالمها.
مرارا نجدها تسبح وحدها في بركة في محاولة موجعة لانهاك نفسها وتحييد
حواسها. وهي تسعي الى التخلص من الألم النفسي العميق بتعريض نفسها للألم
الجسماني. لهذا نواها تحك بعنف كفها على امتداد جدار راغبة في إيذاء نفسها
واخراس مشاعرها بممارسة العنف البدني والنفسي معا.
إن أول انفتاح لها على العالم الخارجي يحدث عندما تقتحم المومس الشابة
شقتها لتشكرها على رفضها التوقيع على عريضة مقدمة من سكان المبنى لطرد
المومس. إن تعاطف جولي معها يشكل البادرة الأول للاهتمام. بعد ذلك يتاح لها
الخروج النهائي من العزلة الصارمة عندما تكتشف أن زوجها كان يخونها مع
محامية جميلة. وحين تلتقي بها وتعرف أنها تحمل ابنه في بطنها، تكشف عن تلك
الطاقة الكامنة التي كانت تعتقد أنها قد تعطلت أو تبددت.. طاقة التسامح
والغفران والحب,وتمنح الجنين أملاك والده. إن اكتشافها للخيانة يفني الى
تحررها وخروجها من الصدفة, لتثبت أنها لا تزال قادرة على العطاء وعلى الحب.
الزمن في هذا الفيلم عائم, غير محدد. إنه بالأحرى يتوقف ويصبح بلا معنى إذ
من المستحيل معرفة الزمن الذي تستغرقه الأحداث, فليست هناك إشارات أو
تواريخ أو أحداث خارجية تسجل مرور الزمن. السرد اتفاقي نوعا ما يعتمد على
المصادفات واللقاءات العابرة. بالصدفة تلتقي بعازف الفلوت, وبالصدفة تكتشف
خيانة زوجها، والفيلم يوجد في زمنه الخاص ومنطقه الخاص.
الفيلم مرئي كليا من وجهة نظر جولي.. فمنذ اللقطة الأول لها، وهي راقدة على
سرير المستشفى، نرى صورة الطبيب - الذي يخبرها عن موت زوجها وابنتها في
الحادث - معكوسة في بؤبؤ عينها. والفيلم موسوم بذاتية حادة.. فالمخرج
كيسلوفسكي يوظف كاميرته ووسائله البصرية (المونتاج)والسمعية (الموسيقى) في
تأكيد هذه الذاتية, وفي التعبير عن ا لحالة الداخلية العميقة للبطلة.. كما
في زوايا الكاميرا (تصوير المنظور من زاوية مائلة وفقا لوجهة نظر جولي)
واستخدام التلاشي (Fade) حيث تختفي الصورة وتظلم الشاشة لثوان تعبيرا عن محاولة جولي الهرب
من الماضي أو الذاكرة, أو التي تمثل استرجاعات مفاجئة ومرفوضة للذاكرة.
المخرج يعطي أهمية خاصة للتفاصيل الصغيرة, وهو ينجح في توصيل أحزان واوجاع
البطلة بشكل مؤثر من خلال الإيماءات الدقيقة والصورة الموحية, وتقليب اللون
الأزرق, وبالطبع من خلال الأداء الأخاذ والمحرك للمشاعر الذي قدمته جولييت
بينوشيه. إن تحديقها في الفراغ, في الأشياء الصغيرة يمنح هذه الأشياء مغزى
ودلالة خاصة. وعندما تتلقى نبأ موت زوجها وابنتها، تختزل بالتعبير الوجهي
كل الوجع والألم والفقد.. دون مبالغة أو إفراط في التعبير. نحن أمام وجه لا
يستعير الحزن بل ينضح به.
