السينما لا تندَحْر. لن تغلبها طوارىء. تستقوي السينما
بجماهيريتها التي لا تنضب ولا تنكفىء. ما واجهه
العالم، منذ ما يربو على العام، كان وقت ظلامياً
وعصيباً. اليوم ومع تعميم اللقاحات، ينتظر الجميع
فكاكاً مضموناً من تعطيلات جائحة "فايروس كورونا"، كي
يستعيدوا حيواتهم وإيقاع أيامهم وروتينها، وأن تصبح
أوجه الحياة موكدة كما عهدها السابق.
السينما، هي أحدى نزعاتنا للجماعية وطقوسها
وتعاضداتها، كما المدارس والمسارح وأماكن العمل ومراكز
الترفيه والرياضات وغيرها، التي تضررت بشدة بسبب
الإغلاقات. صناعتها إهتزت، لكنها لم تتراجع. أصابت
المحظورات والموانع قلب عروضها وشاشاتها ودورها وليالي
إطلاق جديدها... وأيضا عمت الإضطرابات مهرجاناتها
الدولية التي تعد العصب الحاسم في تجارة عناوينها
وأخبار نجومها وصفقاتهم وفضائحهم ونمائمهم.
بعض تلك المهرجانات "تحايل" على حالة الإقفال، كما هي
شجاعات "كانّ" الفرنسي و"فينيسيا" الإيطالي و"سان
سباستيان" الإسباني و"القاهرة" والجونة" عربياً
وغيرها. حافظت على تقليد كاد أن يُقتل بقوانين
إحترازية شديدة الصرامة، فيما حاصرت موجات جديدة من
الفايروس نظيراتها الأخريات، وأرغمتها على الإنكفاء
أوالتأجيل.
وحدها، قيادة مهرجان برلين السينمائي (البرلينالة)،
المكونة من رئيسيها المدير الفني كارلو شاتريان
وزميلته التنفيذية مارييت رايزنبيك، اختارت مبدأ
الإستمرارية. جاءت بفكرة "تفكيك" الحدث الكبير الى
قسمين. الأول (1 ـ 5 مارس 2021)، خاص بأهل المهنة من
منتجين وموزعين وسوق وأعلاميين ومسابقات، يُنظم عن بعد
وعبر الوسائط. الأخر (9 ـ 20 يونيو 2021)، خصصته الى
العروض الجماهيرية وليالي (غالات) توزيع الجوائز،
تُنظم جميعها بأقصى سياسات الحيطة، من تباعد إجتماعي
وتعقيم وحصانات طبية وصحية. يعول فريق الـ"بودستامر"
(الحي الشهير حيث مقر الفعالية) على الفقرة الأخيرة،
كونها الكفيلة بعودة المشاهدين الى الصالات. يعرف مَنْ
يأتي الى العاصمة الألمانية سنوياً إن جمهور برلين هو
الأكثر حماسة الى عروضها. تعد طوابيرهم، عند منافذ بيع
التذاكر في ساعات الصباح الباكر، علامة فارقة لا تُحسب
سوى الى هذا المهرجان العريق في المشهدية السينمائية
الأوروبية، حيث يرفدون ميزانيته بملايين اليوروات، عبر
تناديهم الى صالات، تكون عموما كاملة العدد، بعد ساعات
من إعلان البرنامج العام. هذه المرة، المداخيل هي إحدى
ضحايا تقليصات الكراسي وأعداد شاغليها. ترى رايزنبيك،
علاجاً لنقص ميزانية الدورة المقبلة وضمان إنعقادها،
أن يستهدف المهرجان راعيه الأساسي، أيّ وزارة الثقافة،
من أجل تأمين أموال إضافية، عبر صندوق مشروعها الخاص
لعام 2021، المعني بمساعدة النشاطات الثقافية التي
تأثرت بالوباء.
****
المسابقة الرسمية للدورة الـ71، لم تتأثر بالتشكيلات
المصغرة التي فرضها شاتريان، وطالت أعداد الأفلام
المشاركة في خانات أخرى. هناك 15 شريطاً روائياً، منها
أثنان فيلم أول، تتنافس للحصول على الدب الذهب الأثير.
