زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الـ82

"Leone d'oro"

(جائزة الأسد الذهب)

Father Mother Sister Brother

"أب أمّ أخت أخ" للأميركي جِم جارمش... حروب عائلية وفكاهياتها

بقلم: زياد الخزاعي/ خاص بـ"سينماتك"

 
 

ارتدى صاحب "أغرب من الجنّة" (1984)، و"باترسن" (2016) الأميركي جِم جارمش شارة "يكفي" على صدره، تعبيراً عن معارضته لحرب الإبادة في غزة، خلال تسلمه جائزة الأسد الذهب في الدورة الـ82 (27 أغسطس ـ 6 سبتمبر 2025) لمهرجان فينيسيا السينمائي عن جديده "أب أمّ أخت أخ"، وقال لاحقاً للصحافيين أنَّه يشعر "بخيبة أمل وارتباك" مع تصاعد الجدل والانتقادات الموجهة الى منصة "موبي" العملاقة التي ساهمت في إنتاج، ومن ثم توزيع فيلمه الأخير، إثر إعلانها عن استثمار بقيمة 100 مليون دولار في شركة تُدعى "سيكويا كابيتال" التي استثمرت بدورها في شركة ناشئة في مجال تكنولوجيا الدفاع، أسَّستها وحدات الاستخبارات الإسرائيلية ردَّاً على هجمات 7 أكتوبر. أصر ابن ولاية أوهايو على استقلاليته، قائلاً: "أنا مخرج أفلام مستقل. حصلت على أموال من مصادر مختلفة لتمويل أفلامي. جميع أموال الشركات قذرة. إذا بدأتَ بتحليل كُلَّ شركة منها وهياكل تمويلها، فستجد الكثير من القذارات. يمكنك تجنَّبها وعدم إنتاج أي أفلام على الإطلاق. لكن السينما هي طريقتي في التعبير عمّا أحب قوله. أنا قلق، لكن ما لا يعجبني هو إلقاء عبء التّفسير علينا كفنانين. الأمر ليس نحن". أعتبر الكثيرون إن ما قاله جارمش هو تملص محسوب النيَّات، لا يرتقي الى إدانة علنيّة وحاسمة لتلك المنصّة وسياستها في "التربح من إبادة جماعيّة" التي وضع فيلم التونسية كوثر بن هنيه "صوت هند رجب" هذه الأخيرة، في وجه حشود الإعلاميين وأهل الشّأن السينمائي الدولي، عنصراً اتهاميَّاً لا مثيل في قسوته التّوثيقية والتجهيزية، وتعمّده في إعادة أفلمة تفاصيل جريمة قتل الطفلة الفلسطينيّة ذات السنوات الست، ومثلها تحامله على موت الضمائر، وشيوع هوس التصهين لتبرير جرائم حرب وسفك دّم.

