لا ترى المخرجة الفلسطينية آن ماري
جاسر أن كونها امرأة أضاف إلى مهنتها في مجال الإخراج، أو أخذ منها، فهي تقول
عقب عرض فيلمها “واجب” مؤخرا في إحدى قاعات السينما في مدينة تولوز الفرنسية
“في فلسطين تتم معاملتي طبقا لما أصنعه من أفلام، ولا أحد يمايز بمعاملتي لأني
مخرجة امرأة، سواء بالسلب أو الإيجاب، إلا في أميركا؛ فهناك يصنفون أفلامي ضمن
مهرجانات سينما المرأة”. تضيف آن ماري “أحيانا الناس لا يصدقون المرأة، سواء
كانت محامية أو كاتبة أو مخرجة، لذلك عليها على الدوام، أن تبذل مجهودا مضاعفا
لإثبات ذاتها وما تسعى لقوله”.
ويبدو أن الهوية “الجندرية” لم تكن يوما من أولويات
المخرجة آن ماري جاسر، كما أنها ليست من أوليات الفلسطينيات اللاتي عملن مبكرا
في مجال السينما، فالهم السياسي والوطني في مقدمة المسيرة السينمائية
الفلسطينية، ونادرا ما شغلهن إثبات ذواتهن كنساء في حقل السينما “الرجالي”، أو
أمام تصنيف المجتمع لهن، بل تقف هذه “الكليشيهات” المكررة عائقا أمام إثبات
حرفيتهن.
عن ذلك تقول ريم نزال في الكتاب المشترك “عين على
سينما المرأة الفلسطينية”، “جاءت الرؤية النسوية للسينما من خلال نظرة ورؤية
المرأة لذاتها ولقضيتها ومشاكلها، وهي الرؤية المبنية على أساس رفض النظرة
التقليدية الجنسوية والمواقع التي توضع بها المرأة قسرا”، معتبرة أن “الثقافة
الاجتماعية السائدة وتعبيراتها الإبداعية ومن بينها السينما، يمكن لهما أن
تكرسا هيمنة الموقف الذكوري على العلاقات الاجتماعية وتضمنا بقاء مراكز القوى
التي تتحكم بها في مواقعهم، وذلك تبعا لموقف أصحابها من منتج وكاتب للنص ومخرج،
بهدف تسخير السينما في خدمة بقاء ثقافة الهيمنة، وتكريس مراكز القوى بسبب
الموقع الذي تحتله السينما كإحدى الأدوات الهامة التي تعكس الواقع ومفاهيمه
وبسبب جماهيريتها وتنوع واتساع نطاق مرتاديها ومتابعيها”.
سينما القضية
على الرغم من رفض النظرة التقليدية لدور المرأة في
السينما إلا أن المخرجة الفلسطينية خاصة في البدايات لم تعمل على تقديم النساء
ككيان مستقل وعرض معاناتهن أو مشاكلهن بكل منفصل، بل انطلقت بقوة لخدمة أجندات
سياسية ووطنية تستقطب الرجال والمجتمع، ومرت سنوات طويلة قبل أن تصور المرأة
فيلما عن معاناة المرأة أو قضاياها، وربما كان هذا يميز المخرجة الفلسطينية من
ناحية اتساع نظرتها وعدم حساسيتها تجاه هويتها، ولكن أيضا يمكن اعتباره تقصيرا
بحق النساء ومعاناتهن الخاصة وحياتهن.
وربما يكون فيلم “واجب” الذي عُرض مؤخرا للمخرجة آن
ماري جاسر، قد قدم نموذجا للجرأة في طرح القضايا الوطنية والفلسطينية والنقد
الذاتي للحياة الاجتماعية والسياسية منضويا تحت راية السينما الفلسطينية، ولم
يجعلها كونها امرأة تتردد أو تبطئ خطواتها في خوض طريق مشروعها السينمائي وفي
طرح الهوية الفلسطينية بنقد حاد بعيدا عن أي هوية جندرية.
