المخرج النمساوي، الألماني المولد والنشأة، مايكل هانيكه
أحرز شهرة عالمية واسعة مع فوز فيلمه
The Piano
Teacher
بجائزة أفضل مخرج في مهرجان كان 2001، إضافة إلى جائزتين للممثلة إيزابيل
أوبير والممثل بينوا ماجيمل، اللذين قدّما أداءً رائعاً واستثنائياً.. إذ
حتى هذا الوقت، ظلت أعماله – رغم أهميتها وجدّتها – بعيدة عن الانتشار الذي
تستحقه بجدارة.
عبر أعماله
الجادة والملفتة، استطاع هانيكه أن يكرّس حضوره كواحد من أهم المخرجين
المعاصرين، وأكثرهم تناولاً لموضوعات مقلقة واستفزازية، ونقد حاد لعناصر
الميديا (التلفزيون، الفيديو، السينما) في علاقتها بمظاهر معينة في الواقع
الأوروبي الحديث: العنف، العزلة، الاستلاب، المحن الفردية والاجتماعية.
عبر أفلامه
يسبر ويتحرى الانحلال السيكولوجي والانهيار الاجتماعي، انسلاب الفرد في
الزمن الراهن، عجز الناس عن تحقيق الاتصال في ما بينهم، فقدان الطاقة على
تبادل الحب، بلوغ الشباب حالة مريعة من التوحش.
منذ
السبعينيات وهو يحقق أفلاماً، من خلالها يرسم صورة قاتمة للسلوك المدمّر
والانتحاري عند شخصيات تسعى إلى التمرد ضد أشكال من الخلل الاجتماعي الذي
يصعب إصلاحه، وهي تعبّر عن تمردها في صيغ عنيفة، صادمة، يتعذر السيطرة
عليها. هذا العنف الذي يماثل العنف السائد في المجتمع الأوروبي، من خلال
عيّنات نموذجية، تنتمي إلى الطبقة البورجوازية، وهي على شفير الانحلال
والدمار:
صبي في
المدرسة الثانوية يحطم نوافذ السيارات المتوقفة، وفي نهاية الفيلم يشنق
نفسه.
ضابط في
الجيش يقود سيارته ومعه زوجته، وعلى نحو متعمد يتجه نحو شجرة ويرتطم بها.
عائلة
مكوّنة من ثلاثة أفراد تقرر الانتحار الجماعي، وتنفّذ ذلك بعزم وهدوء في
منزلهم الريفي.
مراهق يقتل
مراهقة مصوراً عملية القتل بكاميرا الفيديو.
طالب جامعي
يصاب بسعار مصحوب بنزعة القتل، يطلق النار عشوائياً على عدد من زبائن
البنك.
* * *
العديد من
أفلام هانيكه مستوحاة من حوادث واقعية. من خلال هذه الأحداث التي يتعذر
فهمها وتبريرها، والشخصيات التي فقدت انسجامها مع الواقع، ولم تعد قادرة
على احتماله، يفضح الفنان المظهر الزائف لمجتمع يتظاهر بالاستقامة والسوية،
ويتباهى بالأمان، ويتحصن بمعايير خادعة ومضللة، فيما هو يفرّخ مختلف أشكال
الجنون والعنف والعزلة واللامبالاة والفتور.
البيت
البورجوازي، في أعمال هانيكه، يصبح الموقع المثالي الذي فيه ينتعش جنون
الارتياب وأشكال البارانويا، وحيث الكبح والكآبة وانعدام الثقة تكاد تخنق
الشخوص القاطنة/ المسجونة في هذا المكان.
ورغم
اهتمام هانيكه بالعنف الذي يمارسه المجتمع والأفراد، إلا أنه يحرص على
تحاشي تصوير مظاهر العنف على الشاشة، وعلى عدم إظهار هذا العنف على نحو
تصويري صريح، بل يلجأ إلى الإيحاء، ليظهر رد الفعل والنتيجة فحسب. العنف
يحدث خارج الكادر، كاشفاً عن تأثيره على الضحايا.. لذلك يبدو مخيفاً أكثر.
يقول
هانيكه:
"بالنسبة
لموضوع العنف، هناك عدد متزايد من الأشكال التي بها يمكن للمرء أن يقدّم
العنف، إلى حد أننا نحتاج إلى إعادة تحديد المفهوم الكامل للعنف ومصادره
ومنابته. التقنيات الجديدة، في مجال التمثيل الإعلامي (الميديا) وعالم
السياسة، تسمح بضرر أكبر وبسرعة متزايدة دوماً.
الميديا
تسهم في الوعي المشوّش من خلال هذا الوهم بأننا نعرف كل الأشياء في كل
الأوقات، ودائماً بهذا الإحساس بالبداهة. نحن نعيش في هذه البيئة حيث نظن
أننا نعرف أموراً أكثر على نحو أسرع، بينما في الحقيقة نحن لا نعرف شيئاً
على الإطلاق. هذا يدفعنا نحو تعارضات ونزاعات داخلية رهيبة، والتي عندئذ
تخلق حالة من الذعر والقلق، والتي بدورها تسبّب نزوعاً عدوانياً، وهذا
يسبّب العنف. إنها حلقة ضارية".
