زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"كان ّ" الـ71:

"كفر ناحوم" للبنانية نادين لبكي..

الخزي ّالكونيّ

بقلم: زياد الخزاعي

 

 
   

للإنصاف، هذا أفضل إشتغال سينمائي للبنانية نادين لبكي، بيد ان شّريطها " كفر ناحومً"، المعروض ضمن المسابقة الرسمية للدورة ال71(8 - 18 أيار 2018 ) لمهرجان كانّ السينمائي، لن يُرضي الجميع، ان لم يستهدفه البعض، للنيل من غرضه التعاطفي، او التهجم عليه بحجة تشويه لبنان ومجتمعه. حكاية اليافع زين( إداء لافت من السوري زين الرفيع)، ورفعه قضية ضد والديه أمام محكمة بيروتية، بتهمة التسبب في إنجابه الى هذا العالم المليء بالرزايا. هذه تفصيلة درامية غير مسبوقة، بيد ان ما يتبعها، يتحوّل على يد صاحبة "سكر بنات"( كارميل) الى مرافعة سوداوية، مفعمة بالكيد والمهانات والمعايرات وسحق الذمم والعنصرية، وفوق هذا كله، شتم نظم إجتماعية غير منصفة، ووحشية، تعامل كائناتها بوفرة من المهانات. هل هذا لبنان لبكي؟، سألني أحدهم بخبث، فأجبته، لماذا لا يعتبر ان ما شعّ على شاشتها من مظالم، يحمل بعدآ كونيآ لخطايا البشر، مثلما هو شريط المغربي نبيل عيوش في "علي زاوا"، والبريطاني داني بويل "سلامدوغ مليونير"( المليونير المتشرد) وغيرهما. الى ذلك، فإن "كفر ناحوم" ليس في مطلقه الدرامي يدور حول أطفال شوارع وعوائل أحياء قصديرية. ان مركزه يصيب الضمير الجمعي الخائن للإعتبار الإنساني، الذي  طالما ما يتعرض الدسيسة والإقصاء والغدر. 

لا ريب ان لبكي تمادت الى حد بعيد في عرض "جيفة" بشرية، موزعة بشكل متضارب بين ثنائيات، تجتمع على قيمة واحدة عمادها، رد الهلاك بأي ثمن. فزين يجد مقابله الحياتي في شقيقته سحر( سيدار عزام) التي تجعله قوامآ على حياتها وتفتح جسدها وعوالم مراهقتها. انه أب بديل الى حد ما، وعندما تُجبر على زيجة غير منصفة لشاب أرعن، يصبح خيار زين محدد بسفك دمه، او لنقل غسل عار رجولته الزاحفة على كيانه، قبل مواقيتها الطبيعية. هذا يبرر المشهد الإفتتاحي لقاعة محكمة، وأصفاد البطل الصغير، والإعلان الصادم بمقاضاة والديه. يجمع الثنائي الأخر بين زين والأم الأثيوبية راحيل( يوردانوس شيفراو) المنظفة في صالات مدينة ألعاب بيروت الشهيرة. هذه المرأة المكلومة بوليدها وعوزها وأوراق إقامتها المزورة، هي عنوان لإستضعاف وضعة يواجهها المهاجر الأفريقي إينما حل. في بيروت لبكي، لن تواجه راحيل المسيحية المذمات وهوان ترهيب العصابات المحلية ومطاردات الدرك اللبناني ومعتقلاته وحسب، بل عليها منع إنهيار قيمها الشخصية، المرتبطة الى حد جارح ب فطيمها "يوناس". ما يرسمه نص لبكي وشريكيها( جهاد حجيلي وميشيل كسرواني) بحصافة درامية، هو قلب الآية العائلية المقدسة من حضن راحيل، ونقلها الى ضمير زين الذي يتحول، مرٓة جديدة، الى أب بالإعارة!، حينما يُقبض على الأم، وإيداعها المعتقل المتعدد الجنسيات، أي "تغييبها" عن الواجهة. من هنا، تتحوٓل جيلانات زين في جغرافية بيروت المفترضة، أقرب الى تنقلات طريدة، يسعى الجميع الى دمها. أما الثنائي الأكثر إثارة، هما سليم( فادي كامل يوسف) وسعاد(كوثر الحداد)، من ناحية تعدد مستويات غلاظاتهما وفراغ مهجتيهما من أي وازع أخلاقي. أنهما وحشان، يدفعهما مجتمع متبلٓد وأناني، الى إرتكاب المعاصي التقليدية لعائلة مقصية، تعاني من عسر، وبؤس محيط مجتمعي. هاتان ضحيتان جاهزتان لتبرير شائناتهما، فما مرا به  من دناسات في حياتهما، ستسرده سعاد، تحت دموع سخية، أمام القاضي، كضراعات إتهام وتجاسر على منظومة مؤسساتية لم تنتشلهما من واقعهما المزري. تموت الصبية سحر من نزف حاد، خلفته مواقعة جنسية لم ترحم طراوة جسدها، " الزواج بهيدا السن ماشي عند الكل" كما يبرر زوجها الشاب، ليصبح موتها المجاني طعنة ضميرية. ما تلخص اليه لبكي في مقاطع المحاكمة التي تنثرها على مساحات محددة، يتجلى في صرخة زين ومطالبته أهله( وكل عائلة شبيه) ان تتوقف عن إنجاب أطفال، سيكررون آثام آباهم.

وبقدر ما ان هذا العنوان الثري الذي يجعل من زين، أقرب الى حكيم طوباوي، لا تتماشى كلماته مع عمره، لكنها صفة ضرورية كموقف ومكاشافات، تتراكم على مسار فيلم لبكي، الذي صوره كريستوف عون بروح ديناميكية، قائمة على طَراد صوري لا يتوقف لحظة واحدة. جعل من الخلفية البصرية، لما يفترض بانها أحياء معينة من العاصمة اللبنانية، مساحات يمكن تأويل مرجعياتها الجغرافية الى أبعد من بيروت، وأقرب الى بقعة ملتبسة مسكونة بخزيّ كونيّ، لم تتخل نادين لبكي فيه عن ملاحاتها وقفشاتها. فمحن شخصياتها التي تعيش في كفر ناحوم عالمية، لا ترتبط بعلاقة وجدانية ببلدة يسوع الكنعانية، هي غاشيات تتعاظم، لتصبح في وقت لاحق كمنذرات، تتوعد الخطاة بعقاب ماحق. من هنا، فان  نصّ لبكي، ينتصر في منتهاه الدامي الى أنقياء القلب، الذين طوبهم يسوع ذات مرّة، في خطبة أساسية في المرجعية الثيوقراطية، لأنهم يعاينون الله.  

سينماتك في ـ  15 مايو 2018

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)