الموسيقى ذات الطابع الكلاسيكي، والموظفة هنا بشكل درامي رائع ومغاير لما
اعتدنا عليه, تجسد صوت أو رنين الذاكرة, فعندما يجمد الحدث, وقت معاناة
جولي اوجاع ذكرى إلزامية مفروضة عليها، تأتي الموسيقى حادة, ومفاجئة وكأنها
تحاول ارغام جولي على استعادة ما تسعي الى نسيانه.الموسيقي تقتحم عالمها
باستمرار، كما لو توحي بأن جولي ربما قادرة على عزل نفسها وفصلها عن كل ما
يحيط بها، ولكنها أبدا لا تستطيع أن تتوارى وتختبيء عن ذكرياتها.
والموسيقى, من جانب آخر، يمكن اعتبارها الخيط الوحيد الذي يربط " الأحداث
", او لحالات.
الزوج الميت يترك خلفه عملا موسيقيا غير مكتمل.. كونشرتو عن وحدة أوروبا.
وثمة إيحاء بأن جولي هي ا لتي كانت تؤلف موسيقى زوجها، لكن الفيلم لا يؤكد
هذا الاحتمال,غير أنه يؤكد بأنها الوحيدة القادرة على فهم موسيقاه واكمال
العمل الناقص.. وهذا ما تفعله في النهاية.
ونكتشف بأن المقاطع الموسيقية التي كنا نسمعها طوال الفيلم ما هي إلا أجزاء
متقطعة وغير مترابطة من الكونشرتو الناقص, التي تعزف في النهاية كمقطوعة
كاملة, فيما الكاميرا تنتقل من جولي وصديقها، وهما خلف سطح زجاجي. لتظهر
الشخصيات الأخرى.. الشاب الذي شهد الحادث, الأم, المومس, المحامية, وأخيرا
الجنين.. إنها الشخصيات التي حاولت جولي أن تظل بمنأى عنها، متحررة منها،
وهي الآن تتصل بوجودها وتتوحد معا، والموسيقى هنا تعبر عن هذا التوحد
والانفتاح إنها لحظات مدهشة, مبهرة غنية بالمعنى.
العديد من الأفلام ربما تطرق الى هذا الموضوع البسيط ظاهريا لكن كيسلوفسكي
استطاع بفيلمه هذا أن يقدم عملا قويا, محركا, عميقا, ومتألقا جماليا.. فحاز
بجدارة على عدة جوائز من مهرجان فينيسيا 93 كأفضل فيلم وأفضل ممثلة وأفضل
تصوير.. إضافة الى جوائز نقاد لوس انجلوس كأفضل فيلم أجنبي وأفضل موسيقى..
الى جانب جوائز عالمية أخرى.
الفيلم الثاني من ثلاثية المخرج البولندي كر يستوف كيسلوفسكي، والذي يحمل
عنوان «ثلاثة ألوان.. الأبيض »، أنتج في العام 1993, وعرض لأول مرة في
مهرجان برلين في فبراير 1994، حيث حاز كريستوف كيسلوفسكي على جائزة أفضل
إخراج.
وهذا الفيلم لا يكمل الأول ولا يتصل به من ناحية الموضوع أو الشخصيات أو
المواقع, رغم أن جزءا من مشهد المحكمة, الذي يبدأ به هذا الفيلم, نواه بشكل
سريع وعابر في الفيلم الأول " ثلاثة ألوان.. الأزرق " حين تدخل جولي قاعة
المحكمة أثناء بحثها عن المحامية. بالتالي, فإن بوسع المتفرج أن يشاهد هذا
الفيلم كعمل منفصل ومستقل عن الفيلم الأول.
وكما أشرنا في البداية عن الفيلم الأول, فإن اللون الأبيض في العلم الفرنسي
يمثل المساواة, ولكن كيسلوفسكي وشريكه في كتابة السيناريو كر يستوف
بيزيفيتش لا يعيران اهتماما للمساواة بالمعنى السياسي أو الاجتماعي كما هو
وارد في شعار الثورة الفرنسية, إنما يهتمان بالبعد الفرداني.. فعلى الرغم
من أن بطل الفيلم كارول - المهاجر البولندي في فرنسا - يطالب أثناء نظر
المحكمة في قضية الطلاق بمساواته مع الآخرين في الحقوق, إلا أن المخرج يتجه
نحو منحى آخر،وهو القيام باستقصاء ميتافيزقي تقريبا في الالتباسات
الاجتماعية والذاتية التي يثيرها مفهوم المساواة, ويكشف التناقضات بين
الطبيعة الانسانية المرتكزة في أحد جوانبها على التنافس والدعوة الى
المساواة بين البشر. ثمة دائما تعارض بين المثل الجوهرية وكيفية تحقيقها.