هذا لا يميز آن ماري جاسر وحدها، بل هي نموذج معاصر
لمسيرة المخرجات الفلسطينيات التي بدأت منذ أن قامت المخرجة سلافة جادالله وهي
من أوائل الخريجين الذين درسوا في المعهد العالي للسينما في القاهرة، في قسم
التصوير، بإجراء لقاءات مصورة مع مناضلي وطلائع المقاومة الفلسطينية، ومشاركة
المصور السينمائي الفلسطيني هاني جوهرية في تصوير أحداث وآثار حرب الخامس من
يونيو 1967 ومأساة النزوح الفلسطيني الذي حدث خلالها.
أول مخرجة فلسطينية
أسست سلافة مع جوهرية قسما للتصوير لتوثيق الأحداث
الفلسطينية، خاصة نشاطات الثورة الفلسطينية السياسية والعسكرية والاجتماعية
والثقافية بالصوت والصورة، وعرفت هذه الوحدة لاحقا بـ”وحدة أفلام فلسطين”،
وأنتجت في العام 1969 أول أفلام السينما النضالية الفلسطينية تحت عنوان “لا..
للحل السلمي”، وهو ذاته العام الذي أصيبت فيه سلافة برصاصة في رأسها أثناء
عملها، ما أدى إلى إصابتها بشلل نصفي، منعها من الاستمرار في العمل كمخرجة
ومصورة سينمائية.
بهذا الصدد كتبت الناشطة النسوية الفلسطينية، خديجة
أبوعلي شهادة بحق المخرجة سلافة قالت فيها “انطلق السينمائيون الثلاثة؛ سلافة
جادالله وهاني جوهرية ومصطفى أبوعلي، يؤمنون بأنهم من خلال الصورة، يمكنهم
إيصال ونشر مفاهيم الثورة إلى الجماهير والحفاظ على استمراريتها، وبهذا المفهوم
تم إنشاء قسم التصوير الفوتوغرافي عام 1967 ثم ‘وحدة أفلام فلسطين’ أواخر العام
1968، وتعتبر هذه الوحدة أول وحدة سينمائية تعمل بمواكبة تنظيم ثوري مقاتل في
حركة تحرر وطني، وهي من التجارب النادرة في تاريخ حركات التحرر ومن العلامات
المضيئة في تاريخ حركة فتح”.
وتضيف أنها بقيت تتردد على قسم التصوير بين الفينة
والأخرى، وكان الثلاثة يعملون على تحميض وطباعة الصور في مطبخ البيت الذي كان
مقرا لأكثر من نشاط للفدائيين، وكان لهذه المجموعة سحرها الخاص، فيميزهم
التفاني في العمل، والتواضع الشديد مثل تواضع الأنبياء.
وتتابع “في هذه الفترة حصلت ‘وحدة أفلام فلسطين’
على كاميرا سينمائية، وكان مصورو الوحدة قبل ذلك يلجأون إلى استعارة كاميرا
سينمائية للتصوير عند الضرورة، واستقال كل من سلافة ثم هاني من وزارة الإعلام،
وتفرغا للعمل في قسم التصوير وبدآ بتوثيق جميع النشاطات والأحداث التي تمر بها
الثورة، بدء بمعسكرات التدريب وقواعد المقاتلين في الأغوار وفي جبال السلط، في
المؤتمرات والمسيرات والاحتفالات السنوية لانطلاقة الثورة. كانا سعيدين
بمعداتهما الحديثة لكن فرحتهما لسوء الحظ لم تكتمل عندما تعرضت سلافة لإصابة
بطلقة في الرأس. سلافة المناضلة، نواة المجموعة وعصبها المحرك، تركت فراغا
كبيرا وهي تنتقل من مشفى إلى مشفى ومن عملية جراحية إلى أخرى”.