* * *
أسلوبياً وتقنياً، يعتمد هانيكه، اللقطات الطويلة التي
تستغرق دقائق دون قطع والتي تعطي إحساساً بالزمن الحقيقي، إضافة إلى
التلاشيات (fades)
البطيئة.
يقول
هانيكه:
"ميلي إلى استخدام اللقطة
take
الطويلة، المديدة، له ربما ارتباط بمسألة التلفزيون. التلفزيون يسرّع طرائق
وعادات الرؤية عندنا. أنظر، على سبيل المثال، إلى الإعلانات التجارية في
ذلك الوسط. كلما عُرض الشيء بصورة أسرع، ضعفت قدرتك على ملاحظته كشيء يحتل
مساحة في الواقع الفيزيائي، وتضخم حضوره كشيء مغو. وكلما بدت الصورة أقل
واقعية، ازدادت سرعتك في شراء السلعة التي تصفها. بالطبع هذا النوع من
الجمالية قد كسب سلطة وهيمنة في السينما التجارية. التلفزيون يسرّع
التجربة، لكن المرء يحتاج إلى وقت ليفهم ما يراه، ليس على المستوى الفكري
فقط، لكن العاطفي أيضاً.. وهذا شيء لا تجيزه الميديا الراهنة.
السينما ليس بوسعها أن تقدّم إلا القليل جداً مما هو جديد. كل ما يقال، قد
قيل ألف مرّة، لكن لا تزال السينما قادرة على جعلنا نختبر العالم بشكل
جديد. اللقطة المديدة هي وسيلة جمالية لإنجاز ذلك".
* * *
ولد هانيكه
في ألمانيا، العام 1942. ابن ممثليْن محترفيْن. نشأ عند عمته أو خالته في
مزرعة بالنمسا، لكنها لم تكن تنشئة ريفية. منذ مراهقته أظهر عشقاً للمسرح
والموسيقى والأدب (يتقاسم مع تاركوفسكي النظرة القائلة بأن الموسيقى
والفيلم متماثلان).
رغب في أن
يصبح عازف بيانو، لكن إدراكه لافتقاره إلى الموهبة جعلته يختار دراسة
الفلسفة وعلم النفس في جامعة فيينا. نشر مقالات عن المسرح والسينما في
الجرائد اليومية السويسرية. كما كتب وأخرج عدداً من المسرحيات قبل أن
يعمل مخرجاً في التلفزيون. كان في ذلك الحين مولعاً بالفلسفة الوجودية. وقد
أصيب بخيبة أمل في الكاثوليكية التي نشأ في كنفها، مع ذلك هو آمن، ولا
يزال، بأهمية الدين.
رؤاه الفنية والفكرية تشكّلت من خلال تعرّضه، في بداية
الستينيات، لتأثيرات المخرج الفرنسي روبير بريسون والفيلسوف والعالِم بليز
باسكال، إضافة إلى دراسته الينسينية
Jansenism،
وهو مذهب لاهوتي يقول بفقدان حرية الإرادة، وأن البشرية مقدّر لها بالفطرة
أن تعاني وتكابد إزاء اللامبالاة العدائية، الفجة، للحياة. وهي جوهرياً
رؤية تراجيدية للعالم ذات منطق يأس وقنوط يشكّل أفكار هانيكه عن الجنون
والانتحار والفتور.
كذلك تأثر
بنظرية ثيودور أدورنو الجمالية وكتاباته في الصناعة الثقافية. وتوجّه إلى
برتولت بريشت واطروحاته عن المسرح الملحمي، التي شجعته على اتخاذ موقف نقدي
من التلاعب العاطفي الناشئ من خلال سيكولوجية الشخصية وتطابق المتفرج مع
الشخصية وما يحدث أمامه. لقد نظر بريشت إلى الكائنات البشرية بوصفها
متغيّرة وقابلة للتغيير، كما اعتبر الإنسانية نفسها مادة رئيسية للبحث
والاستقصاء، لكن حصيلة ذلك لا يجب أن تكون مفروضة أو مسلّم بصحتها سلفاً.
هانيكه
أبدى تردداً في الاعتراف بتأثير بريشت، بسبب موقفه السياسي الموجّه، رغم
استفادته منه واستنباط نقد فعّال للعنف في السينما وعبرها.
وفنياً،
بالإضافة إلى بريسون، هو عادةً يشير إلى أنتونيوني وكوبريك كأسماء مؤثرة
وملهمة.
* * *
بعد تجارب متميزة في هذين المجالين، المسرح والتلفزيون، خاض
المجال السينمائي، وهو في السابعة والأربعين بفيلم "القارة السابعة"
The Seventh Continent
(1989) وهو مبني على قضية حقيقية قرأ عنها في الصحف، عن عائلة
بورجوازية، مؤلفة من رجل وزوجته وابنتهما، تختار في هدوء وإذعان تام
الانتحار الجماعي بدلاً من الاستمرار في العيش في رعب الحياة اليومية،
الخاوية والعقيمة والتي بلا معنى، داخل عالم يفرض الاستلاب والغربة على
الأفراد. إنهم يحطمون مقتنياتهم ويتخلصون من أموالهم ثم يُقْدمون على إنهاء
حياتهم بتناول جرعات مفرطة من الحبوب المنوّمة.
