زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان برلين السينمائي الدولي الـ 73

الـ"برلينالة" الـ73... الحرب تهزّ أركانها وحشد نسوي في مسابقتها

بقلم: زياد الخزاعي

 
 
 
 

طالت حرب أوكرانيا وتداعياتها أوجه الحياة في أوروبا والعالم. الغلاء في كلّ مكان، ومهرجان برلين السينمائي ضحيَّة أخرى. إدارته التي قررت العودة الكاملة الى الحضور الشخصيّ للضيوف والجمهور بعد "انحسار الوباء" واغلاقاته، لا تريد الخوض في الهزّة التي إخترقت كيانه المالي وأمان داعميه، ودفعت بالحكومة الى تخصيص دفعة تمويل استثنائيَّة له.

الكرم خف وإنَّ لم ينقطع. التّعويل على السوق الدولي للفيلم ومردوداته أكثر من خائب، ذلك أن الآسيويين المثقلين بهزائم جائحة الكوفيد على مدى السنوات الثلاث الماضية ما زالوا يفضّلون تقنيات "الزووم" لتصريف أشرطتهم وعناوينها، فيما اهتمامهم الأول هو ما سيتمّ في أروقة السوق النافذ دولياًّ في "كانّ" الفرنسي في مايو المقبل، على منوالهم ابتعد الأميركيون أيضا، وليس ثمَّة مشاركات من استوديوهات بيفرلي هيلز في البرمجة الأساسية، ما عدا تكريم المخرج ستيفن سبيلبيرغ وشريطه الأخير الموغل بحكايته العائليّة "آل فايبلمان" (2023)، إضافة الى تنافس فيلم مواطنه (المستقل) مات جونسون "بلاكبيري"على جائزة "الدبّ الذَّهب" المرموقة حول أول هاتف ذكيّ في العالم، والذي اكتسح الأسواق العالمية بثورة عارمة ومبيعات قياسية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قبل أنْ يواجه زوالاً كارثيّاً!. المشاركات الأميركيّة المتوفرة في البرمجة الرسميّة في الغالب مدعومة من منتجين مستقلين (رئيسة لجنة التحكيم هي الممثلة الشابة كريستين ستيوارت)، ومنها فيلم الإفتتاح "أتت إليّ" للمخرجة ربييكا ميللر (زوجة الممثل الإنكليزي دانيال دي ـ لويس) من تمثيل آن هاثاوي وبيتر دينكليج، عن موسيقار أوبرا ذائع الشهرة يعاني من صعوبة إنجاز نصّ موسيقيّ يُشكل عودة شهرته، قبل أنَّ ينطلق في البحث عن إلهام بشتّى الطرق. هناك الشريط الوثائقي "قوّة عظمى" للممثل والمخرج شون بين عن أوكرانيا وحربها، و"ماندوروم" (95 د) للجنوب أفريقي جون ترينغروف مع جيسي آيزنبيرغ وأدريان برودي حول شاب مهووس بكمال الأجسام، يقوده شغفه الى فقدان وظيفته وحبَّه وسعادته. ونذكر باكورة المخرجة تينا ساتر "واقع"، وعمل زميلها داستن غي ديفا "البالغون"، وكذلك جديد مواطنهما براندون كرورنبيرغ "إينفينتي بول".

******

صحياً، ألمانيا ما زالت على لائحة البلدان "المريضة بكوفيد"، وهناك أخبار عن إنتشار أنواع جديدة من عصيَّات خارقة في مقاطعات عدَّة في البلاد. تتكم السلطات عنها كونها لم تصل الى حدود الوباء. وضعت الـ"برلينالة" لوائح ومناشدات بشأن الحميات الصحية، وإن لم تكن إلزاميّة كما في السابق، وحافظت على نظام حجز التّذاكر عبر منصَّة ألكترونية، منعا للتَّجمهر والإختلاط، الأمر الذي يُفقدها واحدة من أكثر معالمها إثارة للحماسة، والمتمثّلة بطوابير الرواد أمام شبابيك التذاكر ومنذ ساعات الصباح الباكر، وهي ظاهرة أراها شخصياً التوكيد على شعبيَّة المهرجان والسينما وفرادة سحرهما.

