زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"كان ّ" الـ71:

"كتاب الصورة" لجان لوك غودار..

سّرَاط المهالك

بقلم: زياد الخزاعي

 

 
   

يتوافر في جديد المعلّم الفرنسي السويسري جان لوك غودار "كتاب الصورة"، المعروض ضمن أفلام المسابقة الرسمية للدورة الـ71(8 ـ 18 ايار 2018) لـ"مهرجان كانّ السينمائي الدولي، سّرَاطان سينمائيان واضحان، الى حد مدهش في مقاصدهما وسهامهمامن ناحية، هو مانفستو شخصيّ وتحامليّ عن خرائب الإنسان الفاسد، كما أسماه المفكر إيزايا برلين، الذي لا يني في إشعال حروب ثيوقراطية أوأقتصادية أوأيديولوجيةمثلما يتزعم نزعات عرقية، تُيسّر له سفك الدّم على الدوامتتشابه مع هوسه في تسليع نظرات إستعلائية ضد الأخر، بإعتبارها وسيلة ربّانية، فوّضته حقّاً مطلقاً في النيل من عدو مزمن، وقابل للتوليدعليه، جاء القسم الأول محتشداً بوفرة من "الصوابيات الغوداريةبشأن الحيف السياسي/الديني، الممتد من محارق فجر التاريخ العبراني ولاحقاً المعمداني، وإنتهاء بجزّ الرؤوس على يد مجرمي تنظيمات"السلفية الجهادية"، وملاحقها من قتلة الفاشيات الدينية الجديدة، والذي (الحيفيبرّر وقوع فواجع، وإرتكاب فظاعات، وإقتراف مظالم ضد ملايين من الناس العزل، إعتماداً على إنتماءاتهم الطائفية أوالجنسيةمن ناحية أخرى، يتراكم هذا النصّ على الشاشة، كبرج بابل هائل البناء ومتعدد المستويات من صور، تنثال بسرعة قياسية وموتورة وإستفزازيةيُشيد تتابعها، المتقن بإختياراته ومرجعياته، سلالم إيديولوجية متداخلة، وممرات يقينية ملتوية، تقود كل منها الى نقطة معينةهذه الأخيرة، تنتهي مع أُخريات في وحدة تجهيزية مشكلّة الأطراف، بصرياً وكلامياً، ترفع شعارات مؤدجلة ومتفلسفةهي إمتداد للمتن الغوداري النضالي منذ "الصينية"(1967)، وإنتهاء بـ "فيلم الإشتراكية"(2010)، و"وداعاً للغة"(2014) من ضمن عشرات من إيقوناته الأممية، خصوصا فقرته في سلسلة "عين الكاميراالشهيرة.

عنوان الفيلم مركب من "كتابو"صورة"، بيد أن الـ85 دقيقة من زمنه، مسكونة بفيوض منها، بكل الأنواع والأجناس والتواريخان غودار اللماح، لن يربط بيانه بصورة واحدة، بل أحكم مقاطع ذرائعه وفقراتها بسيل صّوري، صعب المسايرة لكنه ذا حصافة عميقة، ميال الى تغريب واضح، إستعاره بوضوح من الكاتب الألماني بروتولد بريشت، يُجبر مشاهده على النأي عن إندماج مفتعل في حكاية غير موجودة أصلاًيحتاج، هذا المتفرج، الى إستنفار كليّ لمشاعره ونباهاته، كي يُجمّع نقاط وإستعارات وإحالات عراب "الموجة الجديدة الفرنسيةالسياسية الغزيرةمن هنا، يُبرّر عنوان "إعادة تصوير" (REMAKE)، الذي يتكرر ظهوره في الكادرات الأولى للفيلم، كون ما نتابعه هو توظيب(مونتاجمُسْتَحْدَث لمنتوج سمعي بصري سابق، تم "تكريرهثانية، من أجل طرح وجه أغبر لتواريخ إستعباد وعسف، مرفوقة بتعليق صوتي متأن وغليظ الإنفاس لغودار ذاتهيتداخل مع إستعارات موسيقية ولحنية، وكمٍ معتبر من عناوين، يقتبسها من أعلام أمثال أرثر رامبو وأندره مالرو وأدوارد سعيد والبير قصيري ومحمود درويش غيرهم، أوشعارات تأليبية للجغرافية السياسية على شاكلة: "الحروب هي قانون العالم"، و"الجلاد هو حجر الزاوية في مجتمعاتنا، وعلى الأبرياء دفع أثمان الذنوب"، و"سأنحاز على الدوام الى القنابل". قسّم غودار عمله الى خمسة مقاطع، على عدد أصابع اليد الواحدةنراها في المُفتتح وهي تلقم أله عرض سينمائية، لتُصبح"يداً مُفكّرِة". ومن عدستها، تتساقط رؤى مخرج "بلا نفس"(1960) لتهجو شراسات البشرمن قنابلهم الذرية الى أعواد مشانقهم، وإغتصابات جنودهم، وتعذيب زبانياتهمتشنع بمؤسساتهم الإمبريالية التي لا ترحم، وقوانينها المُسوّغة لكولونياليات وإحتلالاتعنوّن غودار بعضها بجمل دالة مثل"كتاب القانون"، و"الأرشيف والإعتباراتو"أُس الروح". وبقدر ما حملت نبرات ضميرية، بان فيها أيضا هوس غودار بالثورة وإمكاناتها، رغم إعترافه بتراجعها في الذمّة العالمية، وتغيّيبها عنوّة عن جماهير لاهية بإلعاب وسائط التواصل الإجتماعي ووحوشها.

