لنتفق على إن مهرجان القاهرة السينمائي بقي واجهة
مُثْلَى لـ"تجميع" أفلام العرب، وشحن جدولة عروضه بما
كان يتوفر، ضمن سياسة عروبية، وكدتها عزيمة رئيسه
الراحل سعد الدين وهبة، ولم تنته حتى اليوم، لكنها
عانت من نكوصات متوالية، هي في غالبيتها مسيّسة، جعلت
وجود السينما العربية ضحية صراعات أنظمة متنافسة،
أكثريتها جاهزة للتخوين ومصادرة الحقوق. كان هاجس
الرجل الحازم والشديد المسلكية أن يجعل من هذه
الإحتفائية الأكبر في الشرق الأوسط منصّة "أبويَّة"
تعطي "شهادات ولادة" لمخرجين عرب، حيث إنه لم يُغو
بموضوع تزعَّم تيارات أو مذاهب جديدة. هذه السياسة قفز
عليها وغنمها مهرجان مواز هو "دمشق"، الذي عزَّز
تاريخه لاحقا بإطلاق ما أصطلح عليه بـ"تيار السينما
البديلة"، ولم يستمر هذا التيار طويلاً، إذ تم وأده
سريعاً بسبب مؤامرات بعض المرتزقة.
أيامذاك، لم تكن العناوين العربية كثيرة، إلا إنها
مميَّزة بسبب رياداتها، وتأني أصحابها في كتابتها
وتنفيذها وصناعتها وتمرير حيلها، ذلك إن المحاسبات
المتحزّبة كانت شائعة ولا ترحم. صحيح إنها (المحاسبات)
في مجملها ذات عقلية رجعية وعشائرية وأوتوقراطية، غير
إنها وقفت الى صالح "سينما نمط" بإعتبارها أداة دعاية
وإمتاع، لن تجرؤ على مسَّ ممنوعات أو تجيير نقود أو
الغمز بشعارات مغرضة وغيرها. ما حدث إن الغثّ السائد،
خصوصا في السينما الجماهيرية، غطى لحسن الحظ على
"إنقلابات سينمائية" مشهودة بمواقفها ونَّبرتها
الإبداعيتين، ساندتها نخب مثقفة وأكاديمية، وحملت
عناوين مراوغة فلتت من سطوات حكومية، على شاكلة "سينما
الموجة الجديدة" أو"سينما الواقعية الجديدة" أو
"السينما المستقلة" أو"جماعة السينما الجديدة" وغيرها.
حينما كان "القاهرة" قوياً، كانت كل السينما العربية
حاضرة فيه. الكثير من مخرجيها يحسب حسابات كثيرة
للدفاع عن نصّه أمام جمهوره، ذلك إن المواجهات كانت
حماسية، ولن تصل الى حدود قطيعة أو عداء أو إستهانة.
المشكلة أن الغالبية كانت مسيّرة في خطط إنتاج
أشرطتها. كثرة منهم أشبه بموظفي دولة، يأتمرون بمؤسسات
سينمائية ذات إدارات متزمّتة وثعلبية السلوك. وأعداد
أخرى منهم، وقعوا تحت طائل سياسات شركات إنتاج ذات
محسوبيات معقدة، إدت خلال فترات التسعينات الى تسهيل
"إستجداء" مخرجين شباب عرباً دعوماً من صناديق
أوروبية، ذات أغراض مؤدلجة ملعونة. الحاسم إن هذه
الفورة وحميّتها أدتا بشكل غير مباشر، الى تأسيس
واجهات عالمية لعروض الفيلم العربي. هي في مجملها (ما
عدا "مهرجان مالمو للسينما العربية" بالسويد المميز
بإمتلاكه منصّات حيوية داعمة للإنتاج) هي عبارة عن سلة
عروض، لها أهميتها التعريفية، بيّد إن قصورها يكمن في
حاجتها الماسة الى "عناوين" تسدّ فراغات جدولتها. وهي
بذلك تابع وحيّز إحتفائي لـ" تسليط ضوء" كما تحلو
لإداراتها إعلانه، وليس كيانات تؤسّس سوقاً وذائقة.
تعي إدارة "القاهرة" اليوم إن على المهرجان العتيد
إعادة تفعيل مهمة "إحتضان" الفيلم العربي بعروضه
وصناديق دعمه وندواته وتبادل عناوينه، وهي سياسة
يتشارك فيها مع "الجونة" و"قرطاج" و"البحر الأحمر" حتى
وقت إفتتاحه في مارس (أذار) 2020، نظراَ للهبّة غير
المسبوقة التي تشهدها السينما العربية في الأونة
الأخيرة، وتنوّع مساراتها وتقنياتها وخطاباتها،
تماشياً مع تعدَّد وسائط العروض والأسواق والإهتمامات.