في مقابلة
مع المخرج هانيكه يوضح أن دافعه لتحقيق هذا الفيلم هو أن يضع لغز الحدث
الواقعي، الذي منه استمد الفيلم، في خدمة نقده للمجتمع المعاصر. الصحفي،
الذي نشر الحادثة في المجلة الألمانية الأسبوعية شتيرن، قدّم للقراء شروحات
وإيضاحات، تيسّر له الحصول عليها، بشأن سلوك العائلة، ضغوط العمل، الخلافات
الزوجية، الأزمات الاجتماعية.. الخ. لكن ليس لهذه الأسباب اهتم هانيكه
بمعالجة القصة بل لأنها تتخطى وتسمو فوق مثل هذه الاستنتاجات أو الحجج
والبراهين.
يقول
هانيكه:
"في فيلمي
(القارة السابعة) تتركّز جماليتي، في المقام الأول، على اللقطات القريبة،
والتوكيد على الوجوه والأشياء المكبّرة. من منطلق جمالي، يمكن القول بأن
الكثير من الفيلم يشبه الإعلان التجاري التلفزيوني. شخصياً لدي الكثير من
التحفظات بشأن التلفزيون، لكن رأيت أن أستفيد من أسلوبه هنا. لو حققنا
الفيلم للتلفزيون لمني بفشل ذريع، من وجهة نظري. لكن في المحيط السينمائي،
اللقطات القريبة للحذاء أو مقبض الباب تكتسب حساً مختلفاً تماماً عن
اللقطات المماثلة في التلفزيون، حيث ذاك الأسلوب هو المعيار. هذا كان
اختياراً واعياً جداً بما أنني لم أرد أن أوصّل صور الأشياء فحسب، لكن
موضوعية الحياة".
فيلمه التالي "فيديو بيني"
Benny's Video
(1992)، عن فتى مراهق ينتمي إلى الطبقة البورجوازية، ولديه نوازع إجرامية.
إنه مأخوذ بفيلم فيديو صوره عن قتل خنزير، أثناء عطلة الأسبوع، في مزرعة
والديه. يدعو فتاة متمردة إلى شقة العائلة ثم يقتلها ويصورها وهي تحتضر. مع
ذلك يخرج سالماً بعد أن تولى أبوه التغطية على الجريمة، والتخلص من الجثة
التي سوف تعرّض مهنته ومكانته الاجتماعية للخطر. أما أمه فتتكفل بإقناعه
بالسفر إلى مصر كي ينسى ويتجاوز المحنة.
بيني هو
المستهلك المثالي، إلى حد الإدمان، لأشكال الميديا – التلفزيون، الفيديو،
الثقافة الشعبية – هذه الأشكال التي يتخذها كعوامل ملهمة، مربية، محرّضة
ومشجّعة.
مع أن
الفيلم مستوحي من قصص واقعية عديدة عن عنف الشباب، إلا أن بيني ليس شخصية
حقيقية، بل يستخدمها هانيكه كوسيلة من خلالها يصوغ تحليله لعنف الميديا.
في حديث
للمخرج عن فيلمه هذا، يشير إلى أن بيني لا يعود قادراً على وضع الصورة في
علاقة ملائمة بالواقع. إنه عاجز عن التمييز بين صور العالم الواقعي والعالم
الافتراضي. هو يعرف أن الفيديو ليس هو الواقع، لكنه يفضّل الفيديو على
الواقع، يريد للواقع أن يكون مثل الفيديو.. سيكون أفضل لو تحوّل إلى فيديو.
إنه لا يرى للواقع أي معنى أو أهمية.
ويعلّق
هانيكه قائلاً: "لأننا لا نشاهد العالم إلا من خلال الميديا، فنحن في خطر
تصديق أن الواقع لا يمكن إحرازه إلا من خلال الميديا".
عن خطورة
التلفزيون على الوعي الإنساني يقول هانيكه:
"في فيلميّ
(فيديو بيني) و (ألعاب مسلية) حاولت أن أسبر ظاهرة التلفزيون. بينما في
أفلام أخرى لم يكن هذا الموضوع محورياً، مع أن موضع التلفزيون في المجتمع
يؤثر في هذه الأفلام أيضاً. أنا مهتم بالتلفزيون أكثر بوصفه رمزاً رئيسياً
في المقام الأول لتصوير الميديا للعنف، وعلى نحو عام أكثر، كفقدان جماعي
للواقع وتحريف اجتماعي. الانسلاب معضلة معقّدة جداً، والتلفزيون بالتأكيد
متورط في ذلك. نحن لم نعد ندرك الواقع، بل عوضاً عن ذلك نلاحظ تمثيل الواقع
في التلفزيون. أفقنا التجريبي محدود جداً. ما نعرفه عن العالم هو أقل مما
نعرفه عن العالم الذي يحتل موقعاً وسطاً، وعن الصورة. ليس لدينا واقع، بل
اشتقاق للواقع، والذي هو خطير جداً، من وجهة نظر سياسية وأيضاً بحس أكبر
تجاه قدرتنا على امتلاك إحساس واضح وملموس بصدق التجربة اليومية".