منها جديد صاحبي "البيت الزهر" (1999)، و"رماد"
(2003)، و"يوم أخر" (2005) الثنائي اللبناني جوانا
حاجي توما وخليل جريج "دفاتر مايا" (100 د، "صندوق
الذكريات" حسب المهرجان)، المستند الى ذكريات عائلية
خلال الحرب الأهلية، يصوغاها كثيمة درامية إستعادية،
تقارب ما بين شأن شخصي وتاريخ حقبة موغلة بالدم
والطائفية. حكاية السيدة مايا المستقرة في مونتريال
بكندا مع والدتها وإبنتها المراهقة أليكس منذ 30
عاماً، تتلقى عشية أعياد الميلاد، شحنة بريدية غير
متوقّعة، تضم دفاتر وأشرطة كاسيت وألبومات صور، كانت
مايا أرسلتها عندما كانت لا تزال تعيش في بيروت إلى
أعز صديقة لها، هاجرت الى فرنسا عام 1982. ترفض البطلة
فتح الصندوق ومواجهة ذكرياتها، بيد أن مقتنيات الشحنة
من صور فوتوغرافية ومذكرات، تثير فضول الإبنة، لتستكشف
عبر أرشيف ثري حياة أمها وأسرارها. تستعيد أليكس عوالم
مراهقة مايا الصاخبة، ومغامراتها العاطفية خلال تلك
الحرب الملعونة، بصيغة سينمائية تداور الخيال والواقع،
وتطلع على ما خفي من ماض يأبى الموت والتغييب.
فيما يختار الإيرانيان بهتاش صناعي ومريم مقدم
(المعروفة بتمثيل الشخصية الرئيسة في نصّ مواطنها جعفر
بناهي "الستارة المسدلة" 2013) في شريطهما المشترك
الثالث "إنشودة البقرة البيضاء" (105 د)، عالماً
عائلياً أخر، تنقلب فيه حياة السيدة مينا رأساً على
عقب، عندما تعلم أن زوجها باباك بريء من الجريمة التي
أُعدم من أجلها. تعرض السلطات دفع تعويض مالي، درءا
للفضيحة، لكن مينا تقرر الدخول في معركة صامتة ومضنية
للحصول على إعتذار رسمي من نظام يسعى الى إخراسها
وابنتها الصماء. تتعقد أمورها مع نفاذ المال اللازم
لدفع أتعاب المقاضاة المرجوة. ذات يوم، يقرع بابها رجل
يدعى رضا، يخبرها إنه جاء كي يدفع ديناً قديماً،
إستلفه من زوجها باباك. تتوجس مينا من الغريب، بيد أن
حاجتها الى سند ما، يُرغمها على السماح له في التدخل
بحياتها على نحو متزايد، غير مدركة للسر الذي يربطهما
ببعض.
المخرج الياباني ريوسوكي هاماغوتشي الذي عرف شهرة
نقدية عالمية مع فيلمه "أساكو 1 و11" (كانّ 2018)،
يشارك بجديده "عجلة الحظ والفانتازيا" (121 د)
المكوَّن من ثلاثة مقاطع حول الحب. يحمل الأول عنوان
"سحر، أو شيء غير مؤكد"، قصة الشابة ميكو التي تكتشف
إن الرجل الذي تتحدث عنه صديقتها المقربة، وتوكيدها
إنه مغرم بها، ليس سوى حبيبها السابق الذي إنفصلت عنه
قبل عام ونصف، لتحتار بشأن خطوتها المقبلة. أما عنوان
المقطع الثاني "باب مفتوح على مصراعيه"، فيشير الى
عالم أستاذ جامعي في الخمسينات من عمره، وحائز على
جائزة أكوتاغاوا الأدبية المرموقة، يتعرض الى حقد
طالب، فشل في إمتحان تخرجه، فيخطط الى خداعه حين يزور
مكتبه، بمساعدة من زميلة له في الفصل، تكن للأستاذ
حباً خفيّاً، لكنها تغفل مؤامرة الشاب. في حين يصف
المقطع الثالث "مرّة أخرى" صدفة لقاء بين مهندسة أنظمة
ألكترونية، عاطلة عن العمل نتيجة لفيروس كمبيوتر، تحضر
لقاء جامعياً للطالبات للمرة الأولى منذ عشرين عاماً
حيث تقابل أمّ مع وليدها، سرعان ما تعرف إنها زميلتها
في الفصل، إفترقتا منذ التخرج. تتبادلان الأحاديث،
وتستعيدان خلالها مشاعر حب متبادل ظل حبيس مهجتيهما،
من دون أن يمتلكا شجاعتيهما للفصاح عنه.
