(أن مشاهدة الافلام في عصرنا الحالي أصبحت أمل وليست ضرورة)
هكذا بدأ المخرج السوري الكبير محمد ملص حديثه لجمهور عبر درس السينما الذي
استضافه ضمن فعاليات الدورة الثانية من منصة الشارقة للأفلام (14-21
ديسمبر) والتي تنظمها مؤسسة الشارقة للفنون وترأسها الشيخة حور القاسمي.
ادار درس السينما المخرج السوري الشاب نزار عندري وكان عندري قد أخرج هذا
العام الفيلم الوثائقي (فتح أبواب السينما- محمد ملص) والذي عرض قبل شهر
واحد في الدورة الحادية والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
استغل عندري حصوله على ارشيف صور ضخم لملص وقام بعرض بعضا منها بحضور
المخرج الكبير لتشكل استدعاءات الحوار المطلوب بديلا عن الأسئلة التقليدية
التي من الصعب ان تغطي مساحات واسعة من رحلة وخبرات صاحب الليل وأحلام
المدينة.
قبل أن يبدأ عرض اول صورة اراد ملص أن يفتتح حديثه قائلا:
ليسمح لي اصدقائي السينمائيين السوريين بأن اقول إنه قبل أكثر من اربعين
عاما كنا نسعى لتأسيس سينما سورية خاصة لا تخضع لمزاجات الانتاج والتوزيع.
لقد حاولنا أن نصنع هذه السينما من أرواحنا وفوق عظامنا. ان من يطلع على
ميزانيات الأفلام السورية قبل 2010 يشعر بالدهشة، لم تكن تقدم لنا
ميزانيات، وفي نفس الوقت كان القطاع الخاص قد توقف عن الإنتاج قبل نفس
الأربعين عاما التي نتحدث عنها.
لم يعد هناك سوى المؤسسة الحكومية، وبالتالي من السهل أن تعرف مطالبها
وطبيعة أهداف المحتوى الذي تريده. في رأيي أن ما جرى في 2011 حتى الآن ليس
السبب في مشكلة السينما السورية، بل هي الرؤية والروح الخاصة بهذه السينما.
أن اول ما اعارضه من اراء تخص هذه السينما هو ذلك الإصرار على الفصل بين
سينمائي الداخل والخارج، في رأيي أن شعار الداخل والخارج كان المقصود منه
هو تجزئة السينمائيين.
طوال العشر سنوات الماضية وانا احاول متابعة كل ما تنتجه هذه السينما في
الداخل أو الخارج وذلك بحثا في كل الأفلام المنتجة عن السينما، السينما
نفسها، إن السينما فيما تم انتاجه خلال هذه السنوات العشر قليلة، هناك
أفلام كثيرة ولكن السينما في تلك الأفلام قليلة.
المشكلة ليست في ما يحدث ولكن المشكلة هي البلد نفسها وطبيعة الأنتاج
الثقافي فيها وليس الأنتاج السينمائي فحسب، على مدار اربعين عاما لم تؤسس
سينما ذات هوية واستمرارية، لقد تراجع كل شئ. أن السينمائي السوري دائما ما
يبحث عن إمكانية تنفيذ فيلم وليس عن المحتوى الخاص بالفيلم، أما الإنتاج
العربي فلم يعد يشكل عنصرا مهما الان، لم يعد هناك تمويل عربي او خارجي
للسينما، بعد ما حدث لا أحد يبحث عن السينما بل يبحث عن من مع ومن ضد وتلك
هي الكارثة.
اريد ايضا أن اضيف أنه أصبح هناك الأن اطقم ممتازة من التقنيين، ولكن
الأنتاج السينمائي قليل، هناك من يريد تحقيق أفلام ولكن القليل منهم من
يريد أن يصنع سينما.
جاءت الصورة الأولى التي عرضها نزار عندري لملص وهو يتحدث بحماس في مرحلة
الشباب فعلق ملص قائلا:
على ما اذكر كانت هذه الصورة في موقع تصوير سجن، وكان السجن هو المكان
الأساسي الذي تدور فيه أحداث فيلم التخرج الخاص بي الذي يمكن تسميته (الكل
في مكانه وكل شئ على ما يرام سيدي الضابط)، كان ذلك في عام 1974 وكانت
العناوين الطويلة للأفلام هي الموضة السائدة آنذاك، حيث اتسمت بها الأفلام
السياسية الايطالية وكنا نريد أن نحاكي تلك الموضة التي ألهبت حماسنا.
