* عندما كنت
في إيطاليا قررت الالتقاء بكاتب السيناريو المعروف تونينو جويرا، والتعرّف
عليه، والبحث في إمكانية التعاون بيننا. بعد خمس دقائق من دخولي شقته،
شرعنا في العمل سوياً، فقد أدركنا في الحال أننا نتحدث اللغة ذاتها، أعني
اللغة السينمائية، إذ كنت أتحدث الفرنسية التي لا يعرفها وهو يتحدث
الإيطالية التي لم أكن أعرفها، مع ذلك استطعنا أن نتفاهم على نحو تام وجيد.
لم نكن
بحاجة إلى التخاطب باللغة نفسها، فكلانا من الجنوب. أعتقد أن جميع شعوب
الحوض المتوسط لديهم أشياء مشتركة، ليس فقط بسبب الجذور القديمة المشتركة
بيننا جميعاً، نظراً لكوننا على اتصال منذ آلاف السنين، لكن أيضا بسبب
قربنا من البحر وتشابه المناخ: أبداً لا أشعر أني خارج حدود بلدي عندما
أكون في إيطاليا.
مع تونينو،
كانت العلاقة مباشرة وفورية. كان وقتها يعمل مع أندريه تاركوفسكي في كتابة
"نوستالجيا". أنا وتاركوفسكي تقاسمنا الشقة نفسها لبضعة أسابيع، شقة يملكها
مساعد المخرج الذي عمل معي في فيلم "الإسكندر" ومع تاركوفسكي في
"نوستالجيا".
كل ما كنت
أعرفه عن تونينو، في ذلك الحين، أنه شارك في كتابة سيناريوهات فلليني
وأنتونيوني، وقد عبّر تاركوفسكي عن ارتياحه وسروره بالتعاون معه، لذا طلبت
من مالك الشقة أن يرتّب لقاءً معه للتعرّف عليه.
هكذا التقيت به في مكان إقامته، ومعاً اكتشفنا أن هناك
العديد
من الأشياء التي نتقاسمها بالدرجة نفسها من العاطفة والحب.
ما أحبه في تونينو ليس فقط واقع أنه شاعر، بل أيضا ذلك الجانب الريفي،
الأرضي، الذي هو مهم بالنسبة لي.
يجب أن أوضح
أولاً أنني أؤلف سيناريوهاتي بنفسي، مع ذلك أحتاج إلى شخص آخر مهمته الكشف
عن مواطن الضعف والقصور، أو يؤدي دور المحلل النفساني أو ما شابه، وذلك
لتقديم منظور مختلف للأمور التي تخطر في ذهني. وهذا الشخص ينبغي أن يكون
أول من يسمع أفكاري غير المصقولة فنياً، وتغذيته الاسترجاعية تساعدني في
اختيار الاتجاه الصحيح.
في حالة
تونينو، أغلب الوقت هو يقوم بدور المحلل النفسي. ولا أعرف إن كان الآخرون
يعملون معا بالطريقة ذاتها التي نشتغل بها. ما إن ينتهي تنفيذ الفيلم
وأشعر بأني مستعد للعمل في فيلم آخر، حتى أمضي إلى قرية تونينو في الجبال،
فنجلس معاً ونتحدث عن أي شيء وكل شيء، نشرب معاً، ثم نخرج لتناول الغداء.
في ما بعد، فيما نجلس في استرخاء، يسألني إن كان يدور في ذهني شيء أو فكرة
أرغب في الاشتغال عليها. عند هذه النقطة، لا أزال مترددا وغير واثق. عندئذ
أشرع في الحديث، وأسرد له قصصاً مختلفة كنت أفكر فيها مليّا، وأفكاراً علقت
بخيالي، وصوراً مكثت في ذهني، لكن لا شيء منظم. أذرع المكان ذهابا وإيابا
وهو جالس يصغي إليّ. عندما يثير اهتمامه شيء ما فإنه يقاطعني ليدوّن
ملاحظته (تماماً كما يحدث مع مؤلفة الموسيقى إيليني كاريندرو).