على منواله، يصور الكوري الجنوبي هونغ سانغ سو في
"تقديم" (66 د)، وهي مشاركته الخامسة في المهرجان،
وحصوله على الدب الذهب لأفضل مخرج عن "المرأة الراكضة"
(2020)، ثلاث تجارب شخصية يمر بها شاب، عند زيارات
خاصة يقوم بها، كل واحدة على حدة، لوالده وووالدته
وحبيبة سابقة. فيما يقارب الجورجي الكسندر كوبريدزه
في "ماذا نرى عندما ننظر إلى السماء؟" (150 د) مفهوم
الحب الحقيقي في الحداثات الأوروبية، عبر حكاية غرام
من نظرة أولى بين الشابين ليزا وغيورغي، تحدث بالصدفة
في أحد شوارع مدينة كوتايسي الجورجية. "يصدمهما الحب
فجأة ، حتى أنهم ينسيا أن يتعرفا على أسمي بعضهما
البعض. قبل الإفتراق، يوافقا على اللقاء في اليوم
التالي، غير ملتفين الى أن عيناً شريرة تلقي تعويذتها
عليهما. هل سيتمكنا من اللقاء مرّة أخرى؟. وإن نجحا في
ذلك، هل سيعرفا من هما؟" (عن الكتيب الصحافي للفيلم).
تلتقط صاحبة "صورة شخصية لسيدة تشبَّ فيها النيران"
(2019) الفرنسية سيلين سياما، في عملها الجديد "مامان
الصغيرة" (72 د)، أحاسيس عميقة وباهرة وسحرية، تمر بها
الطفلة نيللي، البالغة من العمر 8 أعوام، بعد أن فقدت
جدتها المحبوبة لتوها. تساعد والديها في تنظيف منزل
الراحلة، الأمر الذي يقودها الى إستكشاف الدارة
الريفية الواسعة، وكذلك الغابات المحيطة، حيث إعتادت
والدتها ماريون في الماضي اللعب، وبناء منزل خشبي فوق
أغصان أحدى الأشجار الباسقة، سمعت البطلة الصغيرة عنه
كثيراً. ذات يوم تغادر والدتها فجأة. في وحدتها، تلتقي
نيللي بفتاة في نفس عمرها في الغابة، وتشرعان في بناء
منزل خشبي جديد. صديقتها الجديدة إسمها ماريون أيضا!.
مواطنها كزافييه بوفوا، المعروف عالميا بعمليه
المميزين "عن الأرباب والرجال" (2010) و"ثمن الشهرة"
(2014)، يشارك للمرة الأولى في برلين بجديده "القادوس"
(115 د. العنوان هو اسم طائر بحري) عن رئيس قوة الشرطة
في أحدى بلدات مقاطعة نورماندي، يقرر الزواج من صديقته
ماري بعد علاقة غرامية إمتدت لـ 10 سنوات. ما ينتظره
من إستحقاقات مهنية، تجعل من زيجته إمتحاناً ذاتياً
بين عواطفه وإلتزاماته. مجتمع بحري متطامن، يهتز
بجرائم سطو وتخريب وشغب وإنتحار غامض الدوافع وتحرش
جنسي بإطفال وإحتيال على التأمين، وأخيرا تحدي لوائح
الإتحاد الأوروبي. ترى كيف يحقق لوران توازنه الداخلي
بين مسؤولية عامة ونزوع شخصي للإنتقام؟.
بطل بوفوا لن ينهار بسهولة، لكن نظيره في فيلم
"فابيان" (176 د) للمخرجة الألمانية دومنيك غراف، يجد
نفسه في وضع عصيّ على تحمل حظ عاثر، يقوده الى سوداوية
تشاؤم قاتلة، رغم علاقة حب شفيف، تربطه مع ممثلة شابة
تدعى كونيليا، إلتقاها في إحدى حفلات برلين العام
1931. كان جاكوب فابيان، قبل غرامه، يعمل في قسم
إعلانات تابع الى مصنع سجائر خلال النهار، ويتجول بين
الحانات وبيوت الدعارة واستوديوهات الفنانين مع صديقه
الثري لابود خلال الليل. تنتهي هذه المعادلة إثر
إلتزامه بالعلاقة الجديدة، غير إن قرار تسريحه من
وظيفته، يحول حياته الى جحيم.
هذا الأخير (الجحيم)، سيحرق عالم معلمة في مدرسة
رومانية بعد تسريب شريط فيديو، يظهر فيه رجل وامرأة
يمارسان الجنس، وهما يرتديان الأقنعة. لسوء حظها إيمي،
يتم تحديد هويتها، لتُحاصر بضراوة بإعتبارها قدوة
أخلاقية وقعت بخزيها وعارها، في فيلم "مطارحة جنسية
منحوسة أو بورنو مغفَّل" (106 د) للروماني رادو جود،
الحائز على الدب الفضي لإفضل مخرج عن "أفرايم"
(برليناله العام 2015). يُحاكم هذا النصّ بتهكم جارح
مفاهيم الأخلاق والشوفينية الإجتماعية ونظرية
المؤامرة، وكيفية النظر الى "الجنس بالتراضي"، والتحكم
بالمواد الإباحية. في مشهد أخير مبتكر، يعقد صاحب
"أسعد فتاة في العالم" (2009) مناقشة سينمائية غير
مسبوقة، تجري داخل قاعة المدرسة حيث تعمل إيمي
(الممثلة كاتيا بوتشكاريو) ضمن طاقمها التعليمي،
يتداول فيها الحاضرون "حقها" في الوجود!.
