قراءة في الأفلام العربية القصيرة.. منصة الشارقة للأفلام
نور هشام السيف
«20
جنيه في الشهر» جمالًا بسيطًا يشابه ألمًا مبرحًا
في خمس عشرة دقيقة لا يعتمد المخرج الشاب حسن أبو دومة من خلال فيلمه
القصير (20 جنيه في الشهر) – مصر2019، على نقل كاميرته إلى ضرورة وجود
معايير جمالية دامغة!
فهو يرصد جده المصاب بالزهايمر بشكل جديد للواقع الذي يفترض فيه أن يكون
مشتتًا ومقطعًا وهائمًا بوقائع رجراجة بالتوازي مع خفة الروح ودفء العائلة.
عناصر كهذه تتناسب مع حركة الكاميرا العفوية، إذ ينتقل حسن وهو المخاطب
لجده وراء الكاميرا بين الماضي والحاضر، يوجه له الحديث بصوت ضاحك تارة،
وصوت محايد تارة أخرى.
نرى في الماضي مجموعة من المشاهد للمنزل القديم، ورصدًا لحسن الطفل الرضيع.
وفي هذا الشأن توثيق واضح للجد عن مدى إدراكه وسلاسة الحركة والأفعال
والعواطف، ثم تنتقل الكاميرا للحاضر وانقلاباته.
ورغم عدم التطور البصري في الانتقال إلى ملمح آخر، إذ تشعر أن حسن لا يزال
يصور بروح وأجواء التسعينيات (الفيديو المنزلي)، وهي امتداد لتوثيق جده
وأفراد عائلته، بيد أنه سرعان ما ينتقل للحاضر فيقفز بنا إلى عنصر جديد،
وهو منع الإدراك وما يفضي إلى فعل لا يتواءم مع المحيط، وأحيانًا أخرى يبدو
الأمر طبيعيًا حين تبدأ الدردشة وتنتهي على نحو فكاهي بين الجد وحفيده.
رغم كل سياقات الذكريات واللحظات الآنية، وما يتخللها من أنس ما تبقى من
الذاكرة وما تلاشى منها، تشعر هنا أن حسن يرغب في استكشاف الشخصية الجديدة
لجده بكل توجهاتها. ولعل ما يثير اهتمامه في هذا المحور، هو التأكيد على
حضور الشخصية الموازية من خلال جملة مستقطعة تتشكل في سؤال يتكرر أكثر من
مرة: هو إيجار الشقة دي كم؟
فيأتيه الجواب: 20 جنيه.. 20 جنيه في الشهر.
«إلى
الشباب» دائرة مغلقة من اللاجدوى
الفيلم الثاني القصير إلى الشباب – لبنان
(2022)
اختارت المخرجة ميرا مرعب، الظهور صوتيًا، لكنها على عكس المخرج حسن أبو
دومة لم تظهر الطرف الآخر من الحكاية، بل أضمرته فأصبح البطلان عبارة عن
صوتين للمسامرة على مدى 18 دقيقة.
كانت البطولة البصرية مختزلة في مشاهد لستائر متمايلة، وأمواج بحر، وصور
حالمة متداخلة في الغرفة، لا يتوقف الصديقان داخلها عن التفكير بصوت عالٍ
حول هواجسهما تجاه قرار الهجرة واللاعودة. تعبر ميرا باستفاضة عن كل
مخاوفها السابقة والحالية، في المقابل نجد شريكها الآن متلاحمًا معها في
نقض أفكارها وطمأنتها بلا تراشق، رغم أسئلتها التي تنطوي على كثير من
الاستنكار والعتب حول لامبالاة صديقها وعدم طوباويته تجاه الوطن الأم،
لكنها تعود لنقطة البداية لتسرد كل الجراح والمآسي، وهاجس الفقد، وانعدام
الأمان.
رغم أن الحوار كان لافتًا بينهما في الجزئية التي تتعلق بفلسفة النجاة، حيث
نتعرف على ماهية النجاة بصوت ميرا وهي تنتقل في النقاش بين مساحة الـ(اللو)
الشيطانية، ومحاولة شريكها في إيجاد المعادلة لأنانية مشروعة ترتقي بها،
غير أن الإيقاع السينمائي للفيلم يسيطر عليه الهدوء البالغ كما هو الحال في
ثبات النبرة لدى الشريكين وهما يدوران في فلك الاحتمالات، ثم محاولة إيجاد
المخارج الممكنة بأقل ضرر.