صنعت هذا الفيلم عن السجناء في مصر في الفترة ما بين حربي 1967 و1973في
محاولة مني لأبين أن الحروب ليست كما نعرفها في ظاهرها، ولكنها تحمل معاني
باطنية تخص المجتمعات نفسها وليس العدو الخارجي فقط.
موسكو.. وشو أخدت من موسكو
أخذ الحديث عن الصورة التي تنتمي لفترة البدايات ذلك المنحى باتجاه فترة
التكوين التي قضاها ملص في موسكو فعلق قائلا:
الأن نحن نعيش في عصر مختلف كليا حتى على مستوى القضايا الصغيرة، ولكننا في
تلك الفترة من السبعينيات كانت الأجواء تتيح فرص إنتاج افضل، بعد الفيلم
الأول حصلت بسهولة على دعم يمكن أن يدفع المستوى التقني السيئ في افلامي
الأولى إلى الأمام، وكان المستوى التقني عامة سيئ في سوريا آنذاك، ولكن
الدولة للأسف كرست كل التطور التقني الذي وفرته لنا لأغراضها الخاصة، اما
في موسكو فكان الأمر مختلفا إلى حد ما، لقد حققت في موسكو تجربة حياة عميقة
وهامة ساعدتني فيما بعد أن احقق ما انجزته من أفلام.
يمكن أن ادون الأن اعترافا بأنني لا أصدق أني حققت ثمانية عشر فيلما، أن
شعوري يقول لي بأنهم ثلاثة أو اربعة افلام على اقصى تقدير. في داخلي مازلت
اريد تحقيق المزيد من السينما ولكن لم يعد في العمر بقية تحتمل.
أنا لم أختر أن اكون مخرجا يحقق أفلام وقتما يريد، لقد حققت في فترة
الدراسة ثلاثة أفلام قصيرة، منها فيلمي الأول حلم مدينة صغيرة والذي يمكن
أن اعتبر الأن أنه كان بروفة لفيلم أحلام المدينة، ثم حققت فيلما عن مسقط
رأسي مدينة القنيطرة حيث شعرت أن تدميرها هو تحدي تدمير الذاكرة، فحققت
فيلم اليوم السابع وكان المقصود به اليوم السابع بعد حرب الأيام الستة حسب
المصطلح (الإسرائيلي).
بعد العودة إلى سوريا ومشاهدة المدينة المدمرة أردت أن اثبت على الورق في
روايتي الأولى هذا الشعور، ثم كرست خمسة عشر عاما تالية لصناعة أفلام عن
المدينة ومن عاش فيها.
لم يكن حنينا إليها بقدر ما كنت أحاول الاجابة على سؤال لماذا دمرت هذه
المدينة؟
واكتشفت أن التدمير كان بسبب أنها كانت تعيش في حالة من التنوع الديني
والعرقي والسياسي والإنساني وهو ما أصبح فيما بعد – وفي حاضرنا الأن- من
الآثام الكبرى، لهذا تم تدميرها.
انا لم أختر أن احقق فيلما وراء الأخر، لقد اخترت أن احس وافكر، أن احقق
ذاكرة تحمل الأبعاد السياسية والاجتماعية والأنسانية، ولهذا قد امضي ما بين
ثلاث أو اربع سنوات بين كل فيلم وفيلم لكي امنح نفسي الراحة والفرصة في
التفكير.
أستطيع أن اقول عن نفسي أنني لست سينمائيا محترفا ولكنني سينمائي هاو يتقن
صناعة الفيلم.
فرات
على صورة من فيلمه الأثير فرات هز ملص رأسه وعلق قائلا:
يذكرني هذا الفيلم بمرارة خاصة، عندما حققته كنت أحاول أن اروي اشياء عن
الغناء الشعبي في منطقة حوض الفرات، هنا يوجد اعتراف أخر: أنا لا أميز بين
ما يطلقون عليه سينما روائية أو سينما وثائقية أنا اعتقد في السينما فقط
دون تصنيف، ولكن من شاء فليصنف، إذا اردت تسمية ما أحققه فيمكن ان اعتبره
الوثائقي المؤُلف.
