زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"كان ّ" الـ71:

"يوم الدين" للمصري أبو بكر شوقي...

حصافات التسامح

بقلم: زياد الخزاعي

 

 
   

للحكاية السينمائية البسيطة العناصر، قوة إستثنائية. إذا لا تتطلب من صناعها إقناع مشاهدها بحججهم. رجل أبرص يقرر خوض مغامرة لم يتخيل، ذات يوم، أنه قادر على القيام بها. سفرة تقوده الى دارة عائلة، غيبّته من سجلاتها وذاكرتها وإنتمائها، وقرية خلان ظنوه ميتاً. هذا فيلم رحلة، لا يدعي الكثير من التعاطف المفتعل. فمركز حياة الرجل المنكود الحظ بشاي(راضي جمال)، يدور في فلك عزلة جبرية. هي في الواقع حصانة عامة له ولإمثاله من المصابين بمرض الجذام، وتأمين غير مباشر لعزّة نفوسهم الهشة ، يمكن للغدارين من البشر ان ينالوا منها، ويسخروا من فاجعتها. ما يُنتقص داخل المستعمرة، هو إنتماء أُسري، لا يسعى المخرج شوقي الى تفاصيله. فمشاهده، يفاجأ بموت زوجة لا يُشار لها إلا بإعتبارها إيقونة عائلية(نرى بشاي واقفاً أمام صورتها مرّة وحيدة). يمهد رحيلها الى مسار جديد في حياته. وهي إشارة توكد ان غياباً مؤلماً، يوّلد، بالضرورة، حياة جديدة له. قد تبدو هذه المعادلة متهافتة وبالية، إلا إنها على يد شوقي تتحول الى إنشودة متباسطة عن الإخاء والتعاضد والوداد. قيم جماعية، حافظ المجتمع العميق في مصر على أصولها وتراتباتها وإعتباراتها. لن يتوانى المخرج شوقي من الإحتفاء بها عبر شخصيات شعبية وعفوية الدوافع. فمدير المستعمرة، يجعل من أولوياته ان نزلاءها هم عشيرته. يذّود عنهم، ويحقق مطالبهم. فهم ليسوا معتقليه، ولا هم مرضاه. انهم كائنات قادها الحظ العاثر الى خلوات إجبارية، وإقصاءات إجتماعية. حينما يقرر بشاي مغادرة المستعمرة بحثاً عن والده الذي تخلى عنه صغيراً، لن يقف أي من الإداريين أمام عزمه، بل يمهدون لها عبر مرحماتهم "كل ناس المستعمرة ما تعرفش أهلها" يقول أحدهم. 

لن يجعل نصّ شوقي من بشاي شخصية خرقاء، بل يكوّن عالمها من كاريزما ضاغطة، وميسرة تعامل، وعفو خاطر، وفوق هذا، يلمح الى أبوة مستعارة يسبغها على طفل(أحمد عبد الحافظ) من إيتام المستعمرة يدعى أوباما "الخواجة اللي يطلع على التلفزيون" كما يشرح، والذي سيرافقه في رحلته، لكن لدوافع أخرى، في مقدمتها خوفه من البقاء وحيداً. تتشكل هنا أسرة بديلة، تشعّ بمناكفات وملاحات، لا تتحمل لوعات جديدة. فحينما يتعرضان الى سرقة عربتهما، يستجمعا قوتهما للمطاردة والنيل من ناكري الجميل. وحينما يموت حمارهما "حربي"، لا يتوانيا من ندبه، وكأنه ثالثهما. وحينما يصاب أوباما بحادث، يهرع بشاي به الى المستشفى، رغم ندوب وجهه التي ترعب من يراها. وحينما يصل البطل الى أهله في مدينة قنا، يكون "ابنه" جزءاً من ضمير جديد، يفخر بمروءآته ونخواته. قبل هذا، يعالج المخرج شوقي مواجهات يومية، يمران بها مع شخصيات عابرة، تحمل بين طياتها "غمزات" مسيسة، منها المشهد الفاقع بين بشاي وشاب من المتزمتين الدينيين، وهما معتقلان لإسباب متضاربة وكاريكاتورية. وعندما يهربان بإغلالهما، يجد البطل نفسه في مأزق، سيتكرر مرتين. فهو مواطن مسيحي مستهدف، يُجبر على إخفاء مذهبه خوف القصاص وعداوات الطوائف. أكثرها شدّة، تدفعه الى إستعارة اسم اسلامي!. يلعب المخرج على هذه التناقضات بفطنة لافتة، رغم أنها لم تصل بكفاية الى مشاهده العالمي في عروضه ضمن المسابقة الرسمية للدورة الـ71(8- 18 ايار 2018) لـ"مهرجان كانّ السينمائي"، بيد أن الهم الأساسي لـ"يوم الدين" أصراره على ان التكافل والتسامح الإجتماعيين في بلد عريق وشعب ذا مزاج منفتح على صعوبة الحياة ويوميات عوزها، هما ضرورة إنسانية، يجب الدفاع عنها وتحصين جبهاتها.

"يوم الدين" معالجة مطورة من أبو بكر شوقي، لشّريط تسجيلي سابق حمل أسم "المستعمرة"، ما يفسر الأسلوب المزدوج لجديده، والقائم على روحية نصّ وثائقي، يخدع متفرجه بحكاية ميلودراما شفيفة، تجعل من إستقباله في مهرجانات العالم وشاشاتها أمراً متوقعاَ، نظراً لحيوية حكايته، وظرافات شخصياته، وإشاراته السياسية الحصيفة.

سينماتك في ـ  13 مايو 2018

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)