تحضر المدرسة أيضا، لكن من زاوية أخرى، في الشريط
الوثائقي للألمانية ماريا سبيث "السيد باخمان وصفه
الدراسي" (217 د) الذي يستعرض "يوميات معلم للمرحلة
المتوسطة وتلاميذته في مدرسة محلية بمدينة شتادالندورف
المشهورة بتاريخها المعقد في دمج الأجانب وإستعبادهم
على حد سواء. يرى باخمان، وهو رجل شديد الصبر
والتفاني، إن واجبه إستمالة طلابه الذين تتراوح
أعمارهم بين 12 و14 عاماَ، وينتمون إلى 12 دولة
مختلفة، منهم لم يتقن اللغة الألمانية تماماً، الى
الشعور بإنهم كما لو كانوا في منازلهم. باخمان على وشك
التقاعد، لكنه حريص على إلهام هؤلاء الصبية والصبيات
وإثارة فضولهم بشأن مجموعة واسعة من الحرف والموضوعات
والثقافات والآراء" (عن تعريف المهرجان بالفيلم).
أما مواطنها الممثل الشهير دانييل بروهل (له "وداعاً
لينين" 2003) فيختار في "الجار" (92 د)، مكاناً شعبياً
مناقضاً هو بار في حي برليني، يشهد صراعاً مكتوماً
ومريراً ومفعماً بالسخرية والنقد الإجتماعي بين جارين
أحدهما ممثل شاب، وأخرعجوز ينتظر لحظة لقائهما العابر،
ليُصفي حساب ضياع إمتيازاته، إثر إعلان الوحدة
الألمانية، معتبراً إن النجاحات التي يتمتع بها جاره،
هي نتيجة ما فقده بسبب سياسيين أوغاد!. في حين يصور
الشريط الألماني الثالث "أنا رجلك" (105) للمخرجة
ماريا شرايدر حكاية فنطازية حول ألما، وهي عالمة في
متحف بيرغامون الشهير في برلين، توافق على المشاركة في
تجربة إستثنائية لمدة ثلاثة أسابيع، كي تضمن الحصول
على تمويل بحثي لدراساتها. تتطلب التجربة أن تعيش مع
إنسان آلي شبيه بالبشر يدعى توم، تم تصميم ذكاءه
الاصطناعي للسماح له بالتحول إلى شريك حياتها المثالي
والمكلف بإسعادها!. "ما يترتب على ذلك هو قصة مأساوية،
تستكشف مفاهيم الحب والشوق وما يجعلنا بشراً".
هناك نصّ وثائقي أخر في مسابقة هذه الدورة هو "فيلم
شرطة" (107 د) للمكسيكي ألونسو رويزبالاثيوس، يؤسس
نوعاً سينمائياً مبتكراً يحمل عنوان الشريط ذاته،
يستكشف عوالم أكثر المؤسسات إثارة للجدل في البلاد:
"قوة البوليس المحلية" ذات المكانة الإجتماعية الخاصة،
بسبب مركزيتها وإرتباطها الوثيق بالنظام.
يستعيد الهنغاري دينيش ناجي في باكورته الروائية "ضوء
طبيعي" (103 د) مقطعاً تاريخياً من الحرب العالمية
الثانية، وتحديداً شتاء العام 1943، ليتتبع مكابدات
وحدة هنغارية خاصة مكلفة بالسفر من قرية إلى أخرى
بحثًا عن مجموعات حزبية. أثناء توجهها نحو قرية نائية
ذات يوم، تتعرض الى نيران العدو ويقتل قائدها. يُكلف
العسكري سيميتكا قيادة ما تبقى من الجنود، لإتمام
المهمة والعودة الى أمان الوطن البعيد. فيما يتمم
مواطنه بينس فليجوف تصوير عوالم متشظية، سبق أن قدمها
في شريطه السابق "فورست" (2003)، موسعاً في جديده
مقاربات سينمائية فلسفية لأعداد جديدة من شخصيات
متنوعة، لا يجمعها شيء مشترك سوى يوميات الحياة في
بودابست، ما يفسر إضافته جملة غامضة الى عنوانه
"فورست، أراك في كل مكان" (112 د). |