إن بحث كارول عن المساواة يدفعه الى الاتجاه المعاكس, المضاد للمفهوم ذاته,
ويصبح الهم الأساسي هو كيف يحقق مكانة أكثر سموا من أي شخص آخر.
ومثلما يطغى اللون الأزرق في الفيلم الأول, يهمني البياض في هذا الفيلم.
الأبيض منتشر على امتداد الفيلم سواء عبر الأشياء أو المناظر والصور. إنه
لون الثلج, الأرضية, نفق المترو، الملاءات التماثيل. البياض هنا يوحي
بالخواء، لكنه الخواء الذي - على حد قول الناقد ديف كيهر- يمكن أن يشكل
بداية جديدة, فكل فراغ قابل للامتلاء. الخواء ليس عدميا، بل ينتظر من يملأه
ويشحنه بطاقة الحب.
تبدأ أحداث الفيلم في باريس. كارول (زاما كوفسكي) حلاق بولندي متزوج منذ
ستة أشهر من الفرنسية دومينيك (جولي ديلبي). وهي تقيم دعوى ضده طالبة
الطلاق بسبب عجزه الجنسي. بالنتيجة, هو يفقد زوجته التي يحبها كثيرا، يفقد
مهنته, سيار ته, نقوده,جواز سفره, وفوق ذلك يفقد احترامه لنفسه.
يقضي كارول أيامه متسكعا في الشوارع وفي أنفاق المترو.. جائعا وبائسا وبلا
مأوى. محاولاته للعودة الى زوجته تبوء بالفشل ويتعرض للإذلال. يلتقي برجل
بولندي, مقامر محترف, يعرض عليه مبلغا كبيرا لقاء الاجهاز على شخص يرغب في
الانتحار لكنه لا يجرؤ على ذلك (يتضح فيما بعد أن الراغب في الانتحار هو
نفسه المقامر). كارول يرفض ارتكاب القتل. تتوطد العلاقة بينهما، ويقوم
المقامر بتهريبه الى بولندا في حقيبة سفر.
في بولندا يقيم كارول عند أخيه الحلاق أيضا. ومقرر أن يعيد بناء حياته,
والا يعرض نفسه للإذلال مرة أخرى، والا يكون أقل شأنا وقيمة من الآخرين.
ويبدأ في المتاجرة بالعملات والعقارات بطرق غير مشروعة حتى يكون لنفسا
ثروة. عندئذ يخطط للانتقام من مطلقته دومينيك. ولكي يجبرها على المجيء الى
بولندا فإنه يزور وفاته ويجعل الأمر يبدو وكأن الحادث جريمة وليست وفاة
طبيعية بحيث تتهم هي بقتله. لكن عندما يزورها في السجن يكتشف بأنه لا يزال
يحبها، وتبدأ الدموع تنهمر من عينيه فيما يرنو اليها وهي واقفة خلف قضبان
النافذة تعبر بالاشارة عن رغبتها في أن تتزوجه من جديد إذا استطاع أن
يخرجها من السجن.
إن كارول يهوي في الفراغ لكنه لا يتجه الى العدم, يجتاز الجحيم اليومي لكنه
لا يحترق.. فمن رماد الفشل واليأس والخيبات ينبعث من جديد ليصعد درجات
النجاح والطموح. ومن الجوف المظلم الخانق للحقيبة المهربة يطلع الى فضاء
الوطن الواسع, ومن القبر المجازي حيث الموت المزور يخرج كالعائد الى الحياة
ليمثل أمام حبيبته ويدفن وجها في حضنها، ومن قهر العجز الجنسي ينفلت ليتحرر
ويستعيد طاقته.