في فيلمه "71 شظية من يوميات صدفة ما"
71
Fragments of a Chronology of a Chance
(1994)، يوسّع هانيكه البؤرة منتقلاً من العائلة النووية إلى مجال أكبر من
الشخصيات الذين، من قصصهم غير المترابطة بإحكام، وفي مشاهد مستقلة، ينسج
المخرج بنية درامية تمكّنه من استكشاف وتحرّي التشعبات الثقافية والفلسفية
المتنوعة، المتعددة الأشكال. كما يبحث في طرائق تعامل المجتمع الأوروبي مع
الآخر، المختلف، عرقياً وثقافياً واجتماعياً.
عن هذا
الفيلم يقول هانيكه:
* قبل
سنوات، عندما كنا نشاهد، للمرّة الأولى، التقارير التلفزيونية عن الحرب في
يوغوسلافيا، كنا نشعر بالصدمة. لكن اليوم، أغلب الناس ينظرون إلى مثل هذه
التغطيات بوصفها مشاهد غير مرحّب بها، ومثيرة للاستياء. لِمَ ذلك؟ لأن
تكرار عرض مثل هذه المشاهد يبلّد الحس ويفضي إلى فتور الإدراك. هذا لا
ينطبق على الصور التي تُظهر الفظاعات والأعمال الوحشية وحدها، إنما يشمل
أيضاً كل صورة وكل معلومة.
* نحن
نوفّر المبنى ولا شيء آخر. أما تأويل الفيلم فمن مهمات المتلقي. لا ينبغي
للفيلم أن يصل إلى نهاية ما على الشاشة، بل عليه أن يغري المتفرج
بالمشاركة، ويجد مكانه في الهيكل المعرفي والعاطفي للمتفرج. إن مبدع الفيلم
يضع علامات وإشارات ومعالم في أماكن معينة، وبين هذه العلامات تتفتّح
وتتجلى إمكانية المتفرج للتخيّل والتعبير عن مشاعره.
في فيلمه "ألعاب مسلية"
Funny Games
(1997)، يصعّد من نقده لعنف الميديا، والمضامين العنيفة لألعاب الفيديو، من
طريق تقويض نوعية الأفلام الإثارية.
عائلة
بورجوازية صغيرة مؤلفة من زوجين وابنهما المراهق، يصبحون بيادق في لعبة
منحرفة وشيطانية تتحوّل إلى صراع من أجل البقاء، هذه اللعبة يفرضها ويديرها
شابان مضطربان عقلياً، لا يميّزان بين الواقع واللعب. إنهما يظهران عند بيت
العائلة الريفي النائي والمعزول بمجرد أن تصل العائلة لقضاء إجازة صيفية
هادئة. سلوكهما المهذّب، البرئ ظاهرياً، يخفي نزوعاً ماكراً ونوايا إجرامية
عنيفة. وسرعان ما تقع العائلة تحت هيمنة وسطوة هذين الشابين اللذين يمارسان
عليهم إرهاباً عنيفاً وإذلالاً متواصلاً.
عن هذا
الفيلم يقول هانيكه:
* الفيلم
هو، جزئياً، محاكاة ساخرة لنوعية أفلام الإثارة والتشويق. إنه التواء متطرف
لهذه النوعية.
العائلة
البورجوازية هنا واقعة ليس فقط في شَرَك القتلة بل أيضاً، من بعض النواحي،
في شَرَك المفاهيم والعتاد والتجهيزات البورجوازية.
* الشابان
القاتلان لا يحملان أسماء حقيقية. إنهما ينتحلان أسماء عديدة. بطريقة ما،
هما ليسا شخصيتين على الإطلاق. هما نتاج الميديا. الشاب الطويل، الذي من
المفترض أنه المخطِط، قد يُرى كمثقف لكن يتّسم بالمراوغة والمخادعة
والانحراف، هذه السمات التي تتصّل بهذا النوع من الفكر الفاشي الهدّام.
* فيلمي هذا معاكس – كمثال - لفيلم أوليفر ستون "قتلة
بالفطرة"
Natural Born Killers.
فيلم ستون، من وجهة نظري، محاولة لاستخدام جمالية فاشية من أجل تحقيق هدف
مضاد للفاشية، وهذا شيء لم ينجح الفيلم في تحقيقه. ما هو منجز شيء معاكس،
بما أن ما هو منتج فيلمٌ فيه أسلوب المونتاج يتمّم العنف المصوّر ويُظهره
بصورة عامة في ضوء إيجابي. قد يُقال أن فيلم "قتلة بالفطرة" يجعل صورة
العنف فاتنة ومغرية دون أن يتيح حيّزاً للمتفرج. أشعر أن من الصعب جداً أن
يُقال هذا عن "ألعاب مسلّية". أفلامي (ألعاب مسلية و فيديو بيني) هي أنواع
مختلفة من الفحش، بمعنى أني أردت أن أصدم وأستفز المتفرج.
في العام
نفسه، 1997، حقق فيلماً تلفزيونياً عن رواية فرانز كافكا "القصر"،
عن مسّاح أراض يأتي إلى قرية ويكتشف أن أولئك الذين التمسوا خدماته، ينكرون
أنهم أرسلوا في طلبه. إنه عن عجز الفرد في عالم تحكمه البيروقراطية
والتكنوقراط.
