زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

مالمو الثامن للسينما العربية - 2018

"ورد مسموم" للمصري أحمد فوزي صالح... تركيب الحيوات النذلة

بقلم: زياد الخزاعي

الباكورة الروائية الطويلة للمصري أحمد فوزي صالح "ورد مسموم"(70 د)، المعروضة ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة في الدورة الثامنة (5 ـ 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2018) لمهرجان مالمو للسينما العربية، هي شريط تركيبي بحت. نصّ يحتشد بوفرة من تحامل إجتماعي، وغمز سياسي، وتعيير عقائدي، من دون ان يعلن هذا بفظّاظة درامية. عمل سينمائي متقشف وحركي. ينتصر الى المكان. يتفرس به بلؤم صوري وعدائية لا مثيل لهما في السينما المصرية. لا يخشى صالح (ولد عام 1981) غلاظة محيط المدابغ ورجسها التي تحيط ببطلته تحية (مريهان مجدي) أو (كوكي)، الساعية الى منع شقيقها صقر من ركب مغامرة الهجرة عبر البحر نحو إيطاليا. فهو كل شيء في كينونتها. رجلها المثالي، وسندها الرباني في مواجهة عورة عائلية قائمة على عبوديات متعددة المستويات، تقودهما نحو أرض ملّتبسة من رغبات وتآمرات وجدب عواطف ونوايا شيطانية. شخصيات محكومة الى رقّ أعمى، حيث المرحمة هي مسبّة، والرقّة هي دنيئة، والمودة هي منقصة. تدور حيوات تحية/ صقر ضمن مقطع مثيولوجي رجيم، لا فكاك من معاودات فصوله وتكرارها، إذ أن الـ"ديافورا" أمر مستنكر، ويحمل بين تآمراته بذرات تغيير، تُرعب أهل المحيط الغارق في عفونته وخزيه وشدة بؤسه. ان أي "إختلاف" في مساراتهما اليومية يعني تهديداً مباشراً وماحقاً لأزلية قدرهما وإجتماعه على ثنائية ذكر وأنثى، تصل في بعض المشاهد الى حدود شهوات محرّمة، وإشتهاءات محظورة.

يعمل صقر (إبراهيم النجاري) في مدابغ القاهرة، غارقاً في بيئتها النتنة والمهيمنة، وراضخاً الى قهرها  اليومي، فيما تُنتهك شقيقته تحية يومياً ضمن عملها كمنظفة في مراحيض عامة. نرى الشاب شبه عار طوال الوقت، فهو إبن عالم جهنمي وشبه عسكري، لا تتوقف نيران سعيره، ولا تتعب ألاته عن دورانها المحموم. أما تحية فهي كائن ملفوف بمِحرم محكم، وطلّة تُشبهها بكائن مستول من سيرة غيلان شعبية. تغذ سيرها على الدوام بين منافذ لعينة تلفظ ماء ملوثاً، يجري بوحشية ضمن مجار مفتوحة، تُعلن عن عدواتها لكل ما هو حي في عالم متكدّر، ظلامي، ساخط. هاتان الشخصيتان بلا "تقوى شخصية" بالمفهوم المصري القديم، أي أنهما لا يملكان روحين تضمنان لهما إنتقالاً الى حياة أخرى أكثر مجداً. فيما يمثل جسديهما، وتفاصيل وضعية أعضائهما ـ صقر بشدة عضلاته وذراعاه العاملان على الدوام، وتحية بنشاطها الجسدي المحدود، والموزع بين خطو متمهل طويل، وممارسات طبخ ونوم ـ كوجهي نشاط حياتي مغبون وخاسر، مُراقب على الدوام من قبل سطوة خفية، ولا يؤدي الى نتيجة حاسمة. فما يبدو عيش الشخصيتين وكأنه آخرة مؤجلة، تندفع روحيهما بين فلكين مزدوجين لن يتقاطعا بتاتا، الأول عزم صقر على الهجرة كإعلان على هزيمته، والثاني، عزم تحية على منعه، كعنوان على هوسها بكائن يبرر وجودها وكيانها، بينما يعلن غيابه إن تحقق عن فنائها. كلّ هذه الأفعال/ الصراع الناقص هو إغتياب عائلي متباسط درامياً أمام توحش المحيط. بمعنى أن مخرج "جلد حيّ" لو ألغى حكايته المقتبسة بتصرف شديد عن رواية الكاتب أحمد زغلول الشيطي "ورد مسموم لصقر" (1990)، وأبقى على الجيلانات المجيدة لكاميرة مدير التصوير المميز ماجد نادر بين دروب النجاسات، لما إهتزت قوته وإستفزازيته.

ان نسوية الشابة تحية بإعتبارها قضية إتهامية هي روح شريط "ورد مسموم"، من حيث تجلي عذاباتها المكتومة، وقمعها المستتر تحت حاجة عائلية مزمنة لمورد مالي غير منقطع. تتهم البطلة والدتها (صفاء الطوخي) بحيلتها الناقصة في إدارة شؤونها وشقيقها، ولن تتوان من مهاجمتها جسدياً حينما تشهد تواطؤ أمها مالياً من أجل تسهيل أمر هجرة صقر، والتعجيل في إختفائه من حياتها الى الأبد. هذه الروح ذات الغُمّة، تسمم جروحها ريبة ذاتية قائمة على قناعتها بان الجميع ضد هوسها بأخيها، حتى شخصية الساحر (محمود حميدة) التي تتلبس طلّة إبليسية أرجوزية، وتجلس على عرش مضحك وسط أدران حي غارق بالدناءات والسفول، لن تغيثها تعويذتها البخسة بوقف دورة موت محقق. تصيب التعويذة صقر بالمرض من دون ان تخترق ما رُسم لهما: الفراق. يختفي "الساحر" لأن خياليته ليست سوى عامل إستكمالي غير قابل للديمومة ضمن صورة حياة وعرة وفجة. من هنا، فان إنتصارالمخرج أحمد فوزي صالح الى "الديكودراما" وإسلوبيتها الطليعية، هي وسيلته الدرامية الوحيدة للحفاظ على ألق سحرية "مستعمرته" وحكايتها وشخوصها، وبالذات حيزها الصادم الذي يتباهى بإنغلاقيته عن مجتمع قاهري مغيّب بشكل مريب، ونظام سياسي يمور بغله وعسكراتيته التي يصر "ورد مسموم" على التغاضي، بشكل متعمد، عن وجوده أو الإشارة الى نفوذه ودهائه. ان الكُربة الدرامية لتحية/ صقر هي وسم سينمائي، يعلن بشكل حاسم ان التباهي بعوالم الرزايا، أصبحت أكثر قبولاً بصرياً وذائقياً بين نخبة متعالية، تدعي أنها لا تشم فساد أمكنتها، ولا تخشى سموم عوراتها.

سينماتك في ـ  12 أكتوبر 2018

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)