انجزت فرات عن الغناء الشعبي في هذا الحوض النهري القديم، وسميته فرات
قاصدا العذب وليس اسم النهر ذاته، ولكنهم عندما شاهدوه في إدارة التليفزيون
شعروا بالغرابة نظرا للقضايا السياسية والاجتماعية التي ظهرت على السطح
وكانوا يظنون انه فيلم دعائي عن شكل تراثي للغناء الشعبي، وبالطبع مُنع
الفيلم.
عقب سنوات وكانت الأمور قد تغيرت قليلا قمت بالبحث عن النيجاتيف الخاصة به
واكتشفت أن الفيلم بأكمله مفقود، لقد رغبوا في تطوير مستودع الأفلام
المحفوظة وبالتالي تخلصوا من كل الأرشيف وكان من بينهم العزيز (فرات).
أما النسخة الوحيدة الموجودة لدي هي نسخة عمل قمت بتصويرها من شاشة
الموفيولا وهو أمر غريب أن يحدث، كنت اريد أن اعمل بشكل منفصل على الفيلم
في البيت فقمت بتصويره من الموفيولا في جودة منخفضة ولكنها في النهاية حفظت
الفيلم من الضياع الكامل.
الليل والذاكرة المحكية
على صورة من فيلم الليل علق ملص قائلا:
ان الفيلم يصنع ليشاهد لا ليحكي عنه، ولكن يمكن القول أنه بين محطات التوقف
بين فيلم وأخر كنت ابحث عن تصور بصري ولغة مختلفة، يمكن اعتبراه مرض من
امراض المهنة وهي عملية شاقة وكما سبق وذكرت أنني امنح نفسي بضع سنوات
للبحث أو لمعايشة الفيلم القادم ولغته.
في الليل سألت نفسي: ماذا لو اعطيت نفسي الحق في رواية حكايات لم اشاهدها!
كانت والدتي تحكي لي عما عاشته في القنيطرة – تلك البلدة القريبة من
فلسطين- وبينما هي تسرد هنا وهناك التقطت حكاية حدثت قبل ولادتي، حاولت
عبرها أن ارسم بورتريه للأب المفقود بالمعنى السياسي – البعض يطلق علي
سينمائي المفقود- ثم عندما رأيت المدينة مدمرة حاولت إعادة بنائها سينمائيا
عبر حكاية الأب المفقود.
كان السؤال وقت ان شرعت في تحقيق الليل هو كيف تروي سينمائيا ما لم تره،
أنا لا أحب التنظير ولا اناصره ولكن يمكن القول أن ما فعلته في الليل حاولت
أن اطلق عليه الذاكرة المحكية، وهو أن تحكي ما لم تعشه ولكنك تتذكره
لتعيشه.
في الليل يموت الأب نتيجة انقلاب عسكري، اول انقلاب عسكري في سوريا عام
1949، يقرر الأب أن يموت بالجامع، ولكني جعلت الأب يموت عام 1967، لقد خلقت
له موتا اختياريا مرة أخرى حين دخل الإسرائيليون إلى المدينة، اعتبرت
الفيلم حديثا عن الذاكرة المشتهاة، والسينما فقط هي التي يمكن أن تجعلنا
نتحدث عن الذاكرة المحكية والمشتهاة، ولكن كل هذا من الممكن ان يضيع إذا
كنت لا تعلم أين تضع هذا كله في سياق درامي وبصري محكم وناضج لا يفقد
فرادته ولا جمالياته.
إلى هنا توقف ملص عن الحكي حيث كان وقت الدرس قد انتهى رغم شهوة الاستماع
التي أطلقها في نفوس الحاضرين من صناع الأفلام والمهتمين من رواد المنصة،
وإذا كان ملص قد رأى فيما صنعه استدعاء للذاكرة المحكية أو المشتهاة فلا شك
أنه ترك في ذاكرة الحاضرين لهذا الدرس السينمائي اثرا ملفتا وفتح باب
الأسئلة حول ما يظن الكثيرون أنهم يعرفونه عن السينما وصناعة الأفلام. |