الفيلم الثامن لجارمش غارق في سياسة سينمائيّة
طيَّنتها من نوع عائلي بحت كما هو الحال في سابقه
"أزهار ذابلة" (2005)، يحول شخصياتها القليلة الى
أعراف اجتماعية، تتناوب في ارتكاب حيل وتشاوف وتنابز
وغفلة. ستة أبناء من عائلات مختلفة يلتقون ـ كل على
حدة ـ في مدينة أجنبية مع والد أو والده. جميع هؤلاء
الشباب لن يمارسوا غلاظة، أو يبادروا بكلام بذيء، ولن
ينهروا كبارهم، أو يزجروهم بأُفِّ. فهذه الأخيرة لا
تحتاج الى فعل مباشر عدائي أو تحاملي بقدر ما إنْ نظرة
ملامة واحدة، تختصر بقوتها الإيمائية شكوكهم أو
اعتراضاتهم، بل وحتى ولعهم بمن رحلوا عن عالمهم. في
الحركة الأولى المعنونة "أب"، يزور الشقيقان جيف(أدم
درايفر) وإميلي (مايم بياليك) والدهما العجوز (توم
وايتس) القاطن في بلدة تقع في شمال غربي الولايات
المتحدة حيث يشي محيطه الريفي الى تناقض لاحق مع
مدينية أولاده، ذلك أن الثنائي المحصن بمنصبي عمل
محترم وظروف قرابات متناقضة، يبدوان ببرودهما تجاه
بعضهما، وكأنّهما لم يحافظا على علاقة أخوية صحّية رغم
الرفاهية البادية عليهما، يجدان حالهما في حضرة أب
مستوحد، شارد الذهن، نقاق، يعيش كفافاً لا يُحتمل.
تبدو الحوارات الشَّديدة البساطة والشَّبه العابرة
للعواطف أنَّ الثلاثيّ غير معني بصدقها كون واجب
الزيارة ثقيل الوطأة على الجميع، تعكسها وضعية جلسات
الشابين معاً على حاشية مقابل كرسي أب يتحول الى مقام
تنطلق منه أسئلة فارغة المضمون، تثبت أن المجاملات
بينهم هي أداة لتمضية وقت وتحاشي ملامات و أضرارها.
وسط حالة الحرج، يصبح الكلام عن العمّ "توم" الغائب
وساعة رولكس (تظهر لاحقاً في الفيلم مرات عدة) يضعها
الأب حول معصمه، ويدعي إنها مزورة، تورية لعرف ملتبس
بين "فقر" أب مسنّ و"ارتباك" شقيقين لن يجرؤا على
تقبيحه، قبل أن تتحول حيرتهما الى شكوك بما يضمره والد
يكشف، بعد مغادرتهما، عن كائن كذوب شديد التنظيم، وزير
نساء بحساب بنكي عامر. كهل لعوب ومضلّل يمتلك سيارة
فارهة مجيدة الطراز، يقودها تحت أضواء ساعة سحر خلابة
الى موعد غرامي!.
الجليّ في مقطع "أب" إنْ جارمش يحافظ على روح فكاهته
وتمايزها بروية بصريَّة على اعتبار أنَّ الكلام
ثانويّ، فكُلَّ إطار أنجزه مديرا التصوير الأميركي
فريديرك آلمز والفرنسي يوريك لو سو بكاميرا ثابتة
وبلقطات متوسطة في الغالب، يضع المكان الفوضوي محملاً
درامياً لفساد علاقة أقارب لا يمكن شطبهم، ولا يمكن
مسايرتهم الى الأبد، لذا فإنَّ تعالي الابنة وظنّونها
وبرودة مشاعرها هي عنوان هذا المقطع الغارق في تهكّمه
الشفيف، في مقابل مناورة شقيقها الذي يعاني من تداعيات
طلاقه من زوجته وتفكك عائلته الخاصة على أساه بحالة
والد، متغافلاً عن أنْ المُسنّ يتكّلف النِّسيان كي
يمرر خبثه.