*****

كان شريط جارمش هو المفضّل عند الجميع بعد عرضه على شاشات جزيرة الليدو حيث مقر "الموسترا"، بيد أنَّ منجّز بن هنيه هزّ كُلَّ شيء، وغلف الإجواء بثقل الكرب والاستقطاب. ناور إعلاميون على عدم الدخول في سجالات مباشرة، وأبقوا على حيَّادية خبيثة ـ إن لم تكن جبَّانة ـ رغم تظاهرات حاشدة اعتصمت أمام الصالة الكبيرة، ونددت بفظاعات إسرائيل، غافلين عن قصد شَأف ذلك التصفيق الطويل الذي حيا به رواد المهرجان فريق بن هنيه عند مرورهم فوق السجادة الحمراء ولاحقاً بعد نهاية عرضه. شخصياً، تعمَّدت لاحقاً الوقوف وسطهم أثناء إعلان الأميركي الكسندر باين رئيس لجنة التحكيم أسم الفائز بالتكريم الذهبي. سمعت ردود الفعل الصَّريحة من عشرات الواقفين أمام الشّاشة الكبيرة، معبرين عن امتعاضهم من موقف أعضاء اللجنة الذين "خانوا" ضميرهم السينمائي، وتناسوا مواقف مهرجان سبق وكرم جهد المخرج الإسرائيلي شَموَيل مَعَوز وتحامله الذّكي والمتوازن ضد الحرب على لبنان في باكورته الروائية ذات الطابع التّجهيزي "ليفانون، أو لبنان بالعبرية" (أسد ذهب، 2009)، وقبله تنديد أندريه تاركوفِسكي للجرائم النازية في "طفولة إيفان" (أسد ذهب، 1962)، وعلى منواله "وداعاً للأطفال" للفرنسي لوي مال (أسد ذهب، 1987)، وأيضاً شريط أندره كايات "الغد سيكون لي"(أسد ذهب، 1960)، ولا يمكن إغفال الذم السينمائي الجارح الذي أنجزه الإيطالي جيلو بونتيكورفو في "معركة الجزائر" (أسد ذهب، 1966) للمذابح الفرنسية في ذلك البلد، ومن دون أن نهمل سفك الدم الإيرلندي على يد الجنود البريطانيين في "مايكل كولنز" للإيرلندي نيل جوردن (أسد ذهب، 1996). ترى, هل تداولت لجنة التحكيم هذه القائمة قبل اختيار جارمش ونصّه مثالاً على ما هو أفضل، لتحاشي الوقوع في المطب الغزاوي وعواقبه السياسيّة التي شدَّد المخرج باين منذ مؤتمره الصحافي ـ قبيل بداية المهرجان ـ على أنَّه "يُآثر" الحديث عن السينما وليس السياسة!، وكأنَّ الأولى لديه، وهو المخرج الحصيف، لم تُخلق كوسيط معرفيّ غارق في التسيس، منذ أن فتح الأخوان لوميير عدستهما البدائيَّة الرائدة وصورا عمال مصنعهما مغادرين بعد انتهاء وردية عمل يومي طويل.

*****

أثبت قرار أعضاء لجنة باين (قيل إنَّ أحدهم هدَّد بالإستقالة!) في اختيار جارمش للأسد الذهب أن مغامرة رئيس مهرجان فينيسيا السينمائي الناقد ألبرتو باربيرا في دعوة فيلم بن هنية وإيمانه بجسامة قضيّته وعدالتها، كرَّست إنقلاباً عقائدياً في ما يتعلق بالموقف العام من جرائم موصوفة، تحدث بعد ما يقرب من الثمانين عاماً من محارق الهولوكوست، ليرتكب أحفاد ضحاياها جرائم إبادة مماثلة أكثر بطشاً ضد شعب محتل. كان الأمر جلياً لاحقاً في أنَّ المداولات لم تتعلق كثيراً بما قيل إنَّه جوائز ترضيات، بل في ورطة لجنة باين أمام اختيار باربيرا لنصّ مباشر وأليم وإتهامي نال دعم غالبيّة من شاهده، يقف بصلافة ضد سياسة غربية تسعى بقوة عاتية الى شيطنة الفلسطيني ككائن وحقّ وتاريخ، وتبرّر بتواطؤ شيطاني لقتلة صهاينة في سفك دمه بحجج دفاعهم عن إحتلالهم ووجودهم وتسيدهم وتوسعهم في الشرق الأوسط، وهو الخطاب ذاته الذي وقف ضده شَموَيل مَعَوز سابقاً في شريطه "لبنان"، فما الذي تغيّر اليوم سوى أنَّ النّزعة الضميريَّة لم تعد صالحة للتّداول، وإنْ خسارة امتيازات وفرص وثروات وتعزيز مصالح لا تستأهلها أرواح من نعتهم الصهيوني في بداية هذه الحرب الملعونة بـ"الحيوانات"!

شريط جارمش (1953)، وهو في رأينا تحفته، ضحيّة أخرى لمنازعات حق السينما في أنَّ لا تكون مُقادة بحيل الاستثمار والمال الدمويّ الذي وجد جارمش نفسه، ومنجزه الأخير، ملوَّثاً بها من دون أن يكون واعياً ـ كما صرح ـ بخطورته، فشارة "يكفي" التي وضعها على صدره هي إعلان صغير من مخرج مستقل ومميّز لن تكفي بالضرورة نعي 200 الف مدني صفوا أو جرحوا تحت أنظار العالم خلال عام واحد، ولن توقظ ضميراً محكوماً بانتهازيّات عالميَّة، وتقنين معلوماتي شرير، وشراكات سياسيّة دنيئة لأولياء أمور يسترخصون الدّم والرحم والمروءات.