السينما المستقلة وسينما المرأة
لم تفصل سلافة السينما عن النضال بل كان أحدهما
سببا لوجود الآخر، ما جعل السينما الفلسطينية ملتصقة بالضرورة بالهم الوطني
لعقود طويلة، ولم تعش كسينما فلسطينية مستقلة عن القضية حتى بدايات الثمانينات
حين بدأ ما يسميه إبراهيم درويش المرحلة الرابعة من السينما الفلسطينية في
دراسة أجراها عن السينما الفلسطينية بعنوان “السينما الفلسطينية: أرشيف ضائع
محته الحروب والشائعات” وابتدعت هذه المرحلة التي بدأت أوائل الثمانينات حالة
الإبداع الفردي من مخرجين في الشتات والوطن والمخيمات دون أن تنضوي تحت منظومة
واحدة، وبالفعل هذه الأعمال الفردية أوصلت السينما الفلسطينية إلى العالمية
والمهرجانات الدولية، فلأول مرة تتم مناقشة القضية من بعد ذاتي وشخصي، وتكريس
مفهوم سينما المؤلف، وكان للمرأة المخرجة حظ كبير فيها، وبرزت وقتها كل من
المخرجتين عزة الحسن وليانة بدر.
وقد وصف درويش هؤلاء المبدعين بقوله “هو الجيل الذي
كان قادرا على التحرر من الماضي الجامد بالتركيز على الحاضر وتنويع زاوية الألم
التي لم تعد جماعية كما كانت في اعمال الفنانين الرواد بل صارت مزيجا من الشخصي
والجماعي، بل أحيانا طغى الهم الشخصي والنجاة على هم الجماعة، وهذه السينما
تتميز بتقنياتها التي تجمع بين الرواية والتسجيل ومثلما تحاول الخروج من دوامة
الألم العام تعمل على مزج الأجناس الروائية والسينمائية في قالب جديد”.
ومن الممكن المرور على المراحل الثلاث الأولى التي
ذكرها درويش في حياة السينما الفلسطينية؛ المرحلة الأولى وهي أعمال الفلسطينيين
قبل النكبة، خاصة تجارب إبراهيم سرحان الذي ينسب إليه تصوير أول شريط مصور عن
زيارة الأمير سعود بن عبدالعزيز إلى فلسطين وفيلم آخر هو “أحلام تحققت” وعلى
العموم تظل هذه الفترة التي يؤرخ لها ما بين 1935 و1948 محل جدل وتطرح فيها
أسماء متعددة، لكن السينما كملمح من ملامح الحياة كانت موجودة في الحياة
الفلسطينية. والمرحلة الثانية هي الفترة ما بين 1948 و1967 ويطلق عليها اسم
مرحلة الصمت مع وجود بعض الإشارات عن محاولات لسرحان إنتاج فيلم هو “معركة في
جرش” (1957) لا علاقة له بالقضية الفلسطينية وقد منعته السلطات الأردنية
لاعتقادها أنه شوه اسم المدينة السياحية ثم عادت وسمحت به بعد أن أجرى المخرج
تعديلات عليه، وهناك فيلم آخر ينسب إلى هذه الفترة قدمه المخرج الفلسطيني
عبدالله كعوش “وطني، حبي” (1964) عرض في عمان وبقية المدن.