هذا الخلاّق الكبير مازال يحمل على كتفيه مأزق إنسانيتنالا يريد نهاية هادئة لعمره المديد(87 عاما). السينما مبتغاهوسلاحه المدجج على الدوام برصاص الصور التي لا تُدلّس ولا تُزينّ ولا تهجعمثلما لن ترتهن لإذعان سلطوي وفوقي، أوتباسط متفرج مغفللذا لن تكون صور غودار مدرسيّةفهي تُعتم فجأة، وتارة تتفتح ألوانهامرّة تتباطأ، وأخرى تستعجل محتواهاغودار جهبذ يحكمه منطقه وحُجّة سينماههو محترف تراكمات سينمائية ذو فطنة عالية الجودةتتجلى في "كتاب الصورةبقوّة لا مثيل في كناياتها، عبر إستدعاء أكبر قدر من لقطات أفلام أثيرةيؤلف غودار، الذي أعترف في مؤتمره الصحافي بأنه "يسعى الى الحقيقةفهناك جانب معروف وأخر مخف، والأخير هو سبب الكوارث"، في المقاطع الأولى الإستطرادية والتجريحية، سفراً رؤيوياً، يشعّ بمختزلات من أعمال أقرانه أمثال بازوليني"سالو"، وألفرد هيتشكوك"فيرتغو"، وماكس أولفيس"البهجة"، ونيكولاس راي"جوني غيتار"، وجون فيغو "إتلانتا"، وروبرت ألدريش"قبلني حتى الموت"، وتود براونينغ "الدميمون"وستيفن سبيلبيرغ "الفك المفترس"...غيرهم.

ما مسعى غودار في إنتخابه أسلوباً خصامياً مع متفرجه؟ الجوابالحضّفالرجل يدعوه هنا الى عدم الإلتفات الى إيقاع عمله، أو فهم شكلانيته بشكل مطلقإنما عليه الإستعداد للتعرض الى خضّات، تطال إلتزامه البصري والوجداني، وكذلك ذاكرته الشخصية والجماعية في آنيرميه مخرج "بيارو المجنونفي جُب الشك وأسئلته:هل وعيت ما شاهدت على الشاشة؟، هل تفطنت الى ما قيل؟ هذه الريبة، هي مشاكسة دياليكتيكية، مرّنة، تستغوي التأويلوهذا يتوضح بشكل يقترب الى هجاء سياسي عارم، حينما يقرر غودار أغلاق "الأصبع الخامسوالمعنون بـ"حيز مركزي"، حول أمة العرب ومنطقة الشرق الأوسط التي تواصل معها منذ سبعينات القرن الماضي، وصوّر عنها فيلماً لم يكتمل، حول القضية الفلسطينيةمتخيّلاً أمارة، أطلق عليها مسمى "دوحة"، يسعى شيخها الى تأمين الرفاهية لرعاياه عبر تشكيل جيش، يحقق له السيطرة على منابع النفط وثرواتهابيد ان مؤامرات "الجيوبوليتيكالدولية، لن تسمح بمغامرة من هذا النوعومع فشل مشروع "الجنة الموعودة"، تستشرى الحروب على الأرض المنحوسةتُبدد ثرواتها، ويُعاد رسم حدودها وخياراتها وإنظمتهايرى غودار، في هذه الفقرة التي غطت الـ25 دقيقة الأخيرة من نصّه، ان العرب الذين رفدوا البشرية بمقومات حضارية كثيرة، أُصيبوا بلّوثات كثيرة، وخسروا رهاناتهم على قوى عظمى، لا تسعى سوى الى نهبهموفي كل زاوية من تظاهرته هذه، يؤلف غودار مشهديات مجتزأة، مشوشة، لا تبقى على شاشته سوى للحظات، من عدّة أفلام عربية ـ في موازاة درامية مع المقاطع الغربية الأولى ـ ليوسف شاهين"باب الحديدو"هي فوضى"، والناصر خمير"الهائمون"، و"تمبكتولعبد الرحمن سيساكو، و"الليللمحمد ملص من بين أخرينهذه شواهد، تتضارب مع المشاهد الحيّة لفيديوات تنظيم "داعشوجزّ الرؤوسلكنها تتكامل مع صوت أم كلثوم، وأغنيات فيلم التونسية كوثر بن هنية "على حلة عيني". ينعى غودار مجتمعات حيوية، تواجه اليوم إستحقاقات جشع ومغانم والحفاظ على مُلك لن يدومما هو موكد، ان كتاب غودار بدفتيه، أشبه بمتن كتاب "أصل العائلةلفريدريك أنجلز، الذي ناقش طوطميات قديمة كانت صنوا للإلهة، رتبت لنا أكواننا الأولى، وأسست منطق حيواتنافيما نواجه، اليوم، طواطم حداثية وحشية، تتسلح بخيانات وقنابل ذكية، تهدم بعناد كل أوجه إرثنا الإنسانيهذه نظرة منحوسة وقاسية، لكنها لن تدفع بـ"نبي الصورةالى الخشية من التحامل عليه وإنتقادهفتراجعه عن يقينه الحقّ، لن يرد البتة بين رؤى كتابه المجيد، أو منجزه الثوروي.

سينماتك في ـ  17 مايو 2018

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)