الحب هو نقطة ضعفه وقوته في آن. الحب الذي جعله عرضة للخيانة والإذلال,
والذي جعله يفقد كل شيء، هو ذاته الذي طهره وغسل ذنوبه, لحظة انتصاره هي
لحظة هزيمته, وعندما يظن أنه يثأر لكرامته وحقوقه المهدورة, يكتشف أنه
واهم, وانه لا يستطيع أن يعيش بدون المرأة التي يحبها.
ثمة صورة تراود كارول وتتكرر أكثر من مرة عبر امتداد الفيلم وهي عبارة عن
فلاش باك فيه تظهر دومينيك يوم زفافها وهي تخرج من الكنيسة ليستقبلها
المدعوون ويقبلها كارول.
الصورة مغمورة بالبياض. الأبيض هنا لون البراءة والفرح, ولون الذاكرة أيضا.
انها الذكرى الحلوة التي يتشبث بها كارول, ويستعيدها، كلما غاص في اليأس
والحزن. استحضار الصورة هو تمسك بالحلم في أكثر تجلياته جمالا واشراقا
وبراءة. وعبر تكرار الصورة يتولد الإحساس بالأمل وبأن هناك شيئا يشد كارول
ولن يتركه يضيع أو يهوي نحو السديم الأخير.
إذا كانت جولي, في الفيلم الأول " ثلاثة ألوان.، الأزرق " تعيش في محيط
ذاتي، معزولة عن الآخرين, وتعاني من صراعات داخلية عميقة, فإن كارول في هذا
الفيلم - يعيش في عالم موضوعي، عدواني, وكل اتصال بالآخرين يتبعه فعل عنيف
على المستوى النفسي والمادي، إنه يتعرض للإذلال والاضطهاد والتشرد
والاعتداء، وهو بدوره يمارس العنف ضد المرأة التي يحبها فيرسلها الى السجن
ليكتشف أنها الوحيدة التي يمكن أن توفر له الراحة والطمأنينة رغم قسوتها
وبرودها العاطفي.
إن كيسلوفسكي يشير الى تخلخل النظام الاقتصادي البولندي لكنه لايهتم
بتحليله, ففي ظل نظام يسوده الهرج والاهتياج والفساد يمكن لأي متلاعب أن
يجني ثروة. وعندما يوجه كيسلوفسكي نقده لهذا النظام فإنه يتسلح بالدعابة
والسخرية.
تقنيا, يتسم الفيلم بجاذبية بصرية ومهارة عالية في المونتاج, وأداء
ديناميكي من زاماكوفسكي (أحد أكثر الممثلين شعبية في بولندا) وجولي ديلبي.
"ثلاثة ألوان... الأحمر" هو الفيلم الثالث ضمن ثلاثية كر يستوف كيسلوفسكي،
وقد عرض لأول مرة في مهرجان كان في مايو 1994.. واللون الأحمر في العلم
الفرنسي يمثل الإخاء.
أحداث الفيلم تدور في جنيف ويتمحور حول أربع شخصيات رئيسية: فالنتين (ايرين
جا كوب) طالبة وعارضة أزياء في الأوقات الاضافية. وهي مهمومة بمشاكلها
الخاصة.. خطيبها الذي يعمل خارج البلاد. في لندن تحديدا - والعلاقة بينهما
تبدو متوترة, أمها العجوز الوحيدة, وشقيقها الذي يتعاطى المخدرات.
القاضي المتقاعد (جان لوي ترينتيان) الذي فقد اتصاله بالناس وبالعالم, وعاش
في عزلة, منطويا على ذاته, شاعرا بالمرارة والنفور من ذاته ومن الآخرين في
أن.
أوجست, طالب القانون الشاب, الذي هو على وشك التخرج. يكتشف خيانة حبيبته
(كارين) فيمر بأزمة عاطفية.
كارين, حبيبة أوجست, تدير مكتبا من خلاله, وعبر المكالمات الهاتفية تقدم
خدمات عن حالات الطقس.