والمرحلة الثالثة جاءت بعد فترة الصمت هذه فقد
أعقبتها فترة غنية تحولت فيها السينما إلى دعاية وتأكيد للهوية الوطنية، وما
يميز هذه الفترة ما بين 1968 و1982 هو التركيز على الهم التسجيلي لهموم الثورة
وأنتجت فيها حوالي 60 فيلما تسجيليا، ولم ينتج إلا فيلم روائي “عائد لحيفا”
لقاسم حول (1982). وتظل هوية السينما هنا موضوع نقاش هل هي سينما الثورة أم
سينما ثورية أفكار ومبادئ؟
وأخيرا المرحلة الرابعة التي تتحدث عن الجهود
المستقلة والأصوات الفردية التي حاولت تقديم رؤيتها الخاصة، وهذه المرحلة يرى
الناقد زياد عثمان في الكتاب المشترك “عين على سينما المرأة الفلسطينية”، “أنها
شهدت انفتاحا وتنوعا من حيث المواضيع المطروقة أو من حيث المعالجات الفنية،
وتطورت لاحقا نحو سينما فلسطينية تناقش قضايا ومواضيع اجتماعية وسياسية
واقتصادية، وهذه المرحلة تعززت بعد التسعينات أي بعد قدوم السلطة الوطنية
الفلسطينية إذ بدأ البعد الاجتماعي والحياتي بكل تفاصيله يطل على سطح الحياة
إضافة إلى السياسي والوطني، ولا سيما السينما التي بدأت تفرض حضورا على مستوى
المجتمع الفلسطيني، ألا وهي سينما المرأة”.
من الوطني إلى الإنساني
يُعرف الناقد سعيد أبومعلا الفيلم الفلسطيني بإخراج
نسائي بأنه الفيلم الذي تخرجه امرأة فلسطينية، سواء كانت تسكن في فلسطين
التاريخية أو خارجها، بغض النظر عن جهة التمويل أو الإنتاج، شريطة أن يكون
موضوعه متعلقا بالشأن الفلسطيني نسويا كان أو وطنيا أو بالاثنين معا.
هنا بدأت مرحلة السينما الفلسطينية الجديدة مع مطلع
الثمانينات وفيها كانت منجزات المخرجات الفلسطينيات الأكبر، ويرى الناقد بشار
إبراهيم في كتابه “في السينما الفلسطينية الجديدة” أن ما يميز هذه المرحلة
“طبيعة الرؤية السينمائية التي تتناول القضية الفلسطينية، من خلالها، وطبيعة
البناء البصري للصورة، وآليات السرد السينمائي، وتقنياته، التي تقدم الموضوعات
عبرها، كما تتعلَّق بطبيعة التغيير الحاصل في الشروط، وفي القوانين، التي باتت
تحكم العمل السينمائي، من كتابة وإخراج، وآليات إنتاج، وطرق توزيع وعرض، وهي
شروط اختلفت عموما عما كان سائدا في السينما الفلسطينية خلال مرحلة الثورة
الفلسطينية، فتراجعت سمات الثورية، والتحريضية المباشرة، وبرزت سمة التأمل في
حال الفلسطيني، سواء أكان يعيش تحت الاحتلال، أو في المنافي”.
ومن هنا غاب الوطني المباشر من الأفلام ونشأ تيار
سينمائي فلسطيني يهتمبالتفاصيل الإنسانية اليومية للمواطن الفلسطيني دون حمل
الشعارات الوطنية على أكتافه بل محاولة للتحرر منها إلى الشروط والعوامل
المشتركة الإنسانية العالمية التي كانت في الوقت ذاته متحققة في سينما الآخر
الإسرائيلي وتفاصيل حياته اليومية والإنسانية التي تمس المشاهد الغربي.
ويصنف الناقد سعيد أبومعلا أفلام المرأة الفلسطينية
إلى مستويات ثلاثة وفق ثنائية الوطني والاجتماعي، على النحو التالي:
نتيجة شح التمويل، اتجهت المخرجات إلى تقديم طلبات
لمنح مؤسسات مدنية ودولية، وبذلك تغيرت الأفكار والمواضيع التي يتم طرحها ولم
تعد متناسقة مع الحالة السياسية التي تحيط بالمخرجات
أولا: أفلام ذات هم وطني خالص؛ ويقصد بها تلك
الأفلام التي تناولت القضايا الوطنية من دون أن تمنح تركيزا على النساء، وحتى
لو حضرت النساء في بنية تلك الأفلام فإن حضورهن يعتبر جزءا من موضوع وطني وليس
بصفتهن نساء فلسطينيات أو شأنا اجتماعيا.