في ما بعد،
نقوم بفحص ودراسة كل الملاحظات والأفكار التي دوّنها، ومعاً نحاول أن نرى
إن كان هناك تماسك وتلاحم في فكرة ما. أدوّن ملاحظاتي وأمضي إلى الغرفة
التي هيأها لي في شقته، وهناك أستغرق في التأمل. بعد بضع ساعات، أعود إلى
الصالة واقترح طريقة أخرى للمتابعة بعد التوقف والانقطاع. نخرج، نشرب
القهوة، نتحدث عن الاتجاه الذي اقترحته. وهو من جانبه يعرض اقتراحاته،
ويطرح الأفكار التي اشتغل عليها في فترة ما بعد الظهيرة بينما كنت أعمل في
غرفتي. هنا تأتي نسخة معدلة أخرى من الفكرة نفسها، ونستمر هكذا لثلاثة أو
أربعة أيام، متناقشين بشأن الخيارات المتعدّدة للسيناريو.. لكننا لا نشتغل
على هذا طوال الوقت، من الصباح حتى الليل، بل نخصص أوقاتاً لتناول الطعام،
والتنزه مشياً على الأقدام لفترات طويلة نلتقي خلالها بسكان القرية،
والحديث عن السيناريو.
عندما
أغادر، أحتفظ في ذهني بالمسودة الأولى. أتصل بتونينو وأتحدث معه عنها، أو
أدوّن ذلك على الورق وأرسل له نسخة، لكنه يفضّل أن يسمعني وأنا أروي له، ثم
يعطيني رأيه. بعد ذلك، أشرع في العمل مع شخص آخر. تونينو يساعد في ولادة
الفكرة الأصلية، وأحيانا يكون لحوحاً في بعض التفاصيل. على سبيل المثال،ذات
مرّة اتصل بي وأنا في اليونان، بعد أن أكملنا سيناريو "منظر في السديم"،
وقال لي: "إسمع يا ثيو، ينبغي أن نضع دجاجة في الفيلم".. سألته: "أين تريد
مني أن أضعها؟".. فقال: "لا أعرف أين. لكن أشعر بضرورة وضع دجاجة في مكان
ما".. كان محقاً في ذلك، وقد جعلت أحد مشاهد الفيلم يبدأ بلقطة لدجاجة.
الشخص الآخر
الذي أعمل معه هو قارئي الأول. في الماضي كان ثناسيس فالتينوس. في هذه
الأيام، بتروس ماركاريس. من خلاله أحصل على رد الفعل الأول تجاه السيناريو.
جزء من عمله أن يأخذ السيناريو الذي كتبته بخط اليد ليطبعه على الكومبيوتر.
حتى الآن لا أجيد استخدام ليس الكومبيوتر فحسب بل حتى الآلة الكاتبة. وهو
يرسل لي المسودة فأصححها وأضيف إليها ملاحظاتي وأرسلها ثانية إليه. هذه
العملية تستمر فترة من الوقت، ونحن نلتقي أو نتبادل عبر الفاكس المسودات
فيما هي تتقدم من مرحلة إلى أخرى حتى أبلغ النقطة التي فيها أشعر بأن
الآخرين أعطوني كل ما في استطاعتهم، عندئذ أضع اللمسات الأخيرة على نسختي.
لكن لن تجد سيناريو التصوير النهائي إلا إذا نقلت كتابياً الطبعة النهائية
من الفيلم. لو قارنت ذلك مع السيناريو الذي كتبته قبل التصوير فسوف تجد
اختلافات هائلة بينهما.
* أنا درست
السينما في معهد الإيديك بفرنسا، وهناك كانوا يعلموننا كيف نكون مخلصين
للسيناريو وملتزمين بكل تفاصيله.. حسب تقاليد هتشكوك العظيم. شخصياً، أعتقد
أن هناك هامشاً كبيرا من الإبداع من المتيسر إيجاده بين طرائق هتشكوك
والمدرسة الجودارية (نسبة إلى جودار).
*
سيناريوهاتي غالبا ما تبدو أشبه بالرواية، لكن بخلاف الرواية الأدبية
العادية، لن تجد في سيناريوهاتي أي نعت. مثلا، إذا كان هناك فتى وسيم في
القصة فإنني أحذف عبارة "وسيم" للحيلولة دون إعطاء صورة محددة للشخصية
سلفاً.
* أثناء
كتابة السيناريو، غالباً ما أعيّن حضور المؤثرات الصوتية، مثل تغريد
الطيور. حدث هذا عندما كتبت "منظر في السديم". وضعت ذلك في السيناريو، في
المرحلة المبكرة جدا، قبل أن تتكوّن لدي فكرة عن الموسيقى التي تأتي في
مرحلة متأخرة كثيرا. إن انطلاق الصغيرين في هذا الفيلم يستدعي المغامرات
الرومانسية من الماضي، وعندما فكرت في الموسيقى حضر سيزار فرانك ومندلسون.
وحالما أتخذ قراراً بشأن نوعية الموسيقى التي أريدها، تأتي مسألة اختيار
الآلة الموسيقية الملائمة.