تنحسر كوميديا جارمش قليلاً في الحركة الثانية "أمّ"
(البريطانية شارلوت رامبلِنغ) التي تستقبل ابنتيها
تيموثيا (الأسترالية كيت بلانشيت) بطلّة كَاسِفة
وملابس فوضوية، وليليث (اللوكسمبورغية فيكي كريبس)
الحَميّة بشعر وردّي فاقع، لمقاربة حالة تعاسر بينهن
تكشف عن عوَّج عائلي مُغطّى بكمّيَّة من مجاملات أهل
دبلن حيث موقع الزيارة. الأم، روائية مشهورة بيد أنَّ
علاقتها بالشقيقتين فوقيّة وحيادية. تستفيد المرأة من
قانون سياسي يخصم ضرائب الدولة عن المبدعين حصراً، ما
يفسر حالة الرقيّ المكانيّ لدارتها الفارهة. تيموثيا
فاشلة في علاقاتها مع الرجال، فيما تخفي الأخت الأصغر
سرّ حبّ جنسي مع شابة ناريَّة الطباع. الباهر هنا هو
صنعة جارمش في جعل الشخصيات الثلاث يتناوبن على
الملامات عبر نظرات العيون وتبادلها المتقن والحسيّ
حول طاولة لتناول الشاي وأكل الكعكات الايرلندية
الشهيرة، جاعلاً من محاوراتهن أقلّ شأناً في كشف
مهادنات أنانيَّاتهن وتجارحهن وتناكدهن التي تختفي
تماماَ في الحركة الثالثة "أخت أخ" حين تلتقي سكاي
(إنديا مور) بشقيقها بيلي (لوكا سابَت) في مقهى
باريسيّ، قبل أنْ يتوجَّها الى شقة والدين قضيا في
حادث تحطم طائرتهما الصغيرة. وسط صور عائلية ومكان
مليء بالضّياء لكنّه خال من مفردات الحداثة المفرنسة،
تشع قدرات جارمش في جعل الثنائي الأفرو أميركي الشاب
مثل ملاكين يستعيدان عبر حوارات مبتسرة وعواطف راقيّة
ذكرياتهما الحميميّة المشتركة. أنّهما يعيدان صياغة
حنوّهما ومهجتيهما لراحلين، أدّى غيابهما الفاجع الى
تجدّد لقاءهما الفسلجي. حين يغلقان باب الشقة وراءهما،
إنَّما يفتحان بصورة غير مباشرة كوّة سينمائية حسيّة
خفية، تسمح لإشعاع ضوء قوي وشديد السطوع كي يثبت إنْ
مصيرهما مشترك وأزليّ ومحصن ونابض بالتجديد.
نعم، العائلات لا تتشابه لكنَّ أسلوب صاحب "ليلة
أرضيّة" (1991)، و"الموتى لا يموتون" (2019) الجماليّ
القائم على البساطة السّرديّة وتراكماتها، وسحر
المباشر وتدفّقه الشّعري، ومثلهما التّخطيط البصريّ
المتزامن والتّكراري ذي الأطر الثابتة عموماً لن
تتغيَّر، ذلك أنَّ المخرج بسينماه الأصيلة لن يحيد عن
بصمته وموهبته وتمايزه التي لن تقف عند حدود نص وحوار
وتكوينات صور ورسم شخصيات، بل تتفاعل مع رؤية جماعيّة
للطاقم من حوله، إذ أنّهم بصمته السينمائيّة القائمة
على نزوع تعاونيّ دقيق البناء والتكليفات، ذكره في
قواعده الخمسة الذّهبيَّة حيث رأى أنَّ "صناعة الأفلام
عمليّة جماعيّة، تتطلّب التّعاون مع أشخاص قد تكون
لديهم أفكار أقوى من صاحب الرؤية، مع ضرورة تركيز
كُلَّ فرد على دوره المحدّد لتجنّب الفوضى". من هنا،
فحكاياته الثلاث هي تطبيق دراميّ لتضافر جهود ممثليه
وفنييه، ما أنتج في "أب أمّ أخت أخ" جوهرة فيلميّة
جارمشيّة الهويَّة والذّائقة والصّنعة، كما هو حال
سابقتها "قهوة وسجائر" (2003). |