العلاقات في هذا الفيلم محكومة ومدفوعة بواسطة سلسلة من المصادفات
واللقاءات العرضية القائمة على الصدفة, حيث مصائر ودروب الشخصيات تتصل
وتنفصل وتتقاطع. فالنتين تسوق سيارتها ليلا وتصدم كلبة القاضي. تأخذ الكلبة
الى القاضي لكنه يطلب منها أن تأخذها أو تفعل بها ما تشاء فهو لا يريدها.
يوما ما تهرب الكلبة وتعود الى القاضي. فالنتين تذهب خلفها، وهناك تكتشف -
في ذهول واستنكار بأن القاضي يقضي أغلب أوقاته في التنصت على مكالمات
الجيران الهاتفية. لكن في موازاة النفور تشعر بانجذاب خفي الى هذا الرجل
القادر _ كما يزعم - على العيش بدون عاطفة الحب الذي يسترق السمع في محاولة
يائسة لفهم الآخرين, وبالتالي, لفهم الحقيقة.
ثمة شي ء غامض يوثق عرى العلاقة بين هذين الكائنين المتناقضين. وهذه
العلاقة بين الاثنين تضيء عدة تعارضات يهتم المخرج كيسلوفسكي بطرحها
ومعالجتها في أفلامه. العزلة والاتصال, الصدق والزيف, الشك واليقين النفور
والإنجذاب.
تدريجيا تتمكن فالنتين, بانفتاحها على الحياة وحساسيتها وما تختزنه من طاقة
هائلة على الحب, على انتشال القاضي من عزلته وجعله يهتم ويتفاعل. واذا كان
الزمن (فارق السن) يقف حائلا دون تطور العلاقة الى ارتباط عاطفي فان القاضي
يجد بديله في الشاب أوجست.
ومع أن أوجست وفالنتين يتجاوران جغرافيا، حيث يقيمان في نفس الموقع, ويحاذي
كل منهما الآخر أو يتقاطع معه, إلا أنهما متباعدان عاطفيا ولا يلتقيان ولا
يلفت أحدهما نظر الآخر.. حتى عندما نجدهما في النهاية في الباخرة نفسها
المتوجهة الى لندن. إن المخرج كيسلوفسكي، بعد أن يجعلنا نتهيأ لإمكانية
حدوث اتصال بينهما ويجعلنا نتوقع هذا اللقاء المحتوم بين كائنين تجمعهما
خيوط مشتركة ومتناغمة, يقوم بتخريب هذا التوقع ويوجهنا نحو ما هو أهم
وأعمق, نحو النظر بعين نقدية وتحليلية وساهرة لعلاقات هؤلاء الأفراد الذين
يتحركون أمامنا، والتعايش مع مصائرهم بالدرجة ذاتها من القلق والتشوش
والرجع.. وكما يقول كيسلوفسكي. " في أفلامي، الأشياء نادرا ما تقال بشكل
مباشر وصريح ".
أوجست هو صورة للقاضي في شبابه, إن حالته والتجربة التي يمر بها (خيانة
حبيبته له " تعكس بدقة مرحلة حاسمة في الماضي كما عاشها القاضي قبل أربعين
سنة والفيلم يؤكد على التماثلات بين أوجست والقاضي من خلال عدد من الوقائع
والاشارات: كلاهما درس القانون, كلاهما تعرض للخيانة, وكلاهما اجتاز امتحان
التخرج بفعل حيلة قدرية.. عندما يرمي أوجست الكتاب في غمرة ابتهاج فإن
الكتاب يقع مفتوحا على الصفحة التي تحتوي على الاجابة التي يحتاجها لاجتياز
الامتحان في اليوم التالي.. الحادثة نفسها كانت قد وقعت للقاضي قبل سنوات
طويلة أثناء امتحان التخرج.