*****

 
 

الفيلم الثامن لجارمش غارق في سياسة سينمائيّة طيَّنتها من نوع عائلي بحت كما هو الحال في سابقه "أزهار ذابلة" (2005)، يحول شخصياتها القليلة الى أعراف اجتماعية، تتناوب في ارتكاب حيل وتشاوف وتنابز وغفلة. ستة أبناء من عائلات مختلفة يلتقون ـ كل على حدة ـ في مدينة أجنبية مع والد أو والده. جميع هؤلاء الشباب لن يمارسوا غلاظة، أو يبادروا بكلام بذيء، ولن ينهروا كبارهم، أو يزجروهم بأُفِّ. فهذه الأخيرة لا تحتاج الى فعل مباشر عدائي أو تحاملي بقدر ما إنْ نظرة ملامة واحدة، تختصر بقوتها الإيمائية شكوكهم أو اعتراضاتهم، بل وحتى ولعهم بمن رحلوا عن عالمهم. في الحركة الأولى المعنونة "أب"، يزور الشقيقان جيف(أدم درايفر) وإميلي (مايم بياليك) والدهما العجوز (توم وايتس) القاطن في بلدة تقع في شمال غربي الولايات المتحدة حيث يشي محيطه الريفي الى تناقض لاحق مع مدينية أولاده، ذلك أن الثنائي المحصن بمنصبي عمل محترم وظروف قرابات متناقضة، يبدوان ببرودهما تجاه بعضهما، وكأنّهما لم يحافظا على علاقة أخوية صحّية رغم الرفاهية البادية عليهما، يجدان حالهما في حضرة أب مستوحد، شارد الذهن، نقاق، يعيش كفافاً لا يُحتمل. تبدو الحوارات الشَّديدة البساطة والشَّبه العابرة للعواطف أنَّ الثلاثيّ غير معني بصدقها كون واجب الزيارة ثقيل الوطأة على الجميع، تعكسها وضعية جلسات الشابين معاً على حاشية مقابل كرسي أب يتحول الى مقام تنطلق منه أسئلة فارغة المضمون، تثبت أن المجاملات بينهم هي أداة لتمضية وقت وتحاشي ملامات و أضرارها.

وسط حالة الحرج، يصبح الكلام عن العمّ "توم" الغائب وساعة رولكس (تظهر لاحقاً في الفيلم مرات عدة) يضعها الأب حول معصمه، ويدعي إنها مزورة، تورية لعرف ملتبس بين "فقر" أب مسنّ و"ارتباك" شقيقين لن يجرؤا على تقبيحه، قبل أن تتحول حيرتهما الى شكوك بما يضمره والد يكشف، بعد مغادرتهما، عن كائن كذوب شديد التنظيم، وزير نساء بحساب بنكي عامر. كهل لعوب ومضلّل يمتلك سيارة فارهة مجيدة الطراز، يقودها تحت أضواء ساعة سحر خلابة الى موعد غرامي!.

الجليّ في مقطع "أب" إنْ جارمش يحافظ على روح فكاهته وتمايزها بروية بصريَّة على اعتبار أنَّ الكلام ثانويّ، فكُلَّ إطار أنجزه مديرا التصوير الأميركي فريديرك آلمز والفرنسي يوريك لو سو بكاميرا ثابتة وبلقطات متوسطة في الغالب، يضع المكان الفوضوي محملاً درامياً لفساد علاقة أقارب لا يمكن شطبهم، ولا يمكن مسايرتهم الى الأبد، لذا فإنَّ تعالي الابنة وظنّونها وبرودة مشاعرها هي عنوان هذا المقطع الغارق في تهكّمه الشفيف، في مقابل مناورة شقيقها الذي يعاني من تداعيات طلاقه من زوجته وتفكك عائلته الخاصة على أساه بحالة والد، متغافلاً عن أنْ المُسنّ يتكّلف النِّسيان كي يمرر خبثه.