ثانيا: أفلام تطرقت إلى قضايا اجتماعية صرفة من دون
أن تهتم بالشأن السياسي، فتناولت وعالجت قضايا مجتمعية مثل: الطلاق والزواج
والميراث والتحرش الجنسي.. إلخ من الموضوعات.
ثالثا: أفلام دمجت بين الوطني والسياسي وهي تلك
الأفلام التي حاولت مقاربة موضوعاتها سياسيا واجتماعيا في آن معا.
بعد أوسلو والسينما المؤسساتية
وإذا كانت بداية عمل المرأة الفلسطينية بالسينما قد
تميزت بالتوجه الكامل نحو الوطنية والقضية الفلسطينية نجد أنه منذ اتفاقية
أوسلو عام 1993 أصبح هناك تشظ لوحدة الموضوع في العمل السينمائي الفلسطيني خاصة
الذي أنجزته نساء ولا يمكن إنكار أنه تشظ تبع العمل النسوي المؤسساتي والحقوقي
ككل، فقد تم إنشاء العشرات إن لم تكن المئات من المؤسسات والمنظمات الحقوقية
والنسوية التي تنادي بتحقيق المساواة مع الرجل وإعطاء النساء حقوقهن
الاجتماعية، وغالبيتها مؤسسات تتبع أحزابا سياسية وتحررية، وقد كان ذلك تغييرا
جذريا في الخطاب الحقوقي والسياسي بعد أن كان المطلب الوطني وتحرير الأرض هو هم
هامش المجتمع المدني المبكر قبل أوسلو فقد كان يلعب دورا بديلا للدولة وجسم
السلطة الوطنية الفلسطينية، والذي جاء لاحقا وهمش الخطاب النسوي والفني وجعله
يركز على الاجتماعي والحقوقي.
وربما اعتبر النقاد هذا أمرا سلبيا وتراجعا بالنسبة
لهذه المؤسسات والتجمعات النسوية والحقوقية وتغييرا في خطابها، ولكنه يبقى
للسينما مغايرا ويقرب المخرج أو المخرجة من لحظة الإبداع بعيدا عن وصاية
المنظمات والبرامج السياسية والوطنية، فيهتم أو تهتم بالبحث عن الذات المتحققة
على الأرض سواء للمرأة أو الإنسان، لكن هذا لم يحدث إلى الحد المطلوب مع الأسف
فقد أصبحت صناعة الأفلام جزءا من أنشطة لنشر الديمقراطية وحقوق المرأة مثلها
مثل ورش العمل والندوات والتدريبات، ولم يقتصر هذا الدمج، أو إذا كان من الممكن
تسميته بالفن المؤسساتي، على السينما بل طال المسرح والفن التشكيلي، وفرغه من
لحظة الإبداع والإلهام الحقيقية للفنان التي تؤهله للمنافسة العالمية، فقد أصبح
فن وسينما ومسرح مناسبات وقضايا حقوقية وممولين، ما نزع عنه الإبداع الأصيل
والدوافع الأولى للمخرج والمخرجة التي غالبا ما تكون ذاتية إبداعية أو مجتمعية
ملهمة دون تمويل مشروط أو أجندات.
وأصبح العمل الفني السينمائي يتم في مؤسسات نسوية
وورش عمل، وليس في أستوديوهات متخصصة، وإذا حصل ذلك يكون مؤقتا لخدمة أحد
برامجها الممولة وليس كخطة استراتجية لتأهيل وتمكين المخرجات الفلسطينيات
مبدعات ومستقلات في أفلامهن بل ضمن أفكار وكوادر موجهة وفي إطار العمل النسوي
والحزبي والأيديولوجي.