إن قرار إدارة المنتج وكاتب السيناريو محمد حفظي
وفريقه في "إستقدام" أكبر قدر من العناوين العربية،
وعرضها على شاشات القاهرة هي نقلة نوعية شجاعة، وعلى
قدر عال من المسؤولية. أولا، إن "القاهرة" يستعيد دوره
الريادي بعد فترات من التردّد وتسيَّد عقلية
بيروقراطية عتيقة. ثانياً، إن قوّة "القاهرة" بضمان
مشاركة الفيلم العربي يجب أن لا تستكفي بإغواءات
الإستحواذ وإنتصاراته الفارغة، بل على إدارته تعزيزها
بجدولة مقنّنة ومحسوبة الخطوات والفائدة، لفكرة التحرك
وضروراته من أجل تهيئة أرضية عملاتية لإطلاق نهج
سينمائي (ربما تيار أو موجة أو غيرها)، يطلق روحاً
حداثية لصناعتنا المحلية التي فقدت ملامحها النقدية
منذ زمن وبلا خجل. أرى إن "القاهرة" بتاريخه الطويل
وتعقَّد مساراته، يتوجب عليه اليوم، وعبر شراكات مع
المهرجانات المحيطة به، العمل على تأسيس مركزية
إقليمية، لضمان سيرورة دائمة وتفاعلية لسينما عربية
ديناميكية بفنياتها، ومغايرة بمقارباتها الإنسانية،
وإستقطابية برؤيتها لمجتمعاتنا التي تشهد هزّات، تطال
السياسة والأعراف والقيّم والإلتزام العقائدي. لعل
أبلغ أمثلة عنها في الدورة الـ41 (20 نوفمبر ـ الأول
من ديسمبر 2019) لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ما
شعّ في شريط التونسي مهدي برصاوي "بيك نعيش" الذي
يحوّر محنة زوجين بإصابة بالغة يتعرض لها إبنهما
وكبده، خلال إشتباك بين رجال أمن ومسلحين إسلاميين،
الى مقاربة ضميرية لمفهوم العائلة والظنون والثّقة
والمشاعر، ومثلها السياسة والدهاء والفساد. يبان ذكاء
باكورة برصاوي في إختزاليّة مكانيّة مدهشة، ضمَّ
حيّزها الكئيب داخل مستشفى محلي عذابات كائنين يكتشفان
سرّاً مقيتاً يحطم ما تبقى من أمانهما الأسري الذي كان
في حكم الراسخ (إنظر نصّنا عن الشريط ضمن خانتنا
الخاصة). ومثل برصاوي، حافظ صاحب "إنتظار الخريف"
(2015) و"مطر حمص" و"مسافرو الحرب" (2018) السوري جود
سعيد على عناده السينمائي بخصوص مآلات الحرب التي
تشهدها البلاد في جديده "نجمة الصبح" (جائزة الجمهور
في مهرجان قرطاج 2019)، مستعرضاً تقاطعات درامية بين
شقيقين تشتَّتهما ويلات معارك وفظاعاتها ووحشيتها
وموتها المجاني، مقارباً رؤية قاتمة حول عسف لا يرحم
تواجهه النساء السوريات وجراحهن وذكرياتهن وفقدهن.
ثيمة الحرب هي صُلب باكورة العراقي مهند حيال "شارع
حيفا" (79 د، ويتشارك مع الشريطين السابقين في التنافس
ضمن "مسابقة آفاق السينما العربية")، الحائز على
الجائزة الثانية لأفضل فيلم في مهرجان بوسان السينمائي
بكوريا الجنوبية 2019، حيث يختزل الشارع الشهير في
العاصمة بغداد، تداعيات حروب متوالد على أناس يصرّون
على إستمرار حيواتهم. حكاية تدور أحداثها في العام
2006، بطلها أحمد، الرجل الأربعيني الساعي الى طلب يد
حبيبته سعاد، لكنه يتعرض الى طلق ناري من قناص متمركز
على أحد الأسطح. شاب يعاني بدوره من هزائمه وأزماته.
نصّ مشحون حول القسوة والتواطؤ والذمَّم الميتة. على
منواله، يتمعَّن اللبناني أحمد غصين في باكورته "جدار
الصوت" (ضمن المسابقة الدولية، ومعه نصوص المصرية
ماريان خوري "إحكيلي"، والفلسطينية نجوى نجار "بين
الجنة والأرض"، والعراقي السويسري علاوي سليم "أبناء
الدنمارك") في ثيمة الحرب من باب أخر، مزدوج الدلالات.
