لننس لهجة الجندرية وهوياتها وخطابها العنيد في باكورة
السعودية الشابة شهد أمين "سيدة البحر" ("حراشف"
بالإنكليزية). لنضع جانباً البطريركية الذكورية
وحُيوفها ومظالمها التي سادت طوال الشريط، متمثّلة
برجل متسيَّد ومنافح، يشحذ همَّم الشباب بأوامر وحقائق
على شاكلة: "إحنه نملك الشجاعة نقدم بناتنا للمويه
(الماء)، ولازم نتحلى بشجاعة أكبر علشان نصيدهم". لننس
نيّة نصّ أمين في إستدعاء أسطورة الألهة السورية
"أتارجاتيس"، وتحولاتها الى حورية بحر تسعى الى
إنتقاماتها الأزلية. ما هو مؤكد إن المؤلفة الموهوبة
عزمت، منذ مشهد إفتتاحي يصور قافلة رجال يحملون قماط
وليد عند ساحل معزول، تحرسه جبال وحشية ومياه بحر
سوداء، على تجيير سؤال الوأد القديم وعار جرائمه
وغدره، كمناورة سينمائية تسعى الى تأويل عودته المخزية
في ألفيتنا الثالثة.
قد يبدو أن موضوع وأد البنت إِنْقَمَع، لكن حكاية
"سيدة البحر"، تستدعيه ثانية من باب موارب وذكي
وتشكيلي، مثيرة لعنة "مخافة عار" الشائعة آنذاك، وكانت
تُرتكب ضمن أعراف ثيوقراطية جاهلية عند أوائل العرب،
لتؤفلمها ضمن "زمان مُلْتَبس المعالم"، وتحت عنوان
أكثر شراسة هو "إستبراء أرحام"، يتمثل هنا في تحوّل
قرابين صبايا الى حوريات، يجب صّيدهن لاحقا وقتلهن
وأكلهن، سعياً لكفارة من سيدة ماء بلا مرحمة. لن نرى
غيلان شهد أمين بل نلمح ذيولها العظيمة، عبر أسلوب
مونتاج هوليوودي بحت، ذلك إنها ليست سوى تهويل بصريّ،
يبرَّر حصاراً مموَّهاً (وربما أزلياُ) للمرأة في
مجتمع ظالم، عماده ذكور يرون إن "العادات تقيدنا"، حسب
إعتراف مثنى (يعقوب الفرحان) لإبنته البطلة، من دون أن
يفلح الجميع في إيجاد خلاص حقيقي يُنهي محنتهم
المتوارثة. ما تفعله حياة، التي أنقذها والدها في
لحظات أخيرة من "قدرها" الأسود، هو إستكمال إختيار
مصيرها ضمن كينونة رجولية ضاغطة، وشبه مسيَّرة. وفيما
يصرخ كبير الصيادين (الممثل الفلسطيني أشرف برهوم):
"يلا يا أولاد، رجعوا اللي أخذوه مننا"، يجعل من
تعامله النافر مع الفتاة وإمتهان وجودها الفسلجي،
وسيلة إقصاء عرفيّ لأنثى ملعونة، رُميت في بحر كافر،
لكنها "حرنت"، وعادت بقدرة تحنَّن قلب والدها وتمسَّكه
بإنسانيته، ليحلَّ الخزيّ على صيادي القرية
المتخيَّلة، ويتمنَّع البحر من مدّهم بخيراته، وتصبح
أعمارهم قائمة على منهجية شبه خلاصية، لكن من دون حسم،
ذلك إنهم عبيد دورة حياة عقيمة محكومة بين قربان
وشروطه، وتأبيد البحث عنه وتأمينه.
هذا "مجتمع صفر"، حيث لا تاريخ منسوباً، ولا نهج حياتي
مرسوماً. هم مجموعة بشر، يصنفون ببساطة كتقابلات على
النحو الآتي: اليابسة = الرجل. اليمُّ = المرأة.