لذلك كان من النادر أن تقدم المخرجة الفلسطينية
التي تصنع فيلمها تحت مظلة هذه المؤسسات رؤيتها الكاملة المستقلة للفيلم منذ
اختيار الفكرة، وكتابتها أو طريقة العمل عليها وتصويرها، وكذلك في الرسالة التي
تريد توجيهها، فعادة مثل هذا النوع من الأفلام يفرض وجود واحدة.
وهناك من المخرجات، خاصة من الجيل الأكبر سنا، من
بقيت على رؤيتها، وحافظت على إبداعها، وصنعت سينما بعيدة عن هذه المؤسسات
والمنح الممولة وأفلام المناسبات، وهن المخرجات اللواتي احتفظن بلحظتهن
الإبداعية، ولا يزلن كالمخرجات؛ مي المصري وغادة الطيراوي وعلياء أرصغلي وبثينة
خوري ومي عودة ونجوى النجار وليانا بدر وديما أبوغوش وناهد عواد وسوسن القاعود،
وقد حاولن أن ينقلن خبرتهن إلى الجيل الشاب عبر مؤسسات إنتاج أو تدريب متخصصة
وجدية ولديها خطة استراتجية في تطوير صناعات الأفلام.
أزمة تمويل وأزمة إبداع
ومن الظلم تحميل اللوم كله لجيل المخرجات الشاب
الذي يلجأ إلى المؤسسات وأفلام الحقوق وسينما المناسبات في وقت لا يوجد تمويل
رسمي لدعم السينما الفلسطينية بشكل دائم، وهو ما أشارت إليه المخرجة آن ماري
جاسر حين قالت إنها كل خمسة أعوام تقريبا تنتج فيلما لصعوبة الحصول على تمويل،
موضحة أنه في الوقت الذي مولت فيه وزارة الثقافة الفلسطينية جزءا يسيرا من
فيلمها الأخير “واجب” كان هناك من انسحب من عرض الفيلم في فلسطين بسبب نقده
لمنظمة التحرير الفلسطينية وفساد البعض.
وأزمة التمويل هذه ليست جديدة فهي ما تشير إليه
أيضا خديجة أبوعلي في شهادتها حين تقول عن فترة الستينات من القرن الماضي “كانت
السينما آخر هم يمكن أن تفكر به قيادة الثورة، وكان علينا أن نعمل في جو تعتبر
فيه السينما نوعا من الترف كما كان يقول مصطفى، ‘وعلى بال مين يللي بترقص في
العتمة’، كان علينا أن نحتال على الموقف لنحصل على مكان نضع فيه علب المواد
المصورة، وأن نشحد تقريبا كل أسبوع أجرة جهاز المونتاج (المافيولا) في أستوديو
بعلبك، الذي لم تكن فيه أجرة المافيولا في اليوم تتجاوز 25 ليرة لبنانية”.
ونتيجة شح التمويل، اتجهت المخرجات إلى تقديم طلبات
لمنح مؤسسات مدنية ودولية، وبذلك تغيرت الأفكار والمواضيع التي يتم طرحها ولم
تعد متناسقة مع الحالة السياسية التي تحيط بالمخرجات، وغدا المشهد السينمائي
الواقعي مجتثا، بل أصبحت الأفلام تختلق مواضيع وتطرح الأفكار أمام المجتمع
وتخلقها بغرض الجدل أو التنبيه أو الإرشاد بحسب أجندات المؤسسات التي مولت
الفيلم، وأصبحت هناك هوة بين المتلقي وصانع الفيلم، فكأن نخبوية الفيلم أبعدته
عن تأثيره الشعبي ومصداقيته، ناهيك عن أن السينما لا يراها الفلسطينيون في بعض
المدن الفلسطينية طوال العام سوى في المهرجانات الممولة أيضا.
