لم يعد مهرجان مالمو للسينما العربية في حاجة الى
تقديم. فهو فعالية حركيّة وفريدة، معنيّة بخلاصات
الفيلم العربي وهمومه وإستحقاقته ومصاعبه ورهانته. هذه
مساحة حضارية معدودة الأيام، لكنها عميقة التأثير في
وجدان الجالية المقيمة في المدينة السويدية، مثلما
تماسَّها مع ذائقة مواطنيين سويديين، تستهويهم
حكاياتنا ومصائبنا ورزايانا التي تتعاظم يوماً إثر
يوم، ولا تغفلها أشرطة المسابقة الرسمية للدورة
التاسعة (4 ـ 8 أكتوبر 2019)، بدءاً من شريط محمود بن
محمود "فتوى" (102 د)، الفائز بجائزة "التانيت الذهبي"
في مهرجان قرطاج السينمائي(2018)، وجائزة أفضل فيلم
عربي في مهرجان القاهرة السينمائي للعام ذاته،
والجائزة الكبرى للمهرجان المغاربي للفيلم (2019)،
الذي يقارب ريبة والد تونسي مهاجر بشأن ميتة مفاجئة
لولده الشاب في حادث. حكاية شخص مكلوم تقوده فاجعته
الى النبش في واجهات إجتماعيّة وسياسيّة وعقائديّة
متباغضة وفاسدة في تونس ما بعد الثورة، وتحديداُ عام
2013، الذي شهد سلسلة من الإغتيالات السياسية،
والصراعات بين معسكري علمانيين ومتشددين.
يعود إبراهيم (أحمد الحفيان)، تاركاً خلفه في فرنسا
زوجته الثانية وإبنتهما، لتشييع جنازة إبنه الذي لقي
مصرعه في حادث دراجة نارية، إصطدمت بحاجز أمني، بحسب
الرواية الرسمية، بيد إن شكوكه تتزايد وتدفعه الى
التحقيق بنفسه في مصير مروان، مكتشفاً أنه ترك دراسة
الفنون الجميلة، وإلتحق بخلية إسلامية متزمّتة. يسعى
البطل ـ الضد الى تقصّي أسباب تطرّف ولده، ومَنْ يقف
خلف تورطه، والكشف عن أسباب وفاته. يقابل أم القتيل
والزوجة السابقة (المغنية المعروفة غالية بن علي)، وهي
واجهة الشريط التي تحتفي بقطاع نساء تقدميات وفاعلات
سياسياً في البلاد. سيدة، تقف بعناد في مواجهة
"الظلاميين"، وتنشط بثبات دفاعاً عن حرية فكر ومعتقد
ضد قوى تخلف وفكر إقصائي، أصدرت "فتوى" بإهدار دمها،
وإعتبارها كافرة ومرتدة، إثر نشرها كتاباً يفضح خفايا
أنشطتهم.
يعرض المخرج محمود بن محمود بطله كشخصية إستقلالية،
لها إيمانها بدينها، لكنها ترفض الإرتهان الى خطاب
تزمّتي وتكفيري. حين يصل الى حقيقة إن مَنْ تورط بدّم
إبنه، هم ذاتهم الذين جندوه. يعلن إبراهيم التهمة في
وجوههم، قبل إن تنحر سكاكينهم رقبته عند بوابة مطار
تونس. هناك تعصَّب من نوع أخر، لكنه أكثر مغالاة في
تشويقه السينمائي في نصّ المخرج المصري هادي الباجوري
"الضيف" (85 د) من تأليف الكاتب والصحافي إبراهيم عيسى
صاحب "مولانا". حكاية كاتب ومفكر تنويري، يستضيف
صديقاً لإبنته الشابة العصرية، قبل أن تتكشف لهم نوايا
الزائر الغريب. ما يحدث حول مائدة العشاء بين الدكتور
يحيى التيجاني (خالد الصاوي) وأسامة (أحمد مالك)، الذي
يُفترض قدومه لخطبة الإبنة فريدة، هي محاورات
ماراثونية ومناقشات حامية حول الخطاب الديني، تكشف عن
تبني الشاب أفكاراً متشدّدة. وحين تميل كفَّة السجال
لصالح والد الفتاة وفطنته العقائدية، تنعطف الأمور نحو
واقعة موغلة بالعنف والدموية، ذلك إن الضيف مكلَّف
بتصفية الرجل، وإنهاء مشاكساته ضد عقلية التشدُّد،
وووقوفه بصلابة في وجه المغالين بالدين.