تنحسر كوميديا جارمش قليلاً في الحركة الثانية "أمّ" (البريطانية شارلوت رامبلِنغ) التي تستقبل ابنتيها تيموثيا (الأسترالية كيت بلانشيت) بطلّة كَاسِفة وملابس فوضوية، وليليث (اللوكسمبورغية فيكي كريبس) الحَميّة بشعر وردّي فاقع، لمقاربة حالة تعاسر بينهن تكشف عن عوَّج عائلي مُغطّى بكمّيَّة من مجاملات أهل دبلن حيث موقع الزيارة. الأم، روائية مشهورة بيد أنَّ علاقتها بالشقيقتين فوقيّة وحيادية. تستفيد المرأة من قانون سياسي يخصم ضرائب الدولة عن المبدعين حصراً، ما يفسر حالة الرقيّ المكانيّ لدارتها الفارهة. تيموثيا فاشلة في علاقاتها مع الرجال، فيما تخفي الأخت الأصغر سرّ حبّ جنسي مع شابة ناريَّة الطباع. الباهر هنا هو صنعة جارمش في جعل الشخصيات الثلاث يتناوبن على الملامات عبر نظرات العيون وتبادلها المتقن والحسيّ حول طاولة لتناول الشاي وأكل الكعكات الايرلندية الشهيرة، جاعلاً من محاوراتهن أقلّ شأناً في كشف مهادنات أنانيَّاتهن وتجارحهن وتناكدهن التي تختفي تماماَ في الحركة الثالثة "أخت أخ" حين تلتقي سكاي (إنديا مور) بشقيقها بيلي (لوكا سابَت) في مقهى باريسيّ، قبل أنْ يتوجَّها الى شقة والدين قضيا في حادث تحطم طائرتهما الصغيرة. وسط صور عائلية ومكان مليء بالضّياء لكنّه خال من مفردات الحداثة المفرنسة، تشع قدرات جارمش في جعل الثنائي الأفرو أميركي الشاب مثل ملاكين يستعيدان عبر حوارات مبتسرة وعواطف راقيّة ذكرياتهما الحميميّة المشتركة. أنّهما يعيدان صياغة حنوّهما ومهجتيهما لراحلين، أدّى غيابهما الفاجع الى تجدّد لقاءهما الفسلجي. حين يغلقان باب الشقة وراءهما، إنَّما يفتحان بصورة غير مباشرة كوّة سينمائية حسيّة خفية، تسمح لإشعاع ضوء قوي وشديد السطوع كي يثبت إنْ مصيرهما مشترك وأزليّ ومحصن ونابض بالتجديد.

نعم، العائلات لا تتشابه لكنَّ أسلوب صاحب "ليلة أرضيّة" (1991)، و"الموتى لا يموتون" (2019) الجماليّ القائم على البساطة السّرديّة وتراكماتها، وسحر المباشر وتدفّقه الشّعري، ومثلهما التّخطيط البصريّ المتزامن والتّكراري ذي الأطر الثابتة عموماً لن تتغيَّر، ذلك أنَّ المخرج بسينماه الأصيلة لن يحيد عن بصمته وموهبته وتمايزه التي لن تقف عند حدود نص وحوار وتكوينات صور ورسم شخصيات، بل تتفاعل مع رؤية جماعيّة للطاقم من حوله، إذ أنّهم بصمته السينمائيّة القائمة على نزوع تعاونيّ دقيق البناء والتكليفات، ذكره في قواعده الخمسة الذّهبيَّة حيث رأى أنَّ "صناعة الأفلام عمليّة جماعيّة، تتطلّب التّعاون مع أشخاص قد تكون لديهم أفكار أقوى من صاحب الرؤية، مع ضرورة تركيز كُلَّ فرد على دوره المحدّد لتجنّب الفوضى". من هنا، فحكاياته الثلاث هي تطبيق دراميّ لتضافر جهود ممثليه وفنييه، ما أنتج في "أب أمّ أخت أخ" جوهرة فيلميّة جارمشيّة الهويَّة والذّائقة والصّنعة، كما هو حال سابقتها "قهوة وسجائر" (2003).

سينماتك في ـ  15 سبتمبر 2025

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004