يقول
هانيكه:
"في 1997
كنت قادراً بالفعل على تحويل رواية كافكا (القصر)، لصالح التلفزيون
السويسري. ذلك لم يكن ممكناً، بالنسبة لي، إلا كنتيجة لنجاحي في المشهد
السينمائي العالمي. لولا ذلك لواجهت صعوبة شديدة. بالنسبة لهم، هذا العمل
ضرب من العذر أو الواجهة، شيء يتيح لهم أن يهنئوا أنفسهم به قائلين: أنظروا
كم هي رائعة نتاجاتنا".
الجدير
بالذكر أن هانيكه، رغم النقد الحاد الذي يوجهه إلى التلفزيون كجهاز إعلامي،
لم يتجنب العمل في الوسط التلفزيوني كأساس إبداعي ونموذج فني. في
التسعينيات كان يعود بين الفترة والأخرى ليحقق فيلماً تلفزيونياً مثل: "نعي
قاتل" (1991)، وفيلماً آخر، حققه للتلفزيون سنة 1997 وهو مأخوذ عن رواية
لجوزيف روث عن مصير جندي عائد في فيينا بعد الحرب العالمية الأولى.
فيلمه "شفرة مجهولة"
Code Unknown
(2000)، عن انهيار اللغة، وصعوبة الاتصال بفعل العنصرية والظلم الاجتماعي/
الاقتصادي. إنه عن الإخفاق في الاتصال في المدن الحديثة المتعددة الثقافات،
وأيضاً عن تدهور إحساس الناس بالواقع.
الفيلم، كما الحال مع بعض أفلامه السابقة (القارة السابعة،
71 شظية) مؤلف من بناء سردي يعتمد على أجزاء أو شظايا قصيرة.. وعن السبب في
اختياره لبناء الفيلم كسلسلة من الأجزاء غير المترابطة، يقول هانيكه: "هذه
تقنية فنية تهدف إلى إظهار أن إدراكنا الحسي هو متشظ وغير متماسك. في
السينما السائدة، يتظاهرون بعرض كليّة الواقع، لكنها مجرد شظايا".
هذه
الشظايا تدور حول العلاقات بين سكان المدينة، المنتمين إلى جنسيات وأعراق
وطبقات مختلفة، وكيف أنها مبنية على تسوية الخلافات بطريقة تتسم بالفتور أو
اللامبالاة أو سوء الفهم.
في حديثه
عن "شفرة مجهولة"، يقول هانيكه:
* في
المشهد الأول من الفيلم، ثمة تناقض في ما يحدث للأفريقي عندما يتدخل ليدافع
عن الشحاذة الرومانية. المساعدة هي إيماءة إنسانية لكن العواقب تكون سلبية.
إني أحاول إظهار أن الحياة مليئة بالغموض، وصانعو الأفلام ليسوا هناك
لتقديم النصيحة بل لطرح الأسئلة الصحيحة.
* فيلمي
يتألف غالباً من مشاهد ساكنة، وكل لقطة من منظور واحد فقط، وذلك تحديداً
لأنني لا أريد أن أخدع الجمهور وأتلاعب به، أو على الأقل إلى أصغر درجة
ممكنة. بالطبع، أي فيلم يقوم دائماً على التلاعب، لكن إذا كل مشهد عبارة عن
لقطة واحدة فقط، فعندئذ أعتقد أن هناك على الأقل إحساساً بالزمن هو أقل
عرضة للتلاعب حين يحاول المرء أن يمكث قريباً من نطاق الزمن الحقيقي. إن
اختزال المونتاج إلى الحد الأدنى هو أيضاً ينزع إلى تحويل المسؤولية ثانيةً
إلى المتفرج حيث الاحتياج إلى تأمل أكثر. وراء هذا، طريقتي هي حدسية جداً.
* في
الفيلم نجد أن الإخفاق في الاتصال يتم على كل المستويات: العائلية،
الاجتماعية، السياسية، والعلاقة بين الأفراد. الفيلم يستجوب ما إذا الصورة
تنقل المعنى. كل شخص يعتقد أنها تفعل ذلك. الفيلم أيضاً يستجوب الغرض من
الاتصال، وكذلك ما يكون ممنوعاً وما يتم تجنبه في عملية الاتصال. الفيلم
يحاول أن يقدّم هذه الأسئلة في نطاق واسع.
* أحاول في
أفلامي، قدر ما أستطيع، أن أصور الوضع كما أراه دون مهادنة أو تضليل، لكن
بفعل ذلك أنا أقر المفهوم القائل بأن الاتصال لا يزال ممكناً، وإلا ما
أمكنني فعل هذا. أنا لا أستطيع أن أحقق أعمالاً كوميدية عن هذه الموضوعات،
لذلك تبدو أفلامي كئيبة وقارسة حقاً.
في فيلمه
"مدرّسة البيانو" (أو: عازفة البيانو) (2001)، المأخوذ عن رواية
الكاتبة النمساوية إلفريده يلينيك، الصادرة في العام 1983، يسبر نفسية
شخصية مركّبة، بلا روابط اجتماعية ولا ميل إلى ممارسة متع الحياة. هي حية
لكنها لا تعيش حياتها كما ينبغي. محكومة بالرتابة والخضوع. إنها إيريكا،
(إيزابيل أوبير) مدرّسة الموسيقى. في الأربعين من عمرها. وهي أسيرة رغبات
غريبة، تعاني من الكبت العاطفي والجنسي، ومن استبدادية أمها، التي تعيش
معها. وهي لا تختبر الاتصال الحسي إلا عبر محلات البورنو حيث تمارس فعل
التلصص، وبعد ذلك من خلال علاقة جامحة، معقدة، وموجعة مع تلميذ شاب، تختبر
فيها نوازعها المازوشية التي ترعب الشاب فيبتعد عنها.