أما ما يخصّ برزايا حيواتنا ومراراتها العاصفة بإنسان
هذه المنطقة ومستقبله ويومياته، يكون فيلم الإفتتاح
"في عينيا" لنجيب بلقاضي، الحائز على جائزة أحسن
سيناريو في مهرجان السينما الأفريقية (فيسباكو)،
وتنويه خاص من مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية،
وجائزة أحسن ممثل في مهرجان مراكش السينمائي الدولي،
وهو أحد نتاجات السينما التونسية التي تحتفي بها مالمو
في هذه الدورة، نموذجاً باهراً للنيَّة الناقصة
والأنانية الشخصية. مواطن تونسي يضطر الى ترك موطن
هجرته في فرنسا، والعودة إلى مسقط رأسه، كي يتولى
رعاية إبنه المصاب بالتوحد، بعد سنوات من البعاد عنه.
فيلم بلقاضي معني بسؤال جوهري حول قدرتنا على الإنتصار
الى إنسانية، نلحّ على تغيّيبها في ضميرنا وإلتزاماتنا
ووعينا الجماعي.
على منواله، يصوّب المغربي محسن البصري في "طفح الكيل"
(85 د) سهامه نحو جشع وأمراض مجتمع وحيل يومية، تقود
طبيبين الى صراع مرير. أحدهما مغربي، عاد من كندا من
أجل والدته التي توفيت لاحقا في المستشفى ذاته، ليقرر
البقاء من أجل خدمة بلاده، فيما يسعى الثاني إلى إقناع
مرضاه بإجراء عمليات في مصحته الخاصة، مقابل دفع
فواتير عالية. تدور غالبية أحداث هذا الفيلم داخل مشفى
عمومي بمدينة الدار البيضاء، وتُسرد من خلال معاناة
شاب، حاول الإنتحار بالقفز من جسر، إلا إنه يقع فوق
شاحنة نقل أغنام، حال وجود الحيوانات دون موته، لترسم
صورة قاتمة عن وضعية القطاع الصحي، وسيادة الفساد فيه
والإهمال والمتاجرة بأرواح مواطنين عاديين ومعوزين.
أما مواطنه صاحب "يقظة" (2003)، و"غضب" (2013) المخرج
محمد زين الدين، فيحافظ على روح سينماه ذات النفحة
الإجتماعية في جديده "امباركة"(102 د)، سارداً حكاية
شاب هامشي يدعى عبدو (المهدي لعروبي)، يعيش رفقة أمه
بالتبني التي يحمل الشريط أسمها (فاطمة عاطف)، وحرمتها
الظروف من نيل نصيبها من التعليم هي الأخرى، لكنها
غامرت في تطوير مهارات ذاتية، لتعالج سكان حي يقع في
ضواحي مدينة مشادة فوق ثروة معدنية خيالية. يطوّر زين
الدين نصّه، عبر خلق علاقة صداقة بين البطل الساعي الى
عبور جمود حياته عبر تعلم القراءة والكتابة، والشاب
اشعيبة (أحمد مستفيد) الذي يعاني من مرض جلدي. تقودهما
نصيحة الأول في علاجها الى إرتكابهما جرائم عنف وسرقات
وشطَّط إجتماعي.