وهنا وقع الفيلم في تكرار ممل بعد مرور عشر دقائق، إذ افتقر إلى إيقاع
الانتباه الذي تشبعه اللقطات، فلا ميرا تخضع لمرونة الحلول التشاورية، ولا
شريكها ينقل ضفة الحديث إلى خطوط متباينة قد تنطوي على مفاجآت! بل يسير
الاثنان في خط مستقيم؛ هي تخاف، وهو يطمئن، هو يطمئن وهي تخاف.. وهكذا
يرسمان دوائر مغلقة من اللاجدوى في الرؤى الاستباقية، وهي أيضًا اللاجدوى
في وطن افتقر مؤخرًا إلى أدنى مقومات الحياة كالماء والكهرباء والعلاج،
وسلسلة من الانفجارات في دوائر متداخلة من الأدلة بلا إدانة.
ينتهي الفيلم ويترك في طياته الخوف من إغلاق الدائرة بمحاذاة الخوف من
القفز فوقها ولا جدوى في الحالتين.
فقاعات السعادة.. فقاعات التخييل
إن الالتباس حول معنى السعادة كان مرتبطًا منذ الأزل بالسلوك الإنسان.
لم يزل معنى السعادة دائمًا هو المعنى المتغير باستمرار بين الإشكالات
المطروحة؛ كونها كلمة نستخدمها في العادة للإشارة إلى تجربة ما، وليس إلى
الأفعال التي تؤدي إليها.
في الفيلم الإماراتي القصير (فقاعات السعادة) – 2021 (12 دقيقة)، من إخراج
لطيفة خوري، يختلط المعنيان العاطفي والتقديري بنفس التواتر ونفس القدر.
يبدأ الفيلم وينتهي بتصوير خارجي، مشاهد ليلية وكادر محدود، تقود فتاة
عشرينية سيارتها وتمر كل ليلة عند كشك عامل آسيوي مختص بصنع شاي الكرك،
وهنا تكتمل الهالة النورانية:
السيارة، الفتاة، ألوان عباءتها، اكسسواراتها، انسدال شعرها الناعم من تحت
الوشاح، أظافرها المطلية على الطريقة الفرنسية، حماسها المشتعل في صوتها
حين تنادي باسمه وتشير إليه في خفة بأصابعها؛ كل تلك التفاصيل باستطاعتها
أن تستقطع الوحشة القاتلة في ذاك المكان الساكن والأصم؛ كل هذا الوهج
العابر يستأنس به عامل الكشك وإن تماسك وأظهر عكس ذلك. وبين فقاعات شاي
الكرك وفقاعات السعادة بمعناها المجرد هناك ود غير منطوق يمر بنعومة حين
تبادر بالسؤال عن قصته وبداياته.. لعل تعاطيها يبدو ظاهريًا يحمل الكثير من
العطف، عطف يتجلى على نحو رقيق حين تعبر عن امتعاضها فيما لو رحل عن
المكان، ولا يوجد من يعوضها غيره في صنع وتقديم مشروب الكرك.
إنها هنا تعزز فكرة الامتنان والتقدير البالغ، وهو يعي تمام الوعي أين يجب
أن يقف حيال هذا الحنو واللطف.
في مشهد تفصيلي ينشغل العامل بعملية جرد في دفتر الحسابات، ثم يشرح لمساعده
عن سر الخلطة الدقيقة لصنع شاي الكرك، ويشدد أثناء الشرح أن الفقاعات هي
معيار الجودة، بدون فقاعات تطفو على سطح الكوب لن يكون للكرك طعم الأصالة.
إنه يشير ببساطة ولاوعي في آنٍ إلى وجود عنصر يحمل الشعور بالمتعة وهو
(الإتقان)، وإن تمثل في مشروب يتبخر، تمامًا كما يتبخر الحلم بمجرد فرضية
نشوء علاقة بين الفتاة والعامل. هنا ترفض الأنظمة الحسية والعاطفية مطالب
المخيلة التي لم تستعرضها الشاشة مطلقًا، لكنها محسوسة كقصيدة نثر قصيرة في
لغة الفيلم. في النهاية يبقى العامل والفتاة كلٌّ في موقعه نتيجة لمبدأ لا
مناص منه (الواقع يأتي أولاً) وما سبقه.. (فقاعات). |