( مقاربة تحليلية مع اربعة افلام امريكية )
ملخص الفيلم : يصور الفيلم الذي يستغرق عرضه اكثر من ساعتين ونصف ، احداث
قصة شبه حقيقية تتناول قيام مجموعة مكونة من ضابط شرطة ،مدعي عام وطبيب ،
بالاضافة لحافري قبور ورجال شرطة وشقيقين متهمين بالقتل ( أحدهما معاق ) ،
حيث تتجول ثلاث سيارات في المناطق الريفية للأناضول بحثا عن مكان دفن جثة
، وتكمن المفارقة الكوميدية في عدم تذكر الجاني لمكان دفن الجثة بسبب
تناوله المفرط للكحول ليلة الجريمة ، كما ان هبوط الظلام وتشابه الملامح
والتضاريس البصرية صعب من اكتشاف موقع الدفن .
بحث عن الذات والآخر
تكمن عبقرية هذا الفيلم الطويل اللافت ، في تحول رحلتهم البوليسية هذه
لرحلة اكتشاف للذات والآخر، حيث يجبرهم تجمعهم القسري والنادر طوال ليلة
كاملة ونصف يوم آخر ، لمناقشة مواضيع عديدة متداخلة ومتشعبة ، منها كيفية
تحضير اللبن ، اعداد لحم الضان ، مشاكل التبول والبروستاتا ، شؤون العائلة
وقصص الزوجات والأطفال ، المغامرات النسائية ،الموت والانتحار ، التراتبية
الوظيفية والبيروقراطية ، عناصر السلوك القويم ، ما يصح وما لا يصح ، ثم
يناقشون باسهاب تفاصيل عملهم اليومي ! وقبيل الفجر يتوقفون في قرية مجاورة
لتناول الطعام ، وبعد الوجبة يتم تدريجيا اكتشاف ملابسات الجريمة ليلة
وقوعها ، حيث اقدم الجاني وشقيقه على قتل الضحية بعد توثيقها وهو في حالة
سكر كامل ، ويكشف سرا كبيرا عندما يعترف بأن ابن الضحية هو ابنه الغير
شرعي ، " فتش عن المرأة " يقول مفتش الشرطة معلقا !
تكمن روعة هذا الفيلم في التفاصيل التي قد تستدعي الملل في افلام كثيرة
اخرى ، ولكنه هنا جاءت لافتة وجذابة وحافلة بالحوارات الطبيعية والايماءآت
المثيرة للاهتمام : فعندما جلبت جثة القتيل للمشرحة ، طلب المحقق من زوجة
الضحية التعرف على جثة القتيل ، فاجابت بعد تردد غامض وكانها لا تعرفه ،
ثم طالب من كاتب السجلات أن يعطيها مقتنيات القتيل وملابسه ، ودار قبل ذلك
جدال مجازي حول تاثير عقار معين وتسببه عند أخذه بجرعات زائدة في حدوث جلطة
قاتلة ، حيث يبدو (وهذا هو السر الثاني الذي نكتشفه في سياق القصة )
وكان زوجة المدعي العام نفسها ، قد اقدمت على الانتحار بتناولها لهذا
العقار ، ومباشرة بعد ولادة ابنتها ، وكأنه احتجاج صارخ فيما يبدو على
علاقات زوجها النسائية المتعددة ، ثم يعلق المدعي العام بسخرية حزينة :
كم أن النساء قاسيات وينتقمن بطريقة غريبة ! اما المفاجاة الثالثة في هذا
السرد السينمائي الواقعي الجميل ، فتكمن في اكتشاف جراح المشرحة لوجود
غبار في رئة الضحية ، مما يعني انه دفن حيا ، ولكنه لأسباب غامضة ( وربما
انسانية ) ، وبطريقة غير متوقعة يمحي الطبيب المسؤول هذا الاكتشاف من
سجلات التحقيق ، ونشاهده يتابع من خلال النافذة ، وبنظرات متعاطفة الأرملة
المسكينة وابنها (ذي الاثنا عشر عاما ) وهما يسلكان منحنيا زراعيا باتجاه
بيتهما ، وحيث نلاحظ الفتى الصغير يرد بلامبالاة كرة ضالة لمجموعة تلاميذ
بلعبون في مدرسة مجاورة ، راكضا ببراءة للحاق بوالدته !