في حين، يجعل المصري أحمد عبد الله السيد المدينة
الكبيرة حضناً واسعاً لشخصيات مهزومة في "ليل خارجي"
(98 د). ثلاث إرادات بشرية تجول في ليل القاهرة
وشوارعها، تفصلها عن الجموع طبقيات متشاحنة، ومحاسبات
أخلاقية متضاربة، وأحلام مؤوودة، ومشاريع خطط لن
تتحقق. "مو" بطل الفيلم، مخرج سينمائي شاب ومغمور في
الثلاثينيات من عمره، أخرج فيلماً يتيماً، ويعيش
يوميات مرحلة التحضير لفيلمه الثاني، مشكلته إن
مساراته تتقاطع مع شخصيات تجهله أو تحسبه مخرجاً أخر.
تضع الصدفة في طريق إبن حي المعادي، وهو حصن طبقة
إجتماعية فوق متوسطة، سيارة أجرة وسائقها، ولاحقا فتاة
ليل، ليكتمل مثلث درامي يبحث عن هويات ضائعة وبهجات
مزيَّفة ومشاعر غير مكتملة وحريات مرجَّومة وفجوات
إقتصادية طاحنة وبلطجة ومخدرات وسوء نيّات، خلال ليلة
قاهرية واحدة. في حين يضع اللبناني بهيج حجيج في "غود
مورنينغ" (87 د) بيروت كخارج مدمَّى بجراح الطوائف
ومؤامراتها، والزبالة ونتانتها، والعزلات وقهرها
الإجتماعي، يراقبها عجوزان متفكهان داخل مقهى. نسمع
تعليقاتهما وفجاجاتهما كوجه أخر لرزايا مدينية، تتعمق
في كل مشهد.
في باكورته التي جاءت بعد النصّ القصير "رؤوس دجاج"
(2009)، يسرد الفلسطيني بسام الجرباوي في "مفك" (108
د) قصة الشاب زياد الذي يعيش مع أسرته في إحدى
المخيمات الفلسطينية، ويعشق كرة السلة، قبل أن تنقلب
حياته رأسا على عقب مع مقتل أقرب أصدقائه برصاصة،
تُطلق من جهة المستوطنات الإسرائيلية، وتدفعه للمشاركة
في هجوم على رجل يعتقد أنه مستوطن إسرائيلي، يلقى
القبض عليه ويدخل السجن لمدة 15 عاماً، يخرج بعدها
شخصاُ مختلفاُ، لا يستطيع التكيَّف مع محيط يعتبره
بطلاً شعبياً، في وقت تتكشف له حقيقة إنه إرتكب حماقة،
قتل فيها رجلاً فلسطينياً عابراً. قال الجرباوي في
مقابلة مع وكالة "رويترز" (27 سبتمبر 2018): "وددت عمل
فيلم روائي فيه شخصية غير نمطيّة، تجسد كل المشاكل
والمعاناة التي يواجهها الأسير الفلسطيني بعد تحريره.
وددت تجسّيد المعاناة للعالم الخارجي ولنا نحن أيضا
بشخصية واحدة، لذلك جاءت شخصية زياد غير نمطيّة".
أخيراً، هناك الشريط الجديد للعماني خالد الزدجالي
"زيانة" (90 د) الذي يحكي قصة شابة (نورة الفارسية)
تواجه محنة قاهرة إثر تعرضها الى واقعة تحرَّش جنسي،
تُحوّل حياتها إلى جحيم، وتدفعها تداعياتها الى مغادرة
البلاد والتوجه إلى الهند، لتختفي وتنقطع أخبارها، قبل
أن يقرر زوجها عادل (علي العامري) السفر الى هناك،
بحثًا عنها، ليقود مخرج "البوم" مشاهده نحو بقعة
سينمائية حساسة حول جرائم جنسية تنتشر اليوم بسرعة،
فيما تدفع ظروفها الإجتماعية والأخلاقية، ضحاياها أما
الى الصمت أو الإنكفاء أو الفرار، كما هو حالة زيانة.
|