يتهافت أهل برلين على الشّاشات ليتفاعلوا مع أفلام أجنبية، وينجذبون الى حكايات شعوب بعيدة، وينتصرون الى شباب سينمائيّ لا يجادلون حول أصله أو منبته. الأولوية دائما الى السينما، لذا كانت جائزة الجمهور الأكثر جماهيريّة والأكثر سطوعاً بيد أنَّ إغلاق المجمعين الرئيسين في محيط بودستامر حيث فعاليات المهرجان وعروضها، أجبر إدارة الـ"برلينالة" على تقليص عدد الأفلام في الخانات الموازية للمسابقتين الدولية و"لقاءات"، ما انعكس بشدة على برمجة الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير 2023)، وتوزعت عروضها على صالات وسط العاصمة بعيداً عن ميدان مارلين ديتريش وقصر السينما وبساطه الأحمر وحشودهما.

معضلة أخرى تواجه الـ"برلينالة" تتعلّق بالطّاقة إثر القرارات السياسيّة الأوروبيّة بمقاطعة الغاز الروسي إثر اجتياح قوات موسكو أوكرانيا، ما ضاعف من مستويات التّضخم الى حدود قياسية مع إرتفاع أسعار جنونيّ للبضائع الحيوية. رغم هذا يقول رئيسا المهرجان الثنائي كارلو تشاتريان ومارييت ريسنبيك إنهما عازمان على "تحفيز الناس على العودة الى السينما وتجربة مشاهدة الأفلام جماعياًّ". قد يكون هذا الكلام أقرب الى رهان عاطفي، غير أن الأزمة المالية جليّة ومدمرة. لا ريب أنَّ الجمهور سيكون حاضراً لكنّه لن يصل الى معدلات ما قبل الكوفيد. تعني أزمة الطّاقة إعادة التفاوض بأوجه النشاط المجتمعيّ، والسينما واحدة من أكثرها تعرضاً للاختراق. الانكفاء عن عروضها ظاهرة عالميّة لن تعود الى مستوياتها القديمة. الضرر عارم والخسائر باهظة. الحاسم أنّ روتين الـ"برلينالة" الحماسي تم إضعافه على أصعد متداخلة، من مواقع العروض الى دوائر الخدمات الفنيّة واللوجستيكيّة، وإنتهاء بالفنادق والمطاعم والمقاصف.

الـ"برلينالة" في قلب حرب خطرة وقابلة للتَّوسع نوويَّاً. يناور أقطابها بعضهم كأوغاد على نصر لن يتحقّق. رفعت إدارة المهرجان ألوان العلم الأوكرانيّ على علامات بضائعه، هم يرونها تآزراً، وأخرون يعتبرونها نفاقاً لحرب بالوكالة، ضحيتها في المقام الأول مدنيّو أوكرانيا. ليس هذا وحسب بل رفعت هذه الإدارة من شعارات مناصرة للإحتجاجات في إيران تحت عنوان "الوقوف بقوَّة أكبر مع قيم الديموقراطية" حسب بيانها الصّادر في 13 أكتوبر 2023، وأعلنت عن مواقف داعمة لمخرجين سينمائيين تم إعتقالهم على خلفية إنخراطهم في الإحداث هناك، ومنهم صاحب "البالون الأبيض" (1995) جعفر بناهي، ومخرج "رجل شهم" (2017) محمد رسول أف، وزميلتهما الممثلة الناشطة ترانه عليدوستي التي تألقت في تحفة مواطنها علي روستائي "ليلى وأخوتها" (2022). الى ذلك أعلن "صندوق الفيلم الدولي" (دبليو سي أف)، وهو ذراع ماليّ لدعم الإنتاج السينمائي عالمياً، وبرنامجه مشهود بتنوّع لافت، وإختيارات صائبة عموما في إكتشاف مواهب من بلدان العالم الثالث ومنها إيران، عن تخصيص يوم لتسليط الضوء على صناعة الفيلم فيها ومقاربة "الصراعات التي يواجهها صانعو الأفلام الإيرانيون داخل وخارج البلاد" حسب بيان الصندوق. هناك خطط لوقفات تضامنيَّة خلال المهرجان (حدث شبيه لها خلال أعوام سابقة)، ومثلها "تسليع" حضور ومشاركة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينيسكي ربما في ليلة الإفتتاح، ومخاطبة جمهورها عبر إتصال فضائيّ!، أسوة بما أقدم عليه فريق تييري فريمو يوم إفتتاح الدورة الماضية لمهرجان "كانّ". 