وقائع حقيقية ونمط تشيكوف السردي
نشأ المخرج نوري بيليج سيلان في بلدة صغيرة تتشابه لحد بعيد مع البلدة
التي شاهدناها في الفيلم ، وخاصة فيما يتعلق بالعقلية السائدة وهموم
البشر واحترام التراتبية والبيروقراطية ، وقد اعترف بأنه يرتبط شخصيا مع
أنماط الشخصيات التي يتحدث عنها .لقد بني الشريط على وقائع حقيقية ، كما
ان أحد كتاب القصة كان طبيبا حقيقيا ، وبغرض الحصول على رخصة ممارسة الطب ،
فقد تطلب الأمر ان يقوم بالعمل لعامين متواصلين في مستشفى البلدة المحلي .
أما عنوان الفيلم فهو مشتق من ملحمة الغرب الشهيرة ( في ستينات القرن
الماضي ) للمخرج الايطالي الراحل سيرجي ليوني "حدث ذات مرة في الغرب " . تم
ادخال عناصر درامية نابضة بالحياة مشتقة من وحي قصص الكاتب الروسي
الشهير انطوان شيكوف ، وانجز التصوير خلال أحد عشر اسبوعا في مواقع مختارة
حول بلدة "كيسكين " ، وهي تابعة لمنطقة كينكالي في وسط الأناضول .
جائزة مهرجان كان وأربع جوائز عالمية
يحتوي الفيلم على تحدي واضح يكمن اولا في طوله الذي يتجاوز الساعتين ونصف ،
وفي نمط تطور الأحداث خلال الساعة والنصف الاولى من التصوير الليلي ، ومن
ثم بعد انبلاج الفجر لليوم التالي ، وبطريقة اعتماده للزمن الواقعي-
الحقيقي لمجريات الأحداث. وبالاضافة لكون الفيلم يوثق زمنيا للأحداث بشكل
تصاعدي-درامي ، الا أنه لا يتبع نمطا تقليديا في السرد السينمائي ، حيث
تحدث الأشياء برتم طبيعي ، ودونما مداخلات وحذلقات سينمائية ابهارية ، من
هنا فانه يعتبر فيلما رياديا ، وقد استحق بجدارة جائزة التحكيم الكبرى في
مهرجان كان ، بالاضافة لأربع جوائز عالمية اخرى ( كآسيا باسيفيك ومهرجان
كارلوفي ) كما أنه حصل على خمسة ترشيحات دولية كأحسن فيلم وأحسن سيناريو .
لقطات لافتة
يحمل هذا الفيلم بعدا انسانيا نادرا من حيث تعاطفه مع القاتل ، الذي يكاد
بدوره أن يصبح عضوا في فريق البحث ، كما انه كان يشعر بالندم والذنب
الشديد ، وقد ثبت فلسفيا أن الندم هو اسوا تجربة حياتية يمر بها الانسان ،
وتنضوي احداث الفيلم تحت عنوان الكوميديا السوداء ، فهناك لقطات عديدة تبعث
على الضحك والسخرية ، ومنها اهتمام السائق (واسمه عرب) بجني الثمار
البرية ( كالتفاح وغيره ) ، والعودة بها كغنيمة من رحلة البحث هذه ، حتى
انه لا يكترث بوضعها مع الجثة في الصندوق الخلفي للسيارة ، كذلك يتطرق
للنمطية والبيروقراطية السائدة في التحقيق الجرمي ، ونرى التزاما تلقائيا
طريفا مع التراتبية الوظيفية ، فالكل يعرف دوره ومكانه ، ولا احد يحتقن او
يلوم ، فعندما يكتشف ضابط الشرطة أنهم لم يجلبوا كيسا لحفظ الجثة ، لا يغضب
ويثور كالمتوقع في هذه الحالة ، وانما يطلب منهم اللجؤ لخيار آخر عملي ،
حتى الميت بدوره يبدو حضوره طاغيا بالجو المأساوي الذي أضفاه على رحلة
البحث هذه ، حيث يظهر " كالغائب الحاضر ! "
وعندما يشكو جراح المشرحة للطبيب المسؤول من "تواضع " أدوات التشريح مقارنة
مع مستشفى آخر بالمنطقة ، لا يهتم هذا الأخير بهذه الثرثرة ، ويطلب منه