بينهما تقع جغرافية بلا ملامح، بلا أسطرات، بلا
ثقافات، بلا طبقيات، بلا ديناميات محلية. فوق هذا،
إنها أرض (ساحل + جبل) يقطنها مجتمع بلا ديانة معلومة
أو عقيدة واضحة. هذه عناصر أساسية لمحاججة أيديولوجية،
ترى في هذه الكومونة العجائبية عجزاً في إمتلاك
مرجعية عقلانية، بمعنى أن تكون إنموذجاً بشرياً يُمكن
إسقاطه على مثيلاته قديماً أو حديثاً. ولولا فكرة وأد
شاعت ثم بادت في جزيرة العرب، وجعلتها شهد أمين مسرحاً
مركزياً في حكايتها، تقود علاقة فتياتها بأنفسهن
وأجسادهن أولاً، قبل أن يستكشفن إختلاف تعامل غير منصف
يواجهنه من قبل الأخرين لاحقا، لما أصبحت ـ بالإضافة
الى الموسيقى وأغاني البحر الخليجية القديمة ـ مسوّغاً
لنا يوكد إن الحكاية يمكن وقوعها في عقر دارنا، أو أيّ
مكان أخر. لكن، هل هذه حقا معضلة شريط أمين؟. نعم.
السبب إن لعبة النسوية أوقفت النصّ عند سكونية درامية،
فلا الصبية تمثل قيمة إعتبارية عامة، رغم إلحاح
المخرجة على إنها مثال يرفض مبدأ "الذبيحة"، فحياة
تقول جملة ملّتبسة وإنتكاسية، وهي تخاطب رفيقتها التي
ستكون لاحقا باب إنعتاق قوّتها وبأسها، وتأكيد مكانتها
الحقّة: "منال، يمكن كان في خيار أخر". ينتظر المشاهد
هذا الخيار طوال الـ 74 دقيقة مدّة الفيلم، من دون أن
يُحقق إنقلابه التراجيدي، بدلاً منه، نتابع مناكفات
كبير الصيادين ضد "وجودها" المنبوذ: "دائما تعرفين خط
الرجعة"، أو "ضعيفة مثل أبوكِ"، أو"بنت! ما كفتك
المشاكل اللي عملتيها للآن". حين يحاول إرغامها على
القفز من قاربه، ومشاركة صبيانه صيد الحوريات، تناضل
ضد عضلاته وقسوته و... سطوته. فهو، في نهاية المطاف،
ليس خصماً بل "ضحية ظروف" أخرى مثلها تماما. الفارق
الوحيد، إن الرجل مجبول على طاعة قدره، فيما تملك
المرأة وصفتها السحرية في المناورة. الحاسم كما قالت
أمين في حديث صحافي أن: "إيديولوجية الفيلم المعلنة
تشير الى إن الذكور يقررون مصير أناثهم". هذا شعار
كبير وحقيقي في مجتمعاتنا القبلية والموغلة في
تقاليدها، لكن الطريقة التي صوغ بها سينمائياً، لم
تجسده كقيمة تحريضية في الفيلم، إذ تمت كتابته كبيان
مؤدلج بتقريرية بالغة الوطأة والكمد، ما جعل مشاهد
العربي تحديداً، كما حدث بُعيد عرضه في تظاهرة "آفاق
السينما العربية" في الدورة الـ41 (20 – 29 نوفمبر
2019) لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ينفر منه،
ولم يستسغ خطابيته، أو مغالاته في مجازيات عالم حياة
"التي تأتي من أعماق البحر. عالم داخلي وليس خارجياً"
حسب أمين، رغم الطابع الباذخ لصوره وتكوينات مشاهده
الأخاذة التي أنجزها مدير التصوير البرتغالي الموهوب
جواو ريبيرو، المعروف بإشتغاله المميَّز في شريط
مواطنه إيفو فيريرا "رسائل من الحرب" (2016).