 
 

إذن، الدورة الـ73 هي رهان بقاء جماهيريّ أكثر منه إستقطاباً لسينمات تملك المال والوجاهات وقوَّة التنافس، وسيكون من المثير متابعة سوق الأفلام الأوروبية وصفقاته، والذي رفع هذا العام شعاراً حماسياً هو "لنجتمع معاً"، على أن تكون سينمات دول البلقان (أستونيا ولاتفيا وليتوانيا) هي مركز تحيته الخاصة. يشيّع المدير الجديد لـ "إي أف أم"  دينيس روث في أحاديثه الصحافيّة تفاؤلاً بشأن المشاركات التي يورد بعض أرقامها الى مجلة "ديدلاين" الأميركية (26 يناير 2023) على النحو التالي: "منذ 23 يناير، حجز 519 عارضاً من 59 دولة منصاتهم مسبقاً، منهم 128 للمرة الأولى، وسجل 6636 مشاركاً بشكل فردي قدموا من 128 دولة، فيما سجل 1143 أخرون أنفسهم كمشترين. ومن المقرر تقديم ما مجموعه 691 فيلماً، منها 524 كعروض عالمية أولى، ستستقبلها شاشات 1000 عرض سينمائي داخل قاعات السوق، بينما سيكون 442 منها متصلاً بالإنترنت، و307 أخرى متاحة للمشاهدة عبر خدمات الفيديو بالطلب". تبشّر هذه الأرقام بخير، لكن السؤال يبقى ملحاً: هل ستنتهي هذه الباقات الى دور العرض أم الى منصات المشاهدة التي اكتسحت كل شيء، وهدّدت بلا هوادة قوّة الصالات، و"خطفت" أعداداً تتضاعف يومياً من "مشاهدي البيوت"، كما هو الحال مع "نيتفلكس" المزهوَّة بـ 231 مليون مشارك في الكون الإفتراضي!.

******

على صعيد المسابقة الرسميّة، قال تشاتريان إن اختياراته قامت على سياسة تمزج بين "سينما مخضرمين أمثال الألمانيّين مارغريت فون تروتا (وفيلمها الجديد "أنغبور باخمان")، وكريستيان بيتزلود (وجديده "نار" أو "سماء حمراء")، والفرنسي فيليب غاريل (وأخر أعماله "المحراث")، والأسترالي رولف دي هير (وشريطه "البقاء للرأفة")، الى جنب أشرطة من صانعيّ أفلام شباب أو أفلام أبطالها من الشباب. لقد حاولنا أيضاً أن نكون انتقائيين قدر الإمكان، حيث دعونا أفلاماً لا تجد عادةً مكاناً في المسابقات الرسمية مثل الرسوم المتحركة أو النصّ الوثائقي. السينما هي شكل فنيّ خاص يعكس حالات مجتمعاتنا، وبعد عامين من الاضطراب اعتقدنا أنه سيكون من الرائع أن نبدأ من جديد، ونتبنّى الخطابات التي يمكن أن تقدمها السينما".

فيلما الأنيميشن التي قصدهما هما "سوزومي" (122 د) للياباني ماكوتو شينكاي، وهو فيلم مغامرات فانتازيا، يصوّر فتاة في المدرسة الثانوية وشاب غامض يحاولان منع سلسلة من الكوارث في جميع أنحاء البلاد. أما " كلية الفنون 1994" (118 د) للصيني ليو جيان، فتجري أحداثه "في حرم الأكاديمية الصينية الجنوبية للفنون في أوائل التسعينيات، والذي يضم مجموعة من الطلاب العالقين بين التقاليد والحداثة، حيث يتشابك الحب والصداقات مع مساعيهم الفنيّة ومثلهم العليا وطموحاتهم".

وعلى منوال الفيلم الوثائقيّ للألمانية ماريا سبيث "السيد باخمان وصفه الدراسي" (الدبّ الفضي وجائزة الجمهور ،2021)، يعرض هذه المرَّة شريط الفرنسي نيكولا فيليبر "عن أدمانت" (109 د) حول مركز رعاية فريد من نوعه، مكوَّن من مبنى عائم. يقع على نهر السين في قلب باريس، ويستقبل البالغين الذين يعانون من اضطرابات عقليّة، ويقدم لهم الرعاية، ويساعدهم على التّعافي أو الحفاظ على معنوياتهم. في وقت يجتهد الفريق الذي يديره في مقاومة تدهور الطب النَّفسي ومحاولات تجريده من إنسانيَّته قدر الإمكان. يقابل صانعو الفيلم طاقم المركز ومرضاه الذين يتشاركون في اختراع حيواتهم يوماً بعد يوم".

