فيلم "لون الرمان"
The color of Pomegranate
الذي حققه سيرجي بارادجانوف في العام 1969 (ولم يعرض إلا في العام 1972، أي
بعد ثلاث سنوات من إكماله، وبعد إعادة مونتاجه بدون موافقة المخرج) يتتبع
السيرة الروحية للشاعر الأرمني أروتيون ساياديا (1712 – 1795)، والمعروف
باسم سايات نوفا، الذي يعني، ملك الأغنية، موظفاً بعض أعماله كمفاتيح
للتقاليد الدينية والثقافية التي تميّز مناطق القوقاز وأرمينيا وجورجيا
وأذربيجان.
لكن الفيلم، كما يشير عنوان الافتتاحية، ليس سيرة
ذاتية نموذجية للشاعر الأرمني بل محاولة لتوظيف السينما للتعبير عن عالم
الصور التي تحفل بها أشعاره.
سايات نوفا اشتهر كواحد من الشعراء الغنائيين
(التروبادوريين) ومن مبدعي أغاني الحب، التي كان يؤديها بنفسه عازفاً على
آلة العود. في البداية عمل كنسّاج ثم صار مغني البلاط في القصر الملكي
بجورجيا. في العام 1770 التحق بالدير وفي 1795 لقي مصرعه على أيدي الغزاة
الفرس.
الفيلم يتألف من مقدمة أو استهلال (برولوج)
وثمانية فصول وخاتمة. المقدمة يتصدّرها هذا البيت من الشعر الذي كتبه سايات
نوفا: "أنا الذي روحه تتعذّب"، وهو قول يتناغم مع آلام المسيح والمعاناة
التاريخية التي كابدها الشعب الأرمني. في هذا الاستهلال يصور بارادجانوف
ثلاث رمانات تنزف عصارتها الحمراء على قماش من الكتان الأبيض، والبقعة التي
تحدثها العصارة تأخذ شكل خريطة لوطن الأرمن "أرمينيا" بتخومها الأصلية التي
تلاشت وزالت. كما نرى في هذا الاستهلال نص مخطوطة قديمة تحتوي على قصائد،
والمخطوطة متجاورة مع الرموز المقدسة والدنيوية التي سوف تهيمن على الفيلم.
الفصول الثمانية تتوافق مع مراحل من حياة الشاعر
"سايات نوفا". في الفصل الأول (وهو الوحيد الذي له صلة مباشرة بالحقائق
المعروفة عن الشاعر) نتابع طفولة الشاعر ضمن عائلة فقيرة. الصغير أروتيون
Arutiun يتعلم في الكنيسة كيف يحترم ويقدّر الكتب والكلمات المكتوبة
والأفكار. عائلته التي تستقر ثانيةً في تبيليسي (عاصمة جورجيا) تعمل في جمع
الصوف ونسج السجاد. الصبي يتدرّب على ثلاث مهن.. إنه يتعلم كيفية صباغة
الصوف، ومعالجة النوْل، وغسل السجاد بعد الانتهاء من نسجه. والصبي، في
مراقبته للرجال والنساء في الحمّامات العامة، يصبح واعياً للفوارق
والاختلافات الجنسية، وهو الاكتشاف الذي يقذف به فجأة نحو مرحلة المراهقة.
الفصل الثاني يتطرّق إلى شباب الشاعر. أروتيون
المراهق يهمل النوْل مفضلاً آلة العود. المخلوقة، التي تمثل الوحي أو أناه
الثانية، الأنثوية، التي تغويه وتقوده بعيداً عن مهنته العملية لتغمره
بأحلام شعرية، تقوده نحو عالم من الخيال واللغز والرغبة. في نهاية الأمر،
هو يترك غرفته ليختبر حياة جديدة في الخارج.
في الفصل الثالث نراه وقد أصبح موسيقار البلاط
الذي يحكمه أمير شاب. (هنا يتجاهل المخرج الأسطورة التي تقول بأن الشاعر
نفي من البلاد بسبب علاقته الغرامية مع شقيقة الملك) الحياة في البلاط تتسم
بالحسيّة والشهوانية والتفسّخ. بعد حملة صيد ناجحة، يموت الأمير فجأة.