الاستمرار بعمله ، حيث يباشر هذا الأخير بتشريح وتقطيع الجثة وكانه جزار
ماهر يجهز خروفا بعد ذبحه ! ونرى الدم يتطاير على وجه الطبيب وملابسه ،
ونكاد نشعر أننا نرى المشرح وهو يجمع الأحشاء والقولون ، بالرغم من
كوننا لا نرى ذلك بأعيننا . يبدي الجميع تعاطفهم مع القتيل وطريقة
توثيقه القاسية ، وبالمقابل لا نرى الا ضابط الشرطة يصرخ مؤقتا في وجه
الجاني بعصبية ، كما تبدو الأحداث تنساب بشكل تلقائي ، وكان ما يجمع
هؤلاء الأشخاص هو الروابط الحياتية- المعيشية – اليومية ، كما يهيمن شبح
الموت على أجواء البلدة الصغيرة، ونرى القروي الكريم يستغل فرصة هذا
التجمع النادر ، لكي يطلب اقامة مشرحة عصرية وثلاجة حديثة كبيرة ، لأن
رائحة الأموات الخانقة ( حسب تعبيره ) تفوح في البلدة قبل وصول الأبناء
من ديار الغربة البعيدة ،لالقاء النظرة الأخيرة على جثامين الأباء
والامهات التي تبقى بانتظارهم قبل الدفن ، وهو يستغل بسذاجة القروي
البسيط فرصة الوليمة هذه لكي يعرض جمال ابنته ، ويسوقها للزواج ، حيث
نراها تدور عليهم بأكواب الشاي ، فيما لا يتورع معظمهم عن اختلاس
نظرات معبرة لوجهها الجميل !
دراما ريفية- ساذجة !
يتجلى مغزى التصوير الليلي والانتقال تدريجيا للصباح في حبكة القصة ، حيث
يبقى الموضوع غامضا ، ومن ثم تتجلى تفاصيله تدريجيا مع انبلاج ضؤ الشمس في
اليوم التالي ، وهناك لقطات رائعة تتمثل في الاضاءة الليلية الآخاذة ،
التي استغلت فيها مصابيح السيارات وحركات الظلال وضؤ القمر ! وعكس معظم
الأفلام الأمريكية والاوروبية التي تعرض في مهرجان كان ، فالفيلم لا يحتوي
على حبكة سينمائية غامضة ، ولا على مطاردات بالسيارت وعلى على قصة حب جارفة
، ومشاهد جنسية صريحة او مجازية ( كمعظم الافلام العربية الحديثة )، وانما
هو شبه تسجيلي – واقعي لمجموعة موظفين بيروقراطيين يسعون معا بهدؤ لكشف
ملابسات جريمة قتل ليست مثيرة اطلاقا ، بل انها مجرد دراما ريفية لجريمة
قتل عادية ، ولكنها تدهشنا بطرحها الذكي الهادىء المتضمن للعديد من
المعاني الانسانية السامية والمشاكل اليومية الحياتية البسيطة ، أما
الشخصيات الرئيسية الثلاث في الفيلم ن فقد كانت ايضا عفوية وبارعة وتكاد
لا تصدق أنهم يمثلون ، وهم رئيس الشرطة الحازم والعصبي يلماز أردوغان ،
والمحقق الساخر والمرح تينار بريسيل والذي يعتقد أنه يشبه الممئل
الأمريكي الراحل كلارك جيبيل ، والطبيب الشاب الحزين والوائق من نفسه
محمت أزنير ، وتكمن المفارقة اللافتة هنا في ان رحلة الاكتشاف هذه لم
تتجاوز في واقع الأمر اكثر من سبعة وثلاثين كيلومترا ، كما علق أحدهم
بسخرية ، فيما بدت وكأنها رحلة اسطورية لا تنتهي للطرف الآخر من العالم ،
كما أن المغزى العميق يتجلى في سعيهم لاكتشاف ما هو اكثر من مجرد جثة رجل
ميت ، وتتجلى الكوميديا في التعليقات اللاذعة التي تتناول كافة قضايا
حياتهم اليومية ، وفي التوقف المتتابع للقافلة حتى يتمكن المحقق من التبول
!
*كاتب وباحث وناقد سينمائي
Mmman98@hotmail.com
سينماتك في 4
نوفمبر 2013
|