أصبحت هذه الأفلام، كما المؤسسات النسوية، ضائعة
بين المطالب الاجتماعية لتطبيق المساواة وطرح مواضيع في الورش والأفلام كأدوات
مناصرة مساعدة تتحدث عن الزواج المبكر وغشاء البكارة والقتل على خلفية ما يسمى
بـ”الشرف”، وبين الخطاب الاقتصادي ومطالب بمحاربة الفقر وتمكين النساء والتحدث
عن نماذج ناجحة لنساء تخطين الفقر سينمائيا، وأخيرا الخطاب السياسي الذي ينادي
بإنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة وإنهاء الاحتلال، وهذه النقطة الأخيرة نادرا ما
خرجت في أفلام تنتجها هذه المؤسسات بل كان الاحتلال دوما كخلفية أو مسببا غير
مباشر لقضايا مثل الحواجز العسكرية، مريضات السرطان وتأثير الحروب عليهن، وهناك
النساء اللواتي ارتبطن بعملاء لدى الاحتلال ومصيرهن، وهذا يبرز بقوة الفرق بين
المرحلة الأولى للسينما الفلسطينية النسائية فقد كانت وطنية وسياسية بالكامل
والآن هي نسوية واجتماعية بالكامل وفي الحالتين كانت السينما من أجل الإبداع
والسينما من أجل السينما غائبتين تماما، ولحظة الحرية بقيت لدى عدد نادر من
المخرجين والمخرجات الذين لهم نفوذهم السينمائي والعالمي، ما يجعل جيلا شابا من
النساء والشباب في خطر حقيقي كصناع أفلام لهم استقلاليتهم دون أهداف مسبقة
وأجندات، بل سينما تعبر عنهم وعما يريدوه وكيفما يريدوه.
عوامل التراجع ومظاهره
ومن هنا يمكن القول إن هناك العديد من الأسباب جعلت
سينما المرأة الفلسطينية تقتصر على نخبة من المخرجات والبقية كن مخرجات إنتاج
اللحظة من مشاريع التمويل وورش العمل وهي كالتالي:
أولا، عدم وجود استراتجية رسمية أو غير رسمية
للنهوض بسينما المرأة الفلسطينية فتشكل مشهدا وليس أعمالا ناتجة عن مؤسسات أو
أفراد.
ثانيا، عدم وجود معاهد وجامعات للسينما في فلسطين،
ما يجعل المجال الأكاديمي للعمل السينمائي عشوائيا وغير معمق والكثير منه يركز
على العملي فقط، وكـأن الإخراج حرفة يدوية وليس رؤية وقناعات فنية.
ثالثا، شح التمويل الإبداعي للسينما الفلسطينية،
والاهتمام غير المشروط بهذا الفن، في الوقت الذي توجد في الضفة الغربية وقطاع
غزة دور عرض سينمائية تعد على اليد الواحدة وأغلبيتها يتم فتحها من أجل عروض
بعينها.
ومن هنا يمكن التطرق إلى العقبات والمشاكل التي
تواجهها المخرجة الفلسطينية حين تريد إخراج فيلما فلسطينيا إبداعيا يمثلها
بعيدا عن المؤسسات النسوية والدولية:
1-
شح التمويل غير المشروط للسينما، ما
يجعلها سينما مؤسساتية تستجيب لشروط المؤسسات النسوية أو المنح الثقافية أو
التمويل الأوروبي.
2-
عدم العمل في أجواء من الحرية إما
لغياب بيئة العمل الملهمة، وإما لغياب الإيمان بقدرة المرأة على إخراج فيلم،
وبالتالي يقتصر الإنتاج حتى البرامجي منه على الرجال فقط.
3-
صعوبة السفر وتلقي تجارب التعلم في
الخارج إلا في حالات نادرة جدا، في الوقت الذي لا توجد أكاديميات محلية لذلك،
فيتم تكرار الخبرات الموجودة والأساليب الإخراجية حتى شكل الصورة والحوار
والكادر دون تجديد.
