لم تكن مفاجأة، حصول الفيلم السوداني (ستموت في العشرين) للمخرج أمجد أبو
العلاء على جائزة نجمة الجونة الذهبية في الدورة الثالثة من مهرجان الجونة
السينمائي في عرضه الأول في الشرق الأوسط بعد حصوله على أسد المستقبل في
مهرجان فينيسيا، هذا الفيلم هو الروائي الطويل الأول للمخرج والذي منذ
اللقطة الأولى تيقن الجمهور أنه أمام عمل خاص، فلا يمكن ان لا تتنبه لكل
تفصيل فيه، استطاع أبو العلاء أن يشدك كمتلقي في طريقة ادارته للإضاءة التي
من الممكن اعتبارها أحد أبطال الفيلم الذين تحركوا بدورهم في كادرات أبو
العلاء بكل حرفية واستطاعوا أن يقدموا أداءاً يعرفنا أكثر على قيمة الفن في
السودان هذا البلد الذي كان يعتبر الفن فيه جهدا شخصيا، في حضرة تحريمه من
الجماعات المتشددة.
تم تصوير الفيلم خلال اندلاع الثورة الشعبية السودانية التي أطاحت بالبشير
فتكاد تلمس ذلك العنفوان الذي ظهر في وجوه الممثلين، والعرض جاء بعد تلك
الإطاحة والتي عملياً سيرتبط فيها فيلم أبو العلاء بأنه أول فيلم سوداني
يتم عرضه بعد انتصار إرادة الشعب السوداني.
نعم هو العمل الأول لكن لا شائبة فيه، بداية من النص مرورا بالسيناريو
واختيار الممثلين وفريق الإنتاج والمكان والضوء وليس انتهاء باسم مخرج شاب
استطاع إدارة كل هذا بحرفية لمخرجين أصحاب تجارب أكبر، وهذا من شأنه وضع
أبو العلاء في مسؤولية مضاعفة أمام ما سيصنعه لاحقا.
هذا الفيلم العذب..
قدم حكاية بسيناريو كتبه يوسف ابراهيم عن قصة لحمّور زيادة
يحكي قيمة الحياة في مواجهة من يحكم بالموت باسم الدين والخرافات، من خلال
شخصية (مزمل) الذي رافقته لعنة منذ ولادته وأمه التي تحمله لتأخذ بركة شيخ
القرية الذي وصل فيه حد الدجل أن يقرر وقت موت مزمل ويعلن هذا الموت على
الملأ.. هل تتخيل حال الأم وقتها، وانسحاب الأب من بيته لعدم تحمله الفكرة،
كل هذا تم تجسيده بأداء استطاع أن يوصل كل مشاعر الخوف، الغضب، القلق، عدم
التورط بمحبة زائدة لام تجاه ابنها الوحيد الذي تبدأ بعد الأيام والسنين
على رحيله، في المقابل ذلك الشاب الذي يعيش حياته العشرين محكوما بالموت لا
يستطيع حتى أن يحلم، ينتظر موته المحتوم بسبب دجل كان وما زال يعشعش في
مجتمعاتنا العربية.
ستكون كمتفرج شاهدا على التطور الدرامي وحتى الفكري لشخصية (مزمل) وستستثني
باقي سكان القرية الا ما ندر من شخصيات عابرة، وستنتظر معه دون شك موته في
العشرين وهنا أنت تتورط اجتماعيا مع هذا المشهد باستثناء أمل بسيط يجعلك
تحاور نفسك أثناء العرض أن ثمة نهاية ستسخر من الجميع، وتتزامن مع ظهور
شخصية (سليمان) العائد من الغرب والذي يلقبه أهل القرية بالشيطان، وهو ليس
أكثر من شخص مستنير عاش مراحل وطنه السودان ويدرك أن ما وصلت له بلاده هو
ترجيح كفة المتشددين على كفة الوطنيين، هو وبيته المليئ بصور لسامية جمال
وكتب نجيب محفوظ وأغاني تصدح بصوت من الزمن الجميل وكاميرا وبروجكتر وقماشة
للعرض، يتعثر عليه (مزمل) ليعي أن ثمة حياة في حضرة فكرة موته، يقول سليمان
لمزمل: "لو كنت مكانك لعشت عشرين عامًا يخدمني الجميع لأفعل كل ما أريده ثم
أكمل العشرين لأسخر منهم" وهنا عمليا الانتقال إلى مرحلة أخرى من الفيلم،
وهي التي تمنح الأمل على الرغم من وجود شابة تحب مزمل لكنها لم تخلق في
داخله التمسك بالحياة مثل سليمان، والهزة فيه حدثت عندما اقترنت تلك
الحبيبة بآخر.
هنا ركز أبو العلاء على القيمة الفكرية وليس العاطفية فالعاطفة لم تخلق
الأمل في قلب مزمل منذ وعى هروب والده وتركه في أحضان أمه التي لم تخلع
الأسود يوما، وحبيبته التي تزوجت بغيره، لكن عندما أيقن ان في الحياة ثواب
وعقاب، وأنه لم يختبر الثواب يوما، وعندما بدأ يتعلم من سليمان الكتب
والموسيقى والسينما، أدرك أنه يستحق أن يعيش كل ذلك حتى ولو قبيل اتمامه
العشرين بليلة وهذا ما فعله، ليطلع الصبح عليه وعلى قريته التي تستعد
لجنازته ووالده الذي عاد ليدفنه ويجري بكل عنفوانه إلى سكة طريق تبشر
بولادته من جديد وبسخريته من كل من حكم عليه بموت بطيئ.
فيلم متماسك، قوي، ينقل السينما العربية والسينما السودانية تحديداً إلى
شكل مختلف يدل على اجتهاد مخرج واعد من الواضح أن شاهد مئات الأفلام وتعلم
منها الكثير ليقدم للجمهور هذا الفيلم الذي سيضاف إلى مكتبة السينما
العربية والذي من الصعب نسيانه.
* صحفية
وناقدة سينمائية فلسطينية |