الفيلم
يتحرّى الحالات العصابية لهذه المرأة المكبوتة بعمق، التي تنطلق
حثيثاً نحو تدمير الذات. وبحسب مايكل هانيكه، فإن غياب التبرير السيكولوجي
هو الذي جذبه إلى الرواية.
الفيلم
يتضمن تحليلاً مركّباً للعائلة وسياسة الكبح، كما يقدمّ تأملاً في الصلات
التي تربط الفن بقوى الكبت، وذلك من خلال عازفة بيانو (إيريكا)، في منتصف
العمر، عزباء وتعيش مع أم نزّاعة إلى التملك على نحو ميئوس منه، فيما
والدها يحتضر في مصح عقلي.
إيريكا غير
قادرة على تحقيق اتصال مع العالم الاجتماعي/ الجنسي إلا من خلال التلصص
والميول المازوشية، حيث تجد لذّتها في إيذاء وجرح نفسها.
عن هذا
الفيلم يقول هانيكه:
* في فيلم
"مدرّسة البيانو" يتعيّن على المرء أن يفهم بأنه يشاهد حالة نمساوية جداً.
فيينا هي عاصمة الموسيقى الكلاسيكية، وهي بالتالي مركز شيء استثنائي جداً.
الموسيقى جميلة جداً لكن، مثل المحيط أو البيئة، يمكن أن تصبح آلة للكبح
والقمع، لأن هذه الثقافة تتخذ وظيفة اجتماعية تضمن الكبح، خصوصاً فيما
الموسيقى الكلاسيكية تصبح مادة للاستهلاك. بالطبع يتوجب عليك أن تدرك أن
هذه القضايا ليست مجرد موضوعات لسيناريو الفيلم، إنما هي أيضاً من اهتمامات
رواية إلفريده يلينيك، حيث للأنثى فرصة، وإن كانت صغيرة، لتحرّر نفسها
كفنانة فقط. هذا لا يتحقق، بالطبع، بما أن براعتها الفنية تنقلب ضدها من
بعض النواحي.
* الأغنية
السابعة عشر لشوبيرت تحتفظ بمكانة محورية في الفيلم، ويمكن النظر إليها
كشعار لإيريكا والفيلم نفسه. المجموعة كلها تؤسس فكرة إتباع طريق لم يسلكه
الآخرون. وأظن هذا يعطي للفيلم تأثيراً تهكمياً. من الصعب الجزم بأن هناك
ارتباطاً، تعالقاً، بين إيريكا وما يسمى بالرسم النفسي لموسيقار عظيم مثل
شوبيرت. لكن بالطبع هناك إحساس حاد بالحِداد عند شوبيرت والذي هو جزء أساسي
من بيئة الفيلم. شخص لديه مشكلات هائلة، كالتي تحملها إريكا، قد يُسقطها
على فنان له حساسية شوبيرت المركّبة جداً. لا أستطيع أن أعطي تأويلاً أبعد.
الموسيقى العظيمة تسمو فوق المعاناة إلى ما وراء الأسباب المحددة، إنها
تسمو فوق التعاسة حتى في الوصف المفصل للتعاسة. كل الأعمال الفنية الهامة،
خصوصاً تلك التي تهتم بالجانب المظلم من التجربة، على الرغم من أي يأس
توصّله، تتخطى قلق المحتوى في تحقّق الشكل.
* شخصية
التلميذ فالتر كليمر مصوّرة في الرواية على نحو سلبي أكثر مما في الفيلم.
الرواية مكتوبة بصيغة ساخرة جداً. الرواية تحوّله من أحمق غرّ وصبياني إلى
وغد فاشيّ، بينما الفيلم يحاول أن يجعله أكثر جاذبية وإثارة للاهتمام. في
الفيلم "علاقة الحب"، التي هي ليست مركزية في الرواية، تكون متضمنة أكثر في
علاقة الأم – الابنة. فالتر يقدح الكارثة فحسب. في الرواية، فالتر هو
بالأحرى شخصية ثانوية والتي كانت تحتاج إلى تطوير يساعدها على أن تكون
موضعاً معقولاً أكثر للكارثة.
* هنا أردت
قبل كل شيء أن أصف المحيط البورجوازي، وأن أثبّت العائلة بوصفها خليّة
مفرّخة لكل التعارضات والنزاعات. لقد أردت دائماً أن أصف العالم الذي
أعرفه، وبالنسبة لي فإن العائلة هي ميدان الحرب المصغّرة، الموقع الأول لكل
حرب. عادةً المرء يربط الموقع السياسي – الاقتصادي الأكبر بالصراع أو
الحرب، غير أن الموقع اليومي للحرب في العائلة يكون مهلكاً، بطريقته
الخاصة، بالقدر نفسه، سواء بين الآباء والأطفال أو الزوجة والزوج. لو بدأت
في سبر مفهوم العائلة في المجتمع الغربي فسوف لن تقدر أن تتجنب الإدراك بأن
العائلة هي منبت كل التعارضات والنزاعات. لقد أردت أن أصف هذا بطريقة
مفصّلة قدر الإمكان، تاركاً للمتفرج حرية الاستنتاج.