كذلك هناك مجموعة من العقبات أوردها الباحث يوسف
خطاب في رسالته للماجستير “العوامل المؤثرة على الواقع المهني للقائمات
بالاتصال في السينما والبرامج التسجيلية الفلسطينية” التي أعدها لصالح جامعة
الأزهر في غزة موضحا أن هناك العشرات من العوامل وهي “العوامل السياسية
كالانقسام والحواجز العسكرية الإسرائيلية بين المدن الفلسطينية وصعوبة السفر،
ومنع عرض بعض أفلام المخرجات لأسباب سياسية أو بسبب رقابة حكومية، وتردد
المخرجة في الاستمرار نتيجة نقد شديد من أقطاب الإعلام والسوشيال ميديا،
الاضطرار أحيانا إلى تبني أفكار لا توافق أفكار المخرجة أو تناقضها، كذلك هناك
التعرض لصعوبات ميدانية أثناء التصوير كعدم احترام المواعيد والمعاكسات وعدم
أخذ عمل المخرجات بجدية، وهذا تلخصه النظرة السلبية للمرأة العاملة في مجالي
الإعلام والفن، كذلك هناك عدم تكافؤ الأجور والفرص بين الرجال والنساء في مهنة
السينما بفلسطين، ومواجهة مشاكل في الأسرة نتيجة اختيار مهنة الإخراج، ناهيك
أنه لا يوجد تسويق لأعمال المخرجات بل تبقى في الأدراج إلى أن يتم تنظيم مهرجان
محلي”.
وبسبب تلك العقبات والمشاكل والعوائق وكون المشهد
السينمائي الحالي لا يعبر بالضرورة عن الأزمات التي يمر بها المجتمع، وإذا عبر
يكون الفيلم من إنتاج حزبي سياسي أو أيديولوجي معين يفتقد كذلك إلى الإبداع
والاحتراف، لكل هذه الأسباب أصبحت المخرجات تخرج أفلاما لها سمات تكاد تتوافق
من الضعف وعدم الاكتمال:
1.
أفلام غير كاملة الحبكة والعناصر
2.
التصوير والمونتاج بسيطان وغير
احترافيين
3.
السيناريو تقليدي وغير مبتكر
4.
أغلبها أفلام شديدة محلية تتحدث في
أمور نسوية داخلية كالعنف ضد النساء والتحرش ومشاكلهن في المخيم.
5.
نادرا ما تمت صناعة أفلام إبداعية ذات
مستوى احترافي عال، ومن الممكن أن تشارك في مهرجانات دولية.
6.
غياب النظرة الكلية الواعية إلى القضية
السياسية في الأفلام التي يتم تقديمها حاليا.
7.
ضعف الكوادر الفنية غير المدربة وتكرار
اللغة السينمائية والصورة.
عودة إلى آن ماري جاسر
الاختبار الحقيقي للمخرجة المرأة في عالم السينما
الفلسطينية ليس أن تعبر عن هويتها وذاتها الجندرية في كل لحظة شخصية على أرض
الواقع وفي كل فيلم تصنعه، بل أن تكون هذه النقطة انطلاقا إلى الاحتراف
والانسجام والإبداع في أي فيلم تصنعه كي تتجاوزها يوما ما، فتتخطى جميع العقبات
التي تفرض عليها رقابة ما كونها امرأة، فلا تعود تخاف سوى أن لا يضيف فيلمها
شيئا جديدا إلى الحياة ومسيرة السينما، لذلك فإن المخرجة آن ماري جاسر لم
تتضايق من نقد الشتائم التي في فيلمها ولم تأخذ النقد على محمل شخصي كامرأة، أو
أنه تجاوز لخطوط حمراء ليس من المفترض على امرأة فلسطينية فعله، بل تقبلت الأمر
معتبرة إياه مجرد رؤى مختلفة لسينما الواقع ولغتها! وبذلك تستطيع المخرجة
الفلسطينية السعي نحو الاحتراف دون أن تحمل زادها السياسة والجندر بل تكون
ذاتها فقط!
|