أروتيون يشعر بحزن طاغ. يعود إلى غرفته وينجح في تحويل أحاسيسه أو طاقته
الجنسية عن هدفها البدائي إلى غاية أسمى. أما في الخارج، فكل كرنفال
الرغبات، وكل الشهوات البشرية، تستمر في الانطلاق على ضربات طبل الشيطان.
أروتيون يختار حياة الزهد والتنسك.
في الفصل الرابع يتم قبوله في الكنيسة ويصبح
راهباً. الدير يبدو مجتمعاً سعيداً، مكتفياً بذاته، منتجاً خبزه ونبيذه
الخاص. أروتيون يكون واعياً للمسافة بينه وبين الرهبان الآخرين. هو يرأس
القدّاس في كل الاحتفالات الدينية الهامة التي يقيمها سكان القرية، في
الجنازة كما في الزواج كما في حفل التعميد. هو يرى حلماً رؤيوياً: الكنيسة
مكتظة بالنعاج.
في الفصل الخامس نرى أروتيون وحيداً. يحلم بطفولته
العابثة ووالديه المهملَيْن. يشهد جنازة والديه. عاصفة مفاجئة تهب.
الفصل السادس، الشاعر في شيخوخته يغادر الدير
خائباً ومخذولاً، ولا يزال مسكوناً بطفولته. إنه يتشبث بآلة العود كما لو
أنها قادرة أن تعيد إليه سنواته الضائعة. يغادر وحيداً، في ألم، شاعراً
بالخواء يغلّف حياته. هو يتنبأ بغزو الفرس لبلاده وانهيار الكنيسة.
في الفصل السابع تستحوذ عليه كآبة حادة، ويصبح
شديد التوق لترك حياته. هو يتخيّل موت أناه الثانية وجنازتها حيث يكون بين
الحضور والداه وذاته في طفولته.
في الفصل الثامن يتهيأ أروتيون لموته. أناه
الثانية تعود بوصفها ملاك البعث. هو يطلب منها الغفران. في لحظة موته يرى
نفسه كطفل وقد صار ملاكاً. يموت الشاعر لكن أناه الثانية تبقى خالدة.
من المعروف تاريخياً أن الشاعر سايات نوفا لقي
حتفه في العام 1795، عندما قام الفرس، بقيادة آغا محمد خان، بغزو جورجيا
وحاصروا مدينة تبيليسي، مهددين بارتكاب مجازر.
سايات نوفا، المتقدم في السن، كان آنذاك رئيس
الأساقفة. عندما علم بالأمر، غادر الديْر وهرع إلى العاصمة لينقذ عائلته.
وقد نجح في تهريب أطفاله إلى مدينة أخرى لكنه لم يرد أن يتخلى عن واجبه،
فعاد إلى العاصمة في يوم احتلاله من قِبل الجيش الفارسي. هو لجأ مع الجموع
إلى إحدى الكاتدرائيات، التي حاصرها الفرس في ما بعد، وطالبوا الموجودين
بالخروج واعتناق الإسلام. لكنهم رفضوا ذلك، فتم إخراجهم بالقوة وقتلوا
سايات نوفا على عتبة الكاتدرائية.
في ذلك الموضع، أقاموا قاعدة حجرية عليها نقشوا
تاريخ مولده وموته، مع ثلاثة أبيات من قصيدة له، تقول:
"ليس كل شخص قادر أن يشرب من نبعي المتدفق، مياهي
لها مذاق خاص جداً..
ليس كل شخص قادر أن يقرأ ما أكتب، كلماتي لها معنى
خالص جداً..
ولا تصدّق أن من السهل الإطاحة بي، أساساتي صلبة
وثابتة كما حجر الصوّان."
المخرج بارادجانوف كان، على نحو جلي وصريح، أقل
اهتماماً بالحقيقة التاريخية، وبإعادة بناء للأحداث التاريخية. إنه يظهر
شخصية سايات نوفا في صورة قريبة من المسيح الذي يجسّد الصراع المتّقد بين
البواعث المقدسة والمدنسة.