من أفلام الشباب، هناك حشد من المخرجات النساء  في المسابقة، إذ تتنافس كل من الكاتبة المسرحيَّة الكنديّة الكوريّة الأصل سيلين سونغ وباكورتها "حياة ماضية" (105 د) التي نالت إشادات نقديَّة بعد عرضها في مهرجان "صَندانس" الأميركي حول علاقة ودّ منذ الطفولة بين شابة وزميلها، تقطع أقدار مريرة أواصرها، قبل أن يلتقيا ثانية بعد 12 عاماً ولبضعة أيام مصيريَّة خلال زيارة الأخير الى نيويورك. ليكتشفا أنَّهما مازالا مقيَّدين بعلاقة حزينة ماضية، رغم أنَّ حياتهما تغيَّرتا بشكل حاسم". وزميلتها المكسيكيَّة ليلى أفيليز التي تحتفي في عملها الروائيّ الثاني "طوطم" (95 د) بالحياة بنفس سينمائيّ كوراليّ. تقضي "البطلة سول البالغة من العمر سبع سنوات يومها في منزل جدها، مشاركة عمَّتيها نوريا وأليخاندرا في الاستعدادات لحفل مفاجئ تقيَّمانه على شرف توناتيو والد الطفلة. مع تلاشي ضوء النَّهار، يسيطر جوّ غريب وفوضويّ، محطَّماً الرَّوابط التي تجَّمع الأسرة معاً. ستفهم سول أنَّ عالمها على وشك أن يتغيَّر بشكل كبير، وتعتنق جوهر التّخلي عن الأنانيّة والاعتزاز بعنفوان الحياة".

على مدى ساعتين، تصوَّر الإسبانيّة إستيباليث أوريسولا سولاغورين في باكورتها "20 ألف نوع من النّحل" محنة طفلة تبلغ من العمر ثماني سنوات مع "إصرار الناس على مخاطبتها بطرق مربكة أو تسميتها بـ"كوكو"!. خلال فصل الصيف في إقليم الباسك وبين مستعمرات النّحل، تستكشف هويّتها جنباً إلى جنب مع نساء عائلتها، اللائي يفكرن في نفس الوقت في حياتهنّ ورغباتهنّ وهويتهن الجنسيّة". أما مخرجة "كنت في المنزل ولكن..." (البرلينالة 2019) الألمانية أنجيلا شانيليك فتبني فيلمها الثاني "موسيقى" (108 د) بشكل حرّ على أسطورة أوديب. حكاية معاصرة لصبي نشأ مع والدّين بالتَّبني في اليونان، بعد أن عثرا عليه بعد ولادته عند سفح جبل في إحدى الليالي العاصفة. في سن العشرين ، يتعرَّض الى هجوم ويقتل والده قسراً من دون أنَّ يتعرف عليه. أثناء قضاء عقوبة السّجن، يقع في حب ضابطة تدعى آيرو وينجب منها طفلاً، قبل أن يتبيَّن له أنها والدته. بعد عشرين عاماً، يعيش البطل في لندن مع ابنته ويبدأ في فقدان بصره. رغم معاناته من الخسارة، إلا أنَّه يكتسب شيئاً في المقابل... رؤية عمياء!".

صاحبة "طريق مولي" (2005) و"اقتلني" (2012) و"ثلاثة أيام في كيبرو" (2018) الفرنسية الألمانية أميلي عاطف تشارك بعملها الخامس "في يوم ما سنُخبر بعضنا كل شيء" (129 د) المقتبس عن رواية الكاتبة دانييلا كرين حول ماريا (18عاماً) وهي فتاة حساسة وحالمة. تقرأ دويستويفسكي وتتجوّل في المروج، منشغلة في البحث عن معاني الحياة. في صيف 1990، بعد سقوط الجدار وإعلان توحيد ألمانيا، تتعرَّف صدفة على الجار هينر الأكبر سناً. رجل وحيد ذو طبيعة قاسية، تجعل من تواصله الاجتماعيّ أمراً عصيّاً. لمسة واحدة تكفي لبدء حب مأساويّ في بلد متغير". يصف كاتالوغ المهرجان هذا النصّ بأنَّه "فيلم عن الجاذبيّة والأجساد العارية ونقص الإرادة والرّغبة. عمل نقيّ وصريح وخال من العجالة، يقدم جرعة غير متوقّعة من الرومانسية الألمانيّة".

سينماتك في ـ  12 فبراير 2023

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004