في النهاية, تسافر فالنتين بالباخرة الى بريطانيا على أمل الالتقاء
بخطيبها، وعلى نفس الباخرة يسافر أوجست أيضا لكنهما لا يلتقيان. والباخرة
تتعرض لعاصفة وتغرق,ومن ركابها لاينجو إلا عدد قليل من بينهم نرى (كما يرى
القاضي على شاشة التليفزيون): جولي وصديقها (من الفيلم الأول)، دومينيك
وكارول (من الفيلم الثاني), فالنتين وأوجست.. هذه النهاية توحد - بشكل
مفاجيء وغامض - كل الشخصيات الرئيسية من الأفلام الثلاثة التي تشكل
الثلاثية.
ثمة صورة أخرى تتكرر في الثلاثية وتكشف طبيعة الشخصيات الرئيسية وحقيقة
دواخلها: إنها اللقطة التي تظهر المرأة العجوز وهي تسير منحنية وتحاول بجهد
وبمشقة وضع زجاجة في المكان المخصص لها.. جولي (في الأزرق) المستغرقة في
حزنها الخاص لا تلاحظ العجوز فلا تبادر الى ساعدتها. كارول (في الأبيض)
يلاحظها لكنه لا ينهض لمساعدتها ولا يكترث بها بل يبتسم ابتسامة قاسية كما
لو أنه يلمح موقفا هزليا. أما فالنتين (في الأحمر) فإنها تتوقف لمساعدتها
لأنها الشخصية الأكثر إيجابية وانفتاحا.
التليفون يلعب دورا أساسيا في فيلم " ثلاثة ألوان.. الأحمر".. الفيلم يبدأ
باتصال هاتفي والكاميرا تقتفي بحركة سريعة جدا المسار الاليكتروني لخط
التليفون, بأسلاكه المتشابكة, عبر القنوات والمجاري وتحت المحيط, حتى نهاية
الخط حيث التليفون يرن ولا أحد يرد.
كل شخصيات الفيلم تتصل ببعضها أو بالآخرين عبر التليفون: فالنتين وخطيبها
يتبادلان الأحاديث الطويلة من خلال المكالمات العديدة حيث نكتشف طبيعة
العلاقة بينهما. التليفون هو وسيلة الاتصال بين كارين وأوجست. والكيفون هو
مصدر كسب لكاوين. القاضي يقني أغلب أوقاته في التنصت على مكالمات الآخرين.
إنه مجتمع يحاول أفراده جاهدين تحقيق اتصال فيما بينهم, لكن لا يتسنى لهم
ذلك بشكل مباشر وحميمي وإنما بواسطة هذه الوسيلة الباردة.
بطلة الفيلم إيرين جا كوب (التي أدت دورين في فيلم كيسلوفسكي السابق.. حياة
فيرونيك المزدوجة) ممثلة موهوبة, جميلة, تكشف عن حساسية عالية في الأداء.
تقول: "عندما قرأت السيناريو لم أجد أي تماثل بين فالنتين وفيرونيك, لكن
حين شاهدت الفيلم وجدت ذلك التماثل.. وكان أمرا مدهشا للغاية. فالنتين
والقاضي كائنان يفصل بينهما الزمن, ولا يمكن أن يرتبطا بعلاقة عاطفية. خلال
تصوير المشاهد في منزل القاضي تلك اللحظات الحادة والمكثفة جدا، كان
كيسلوفسكي يقف بيننا ليراقبنا عن كثب ويرى كيف يتفاعل كل منا مع الآخر. كان
علينا أن نعتمد على اللحظة, لأننا لم نكن نعرف الى أين سوف يمني بنا المشهد
بالطبع كنا ندرك ما سوف نصوره وقد أجرينا بروفات, لكن حين بدأنا التصوير
غمرتنا العاطفة فجأة وكيسلوفسكي لم يكن يعيد تصوير المشاهد كثيرا، لم تكن
لديه فكرة ثابتة أو متبلورة بشأن ما يريد أن يفعله, كان ينطلق من اقتراح
ما".
إن كيسلوفسكي في ثلاثيته يطرح الأسئلة,الكثير من الأسئلة, ولا يبحث عن
أجوبة. |