السينما
كانت تميل إلى إغلاق موضوعات كهذه مرسلةً الناس إلى بيوتهم وهم في حالة رضا
واطمئنان، بعد إشباع رغباتهم. بينما هدفي هو إقلاق وزعزعة المتفرج، وانتزاع
أي مؤاساة أو رضا عن الذات.
* بخصوص
الجنس في "مدرّسة البيانو" أود أن يذكرني الناس لتحقيقي شيئاً فاحشاً لكن
ليس فيلماً بورنوغرافياً. في تعريفي الخاص، أي شيء يمكن اعتباره فاحشاً
ينطلق من المعيار البورجوازي. سواء أكان معنياً بالشهوة الجنسية أو العنف
أو قضية تابو (محرّمة) أخرى، فإن أي شيء ينحرف عن المعيار هو فاحش. بقدر ما
الحقيقة تكون دائماً فاحشة، آمل أن تحتوي أفلامي كلها على الأقل على عنصر
من الفحش.
على نحو
مغاير، البورنوغرافيا هي النقيض، ذلك لأنها تصنع مما هو فاحش سلعة تروّجها،
وتجعل ما هو غير عادي شيئاً قابلاً للاستهلاك، والذي هو مظهر مخز وفضائحي
حقاً من البورنو. إنه ليس المظهر الجنسي بل المظهر التجاري للبورنو الذي
يجعله منفراً ومثيراً للاشمئزاز.
أظن أن أي ممارسة فنية معاصرة هي بورنوغرافية إذا هي تحاول
أن تضمّد الجرح، إن جاز التعبير، والذي هو يعني الجرح الاجتماعي والنفسي.
يبدو لي أن البورنوغرافيا لا تختلف عن الأفلام الحربية أو الأفلام الدعائية
من حيث أنها تحاول أن تجعل عناصر الحياة، العميقة أو الرهيبة أو
الانتهاكية، قابلة للاستهلاك. إن الأفلام الدعائية (البروباغندا) هي
بورنوغرافية أكثر من الفيلم البيتي
home video
الذي يظهر رجلاً وامرأة يمارسان الجنس.
فيلمه "زمن الذئب"
Time
of the Wolf
(2003) عن عائلة صغيرة مؤلفة من رجل وزوجته آن (إيزابيل أوبير) وبنت (14
سنة) وابن (10 سنوات) تتجه ليلاً إلى الريف لقضاء العطلة في البيت الريفي،
لتكتشف أنه محتل من قِبل عائلة نازحة. الرجل يُقتل، وآن تهرب مع ابنتها
وابنها إلى قرية مجاورة لكنها أمست مهجورة. يبدو أن كارثة ما، غامضة، قد
حلّت. عنوان الفيلم يشير إلى الوقت الذي يسبق نهاية العالم.
الشاشة، في
الساعة الأولى من الفيلم، مغمورة بالظلام والالتباس والارتياب. مع طلوع
النهار، يبدأ الفيلم في استعراض السلوك الإنساني الغريب والمعقّد. الحدث
الكارثي قد أفضى إلى خفض حصص توزيع الطعام والشراب (ما يشبه المجاعة،
ونقصان مخزون الماء). صبي مراهق وحيد يساعد العائلة. يصلون إلى موقع تتحكم
فيه عدد من القوى. إنه مجتمع يحاول أن يستعيد عافيته وتأسيس نفسه من جديد
ضمن الإمكانيات المتواضعة المتاحة له وضمن واقع قريب من الحالة البدائية.
الفيلم
يقدّم صورة مخيفة عن مستقبل محتمل، دون أن ينتمي إلى نوعية الخيال العلمي.
وكالعادة، هانيكه لا يهتم بتصوير العنف بل يجعله يحدث خارج الشاشة:
عن هذا
الفيلم يقول هانيكه:
* منذ أن
كتبت سيناريو الفيلم قبل عشر سنوات، لم يتغيّر النص على الإطلاق. الشيء
الوحيد الذي تغيّر هو أنه في الأصل كان سيستغرق ثلاث ساعات. في الساعة
الأولى كانت الأحداث تدور في عاصمة أوروبية غير معروفة، غير محدّدة، حيث
الأشياء تبدأ تتجه على مهل نحو اتجاه خاطئ. هناك مشكلات لا نفهمها جيداً:
المياه لا تصل والكهرباء تتعطل. الأحداث من المفترض أن تدور في منطقة خاصة
بالأثرياء كالتي تجدها في المدن الأمريكية، وهي معزولة وتحت حماية البوليس.
بعد ذلك،
تقرر إحدى العائلات الذهاب إلى بيتها الريفي. في الواقع، الفيلم المنفّذ
يبدأ من هنا. بعد 11 سبتمبر 2001، شعرت بأنه لم يعد ضرورياً شرح هذا
البناء. إنه الآن شيء قابل للفهم والتصوّر بسهولة أن نواجه كارثة شبيهة في
أي وقت.