فهو من طرف سينمائي حكائي، إستعراض لمحنة بطل شاب يسعى
للعثور على والده الذي فضل البقاء في قريته الجنوبية،
رغم تقدم قوات الإحتلال الإسرائيلية داخل العمق
اللبناني خلال حرب العام 2006، ومن طرف أخر، هو نظرة
فلسفية تعتبر إن مَنْ لم يشارك في حرب ما لن يقاربها
سوى كصوت!.
عودة الى تظاهرة "آفاق السينما العربية"، يتنافس كل من
العراقي السويسري سمير بجديده "بغداد في خيالي" (106
د) حول مجموعة عراقية مهاجرة في لندن، تتّخذ من مقهى
يديره شيوعي كردي، خشبة مسرحية مستعارة لعرض الشحن
السياسي والطائفي والعرقي بينهم، على خلفية حكاية شابة
هاربة من عنف زوجي، يتبعها الى قلب العاصمة
البريطانية. من الجزائر، تعرض فاطمة الزهراء زعموم
"باركور" (81 د) الذي كتب عنه مبرمج "آفاق" الناقد
والقائم بأعمال المدير الفني للمهرجان أحمد شوقي في
تعريفه بالشريط: "دراما متعددة الشخصيات، تدور أحداثها
خلال يوم واحد مشحون بالأحداث. تتطور فيها مواقف بسيطة
إلى صدامات كبيرة تعبر ـ في بعض مستوياتها ـ عن صراع
طبقات وأفكار وأجيال داخل مجتمع جزائري، يحاول شبابه
الإمساك بزمام حياتهم ومستقبلهم، بينما يسعى كل من
حولهم الى تكبيلهم بقيود أعراف ونظم وأحكام مسبّقة.
فيلم عن التمرد، تمزج مخرجته بين السرد الكلاسيكي
وأغاني الراب وفن قفز الباركور، لتنتصر الى كل ما هو
شاب ومندفع وراغب في الدفاع عن حبه وحريته".
أما السعودية شهد أمين، فتستلف أجواء الأمثولة الشعبية
في باكورتها "سيدة البحر" (76 د)، الحائزة على جائزة
"فيرونا" للفيلم الأكثر إبداعاً في تظاهرة "أسبوع
النقاد" بمهرجان فينيسيا 2019، لتجعل منها مقاربة
درامية حول إستحقاقات تغيّير مجتمعي يطال دور المرأة
ومكانتها وحقوقها. حكاية خيالية عن سعي صبية الى
التحكم بمصيرها، فتتحدى تقاليد ظالمة في قرية بحرية
نائية، تقدم العائلات فيها إناثها أُضحيات الى مخلوقات
غريبة تعيش في لجة الماء. يتجسد هذا السعي مرّة أخرى
في شريط "نساء الجناح ج" (97 د) للمغربي محمد نظيف،
عبر حكاية 3 نزيلات في جناح الطب النفسي بالدار
البيضاء، من أعمار وخلفيات إجتماعية مختلفة، يواجهن
معاناتهن سوية، قبل أن يُشكّلن، برفقة إحدى الممرضات،
صداقة جماعيّة قوية. يمكنهن تسللهن ليلاً إلى الخارج
في إستعادة الروح في حيواتهن المهزومة. أما مواطنه حسن
بنجلون، فيعرض "من أجل القضية" (93 د) حول محنة موسيقي
فلسطيني ومغنية فرنسية أرادا عبور الحدود من المغرب
نحو وهران الجزائرية للمشاركة في حفل موسيقي فيها.
ليجدا نفسيهما رهينتي جسر رابط بين البلدين، بسبب
قوانين الحدود العبثية.
ختاماً، ضمت خانة " آفاق" ثلاثة أشرطة وثائقية مميزة
هي "بيروت المحطة الأخيرة" ( 76 د) للبناني إيلي كمال
عن رحلة عبر السكك الحديدية في ربوع البلاد أو ما تبقى
منها، تعكس محنة وطن. أما "أوفسايد الخرطوم" (76 د)
للسودانية مروة زين فيحكي عن شابات في الخرطوم يتحدين
حظر تشكيل فريق كرّة قدم نسويّ. في حين، يعرض شريط
المصري سيف عبد الله "نوم الديك في الحبل" (90 د) حالة
جماعية غربية وإستثنائية، يتعرض لها المقيمون
السودانيون في القاهرة، تجعلهم يعيشون حالة غير مستقرة
بين نوم ويقظة، تحمل أسم الفيلم. |