حاصرت أمين، ولدت في جدة بالمملكة العربية السعودية في
عام 1988، عملها الأول بثقلين مسيَّسين هما: تصوَّر
هجين لسلطة خياليّة مقلوبة. يفرض طاغيها إرادته بقوّة
تلميح من تحت الماء، وليس كياناً يتمثَّل أمام ضحاياه،
تشير له الصبية حياة مرّة واحدة بـ: "هم تحتنا"، لتصبح
صرختها بمثابة نعوة فانتازية لنظام قائم، شرس، داهية،
لن يتوانى من تدمير مناوئيه وإقصائهم، لكن من دون
مواجهة حاسمة. ما يجعل من الفيلم ومغامرته، مع حسن
النوايا التي لا شكّ بصدقيتها، أشبه بمحمول تاريخي
لنسوية بلا حماة، كانت تُقرَّر مصائر أُناثها مسبقاً،
قبل أن يولد طفل ذكر (شقيق حياة)، تقول عنه والدتها
بأسى: "هذا الطفل يستاهل يعيش"، ليصبح طوق نجاة
الكُلّ، وممهد الدور الحاسم للبطلة كي تقدم نفسها
أُضحيَّة بديلة عنه. وهي نقلة تؤدي بالشريط نحو العبء
المسيس الأخر، أو ما أسميه بـ "النبوة الأنثوية"، ذلك
أن حياة تنتقل عبره من حالة كُمُون الإنكسار
والنبَّذ، لإن يد القدر قادتها بعيداً عن براثن وحش
بحر، يحوَّل الفتيات إلى حوريات، لتنغمر من دون تلكؤ
في "معارك" توكيد إرادتها وكينونتها. تقف في وجه
المتسلّط، ولا تترك مكانها ومكانتها، كصنو فاعل يشارك
ذكور القرية أعمالهم وصيدهم وصراعهم اليومي من أجل
لقمة عيش جماعية.
بشارتها موجودة في قناعات الأخرين بها كامرأة حرّة.
بنزعتهم في قبولها ككائن طاهر. تُحقَّق اليافعة حياة
بشارتها مع نجاح إعادتها جثة صديقتها فاطمة من لُجّة
البحر ودفنها، بدلاً من تقديمها وجبة طعام لأهالي
القرية، يأكلون القسم السمكي من بدنها، كما هو حال
الفتيات الحوريات الأخريات من قبلها. معلنة موت أعراف
قريتها ولعناتها التي حاصرت حرياتهم على مدى دهور
طويلة. قبل أن تحدث بشارتها الختامية، حين تعود مياه
البحر وخيراته لتتصالح مع شواطىء القرية السحرية
وصخورها ويبابها وضمائر أهلها، إيذاناً بـ"مجتمع أخر"،
تفشل شهد أمين الى التلميح له، أو على الأقل وضع شارة
بيانية الى عقيدته وخلاصتها (ليس بالضرورة حرية المرأة
وحسب). هذه زَّلة، جعلت الفيلم يُنهي حجته الباهرة حول
موضوع وأد البنات الحداثيّ وفانتازياته بتنميط مراوغ،
أصبحت منقصته الأخلاقية. زّلة، هي نتاج واضح الى عقلنة
سينمائية، زاد عيارها وثقل ظلها أكثر من اللازم، الأمر
الذي غطى على أهم عنصر، يتوجب المحافظة عليه في أيّ
عمل سينمائي ألا وهو: متعة المشاهدة، التي غابت في
"سيدة البحر" وميثولوجياتها الى صالح تجريب صوري باهر
بلونين أبيض وأسود (وهو ما يحسب للمخرجة الشابة كقرار
رؤيوي صائب)، وتشكيلات بصرية منفَّذة بدراية وحرص
فنيين محكمين، رغم كونه فيلماً صغير الإنتاج نسبياً.
بيد إن الفخر كُلّه يذهب، من دون تردَّد، الى
إستقلالية مخرجته شهد أمين وجهدها وموهبتها. |