* الخطورة
التي تمثلها نوعية أفلام الكوارث في هوليوود نجدها في المبالغة، في جعل
الكارثة تبدو جذابة، شيء نستطيع أن نستمتع به لأنه غير واقعي تماماً.
إن عملي
يتألف من محاولة الوصول إلى الناس على المستوى العاطفي، رافعاً مستوى تطابق
الجمهور إلى أعلى ما أستطيع بتفادي الأسلبة الصريحة أو المبالغة.
الكثير من
الأفراد تحدثوا عن تلك المشاهد العديدة من الفيلم، التي يغلفها الظلام
التام على الشاشة.. تفسيري البسيط هو أن المشاهد تدور في الليل، في ريف
محروم من الكهرباء، بالتالي لابد أن تكون معتمة جداً. والجمهور يتفاعل في
الظلام بطريقة مختلفة تماماً. إذا جاء شخص ما نحوك في شارع مضاء على نحو
ساطع، فسوف يتجاوزك ببساطة ويمضي في حال سبيله. بينما الشخص نفسه، القادم
نحوك في الظلام، سوف تراه من زاوية مختلفة، باعتباره يشكّل لك تهديداً.
باختزال إضاءة الفيلم إلى الحد الأدنى، أنت تتيح للمتفرج أن يختبر هذا
القلق والخوف.
* بناء
الفيلم ينشأ من خلال اتباع الطريقة التي بها الأفراد يستجيبون إلى مثل هذا
الوضع.
* قرأت عددا من روايات الخيال العلمي، ليس الكثير.. عشرة
كتب طوال حياتي. وشاهدت الأقل من أفلام الخيال العلمي. أحببت فيلم
Blade
Runner،
وبالطبع "سولاريس" لتاركوفسكي، وإن كنت لا أعتبره من أفلام الخيال العلمي،
بقدر ما أنظر إليه كفيلم مجازي. لست من المعجبين بهذه النوعية من الأفلام
لأن الغالبية منها هي غبية فعلاً.
لا أعرف عن
هذه النوعية من الأفلام ما يكفي لكي أكون قادراً على تجنّب المشكلات التي
قد تطرأ أثناء تحقيقي لفيلم "زمن الذئب". وأنا لست مهتماً كثيراً بصنع فيلم
خيالي علمي.
فيلمي هو
عن المجتمع المعاصر. في الوقت الراهن، نسبة كبيرة من الجنس البشري تعيش في
أوضاع أسوأ بكثير مما هو مصوّر في فيلمي. الشيء الوحيد الذي فعلته هو أنني
أخذت تلك الأوضاع المعيشية ونقلتها إلى منطقتنا الجغرافية.
الكوارث
والنكبات، بالنسبة لنا، هي أمور تحدث في مكان آخر وليس عندنا. لذلك فإن هذا
ليس فيلماً معداً للعالم الثالث، لأنهم ليسوا بحاجة إلى رؤيته، إنه مصنوع
للأمم الغنية.
* في كل
أفلامي، أضع الممثلين في أوضاع وحالات صعبة. لست من المولعين بالبروفات
التي تستغرق وقتاً طويلاً. من خلال تجربتي، اكتشفت بأن البروفات تؤدي إلى
التقليل من التلقائية. لقد عملت لسنوات عديدة كمخرج مسرحي، وهناك كانت
البروفات تستغرق وقتاً طويلاً، لكن حين يتعلق الأمر بتحقيق فيلم فإنني
أفضّل أن أعمل على حل المعضلات في الموقع.
في 2005 حقق فيلم "المخفي"
Hidden.
ثم قدّم
"ألعاب مسلية"
(2007)، النسخة الأمريكية، بالعنوان نفسه، من الفيلم الذي أخرجه في
1997. وهذه النسخة من تمثيل نعومي واتس وتيم روث. ويبرر هانيكه إعادة تنفيذ
الفيلم بأن النسخة الأولى كانت ردة فعل تجاه نوع محدد من السينما الأمريكية
العنيفة، لكن فيلمه – الناطق بلغة أجنبية – لم يصل إلى الجمهور الأمريكي
الأوسع. وربما هو أصر على إخراج الفيلم بنفسه ليضمن عدم تحويله إلى فيلم
هوليوودي بجعله عنيفاً على نحو صريح أو بابتكار نهاية سعيدة للفيلم.
أما آخر
أفلامه "الشريط الأبيض" (2009) فقد حاز الجائزة الكبرى (السعفة
الذهبية) في مهرجان كان 2009. كما حاز على جوائز أكاديمية السينما
الأوروبية كأفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل سيناريو، وجائزة مهرجان شيكاغو
كأفضل فيلم أجنبي. فيه يستكشف الفيلم جذور الإرهاب النازي عبر قصة رعب ترصد
الحياة في المناطق الريفية في ألمانيا سنة 1913، قبل نشوب الحرب العالمية
الأولى، وتفصل مساوئ أسلوب التربية شديدة القمع الذي كان سائداً في بداية
القرن العشرين.
المصادر:
Cineast, Spring 2007
Cineaste,
Summer 2003
sight & sound, oct. 2003
نشر على حلقات في جريدة الوطن البحرينية ـ في يناير
2010
|