الفيلم عبارة عن سلسلة من الأحداث، المستقلة، حيث
كل مشهد يكون تاماً في ذاته، مكتفياً بذاته. هذه الأجزاء لا تربطها حبكة،
في ما عدا تنامي الشخصية الرئيسية "سايات نوفا" من مرحلة الصبا إلى الشباب
إلى الرجولة، من الشاعر في البلاط إلى العاشق إلى الراهب، إضافة إلى علاقة
الشاعر بالفن والحب والقدر والموت.
لا توجد لدينا هنا في الفيلم "قصة"، ثمة خط قصصي
لكن لا يخضع لتسلسل منطقي، بل يتخذ خاصية القصيدة البصرية، بحيث نجد أنفسنا
إزاء ثمانية فصول/ قصائد بصرية تعبّر عن أطوار الشاعر واهتماماته والمحطات
التي مرّ بها حتى شيخوخته وموته.
الفيلم يتميّز ببناء غير مألوف من الصور الآسرة،
المركّبة على نحو جميل، وبتكوينات بصرية رائعة، حافلة بالمجازات. المشاهد
تتعاقب في جمال أخاذ وغرابة مذهلة. فيض من الصور والمجازات البصرية تغمر
الشاشة والمتفرج.
أسلوبياً، نلاحظ اللجوء المتكرر للانتقالات
الفجائية
jump- cuts من أجل مقاطعة أي تدفق للفيلم. في أغلب الحالات، تكون اللقطات
مختصرة، وتكاد أن تكون مبتورة. وتجدر الإشارة إلى أن كل اللقطات مأخوذة من
الأمام، بكاميرا ثابتة.
الصور، بالأحرى، تبدو معلقة في الزمن، أشبه بلوحات
مستقلة، تتجاور لكن لا تتصل ببعضها في حالة مستمرة أو سردية. إنها تظهر،
تختفي، تتكرر لكن بتنويعات. والكاميرا ساكنة، ثابتة. هكذا نرى: ثلاث رمانات
تنزف عصارتها، ، مياه تجري على أعمدة كنيسة وعلى نقوش حجرية نافرة، كتب
مغمورة بالمياه، أقدام تعصر العنب، سطح مرصوف بكتب مفتوحة صفحاتها تصطفق
وتحدث طقطقة بفعل النسيم.. الخ.
في تتابع اللقطات الواقعية تتوالد الصور
السوريالية.
الصوت منفصل عن الصورة، ليس هناك حوار متزامن.
الكلمات المنطوقة هي إما اقتباسات من شعر سايات نوفا أو تعليقات حرة على
الحدث. المؤثرات الصوتية والموسيقى مستخدمة لتعزيز البنية الإجمالية،
وأحياناً لخلق روابط بين أجزاء مختلفة من الفيلم.
بارادجانوف، في تشكيل فيلمه، يستفيد من تقاليد
المسرح الشعبي في توظيفه للأقنعة والأداء الصامت (المايم)، ومن الفن
البيزنطي في صنع الأيقونات، إذ نحن إزاء سلسلة من اللوحات الثرية التي تشبه
شكل ولون الأيقونة، حيث الشخوص والأشياء تتخّذ وضعاً رمزياً، والمنظورات
تكون مسطحة. إضافة إلى الصور المستمدة من الثقافة الأرمنية والتاريخ
الأرمني. ثمة حس معماري في التكوينات التي تتباين مع الشعور الحسي.
الشخصيات غالباً ما تكون بعيدة في الكادر،
وأحياناً تنظر إلى الكاميرا.
الفيلم هو عمل إبداعي مبتكر، حديث، يتسم بالثراء
البصري ضمن نسيج مركّب من الرموز والمجازات. كل كادر في الفيلم مركّب
بعناية من أجل إدهاشنا، والتأثير فينا، وتحريك مشاعرنا وأذهاننا.
إنه إنجاز فني ساحر، رائع واستثنائي..
الوطن البحرينية
ـ .6 ديسمبر
2010
|