* أكتب
جملاً قصيرة جدا. كل شخص يعرف بأني أصور مشاهد طويلة، لكن فقط شركائي في
الكتابة يعلمون بأني أكتب جملاً قصيرة.. مثل همنجواي تقريبا.
* إني أكتب
نثراً، كما في الرواية القصيرة. لا أكتب سيناريوهات بتفاصيل تقنية. في
الواقع، تستطيع أن تنشر سيناريوهاتي كنصوص أدبية. هذا ما أفعله الآن.
في السابق،
لم أكن "أكتب" على الإطلاق، بالمعنى المتعارف عليه. حققت فيلمي "الممثلون
الجوالون" بدون سيناريو.. فقط بعض الملاحظات التي تتضمن النقاط أو العناصر
الرئيسية.. كالأحداث التاريخية. لكن حتى اللحظة الأخيرة لم أكن أعرف، على
سبيل المثال، كيف أنتقل من مرحلة تاريخية إلى أخرى. هناك العديد من الأشياء
في ذلك الفيلم حققناها أثناء التصوير، أو قبل يوم من تصوير المشهد، أو قبل
ساعتين.. إنه الإلهام، الحل.
ثمة دائما
مفتاح، مفتاح يفتح المشهد، وعليك أن تجده. أحياناً لن تجده على الإطلاق. من
بين ملاحظاتي لفيلم "الممثلون الجوالون" كانت هناك ورقة بيضاء خالية، لم
أكتب فيها غير هذه الجملة "1939- 1952".. ذلك لأني ببساطة لم أعرف كيف أظهر
مرور تلك الفترة في صورة ما. أخيراً وجدت الحل قبل يوم من التصوير.
* هل تعلم
كم مسودة سيناريو أكتب للفيلم الواحد؟ خذ هذا الفيلم (الأبد ويوم واحد)
كمثال: إننا نصور المعالجة السادسة عشرة من السيناريو، ولا زلت أكتب فيما
أصوّر. إني أغيّر، أضيف، أحذف.. دون انقطاع.
* لا شك أن
الكتابة أبسط. أثناء الكتابة، وقبل كل شيء، تكون وحدك ومنفرداً بنفسك.
تستطيع أن تنسلّ في نعتٍ ما أو تزيل آخر. لكن في التصوير، كل عنصر تزيله أو
تضيفه يتطلب تفكيراً عميقا وقرارات حاسمة. وبصرف النظر عن ذلك، هناك
الوجوه، الممثلون، الأفراد، الموقع، الحالات، الإحساس بذلك الصباح
الاستثنائي.. حيث لكل لحظة من الزمن حالتها الخاصة، إحساسها الخاص.
بالطبع هناك
افتقاد للعزلة الجميلة التي تقتضيها الكتابة. أثناء التصوير تكون مكشوفاً
ومباحاً أمام كل هؤلاء الناس، فأنت لا تستطيع أن تحقق السينما وحدك. لكن
هذا يجعلك تتصل بسجايا الآخرين وشوائبهم.. هنا أنت لا تعود وحيداً. العديد
من الأشياء كانت ممكنة حين تكتب، الآن يجب أن تكون مقرّرة ومحسومة.. فوراً
ودون عون. لهذا السبب صرت أحب الكتابة. في الكتابة يمكنك أن تتخيّل كل شيء،
تخترع أي شيء، وتخلق عالماً خاصاً بك.
* جرّبت
الإعداد عدة مرات لكن في كل مرّة أتخلى عن الفكرة في منتصف العملية. من
الصعب أن تحوّل كتاباً، كتاباً تحبه بالتأكيد، دون أن تفقد شيئاً من نكهته
وخاصياته الأصلية.
لا أستطيع أن أتذكر، في السينما العالمية، إعداداً ناجحاً
لرواية عظيمة. أعتقد أن الروايات المؤهلة، على نحو أفضل، للتحويل إلى أفلام
هي تلك التي تنتمي إلى النوع البوليسي والإثاري، أو تلك الأعمال الأدبية
العادية، المتوسطة الجودة، ذات المرتبة الثانية. أورسون ويلز، على سبيل
المثال، أخذ قصة جريمة مبتذلة وصنع منها تحفة فنية بعنوان "لمسة الشر"وهناك
Touch of Evil
أمثلة أخرى من هذا النوع، بعض أفلام جودار مثلا.
بالنسبة لي،
لا أشعر الآن برغبة في تحقيق فيلم بوليسي، أو فيلم مأخوذ عن مصدر أدبي، وإن
كانت رواية أندريه مالرو "الوضع البشري" لا تزال تغويني.. إذ أدرك جيداً أن
شيئاً ما سيكون مفقوداً في حالة نقل الرواية إلى الشاشة.
|