بعض الجرائم لا يمكن الوصول إلى فاعليها، فتظل عالقة في
الهواء، لا القانون استطاع أن يكشفها ولا الشهود توصلوا إلى الفاعلين. على
رغم ذلك يبقى الانتقام الإلهي قادراً، دون غيره، على تحقيق القصاص من
المجرمين معدومي الضمير، الذين ساعدتهم الظروف في الهروب من فخ القبض
عليهم، ناسين أن العدالة الإلهية لا تعرف عبارة «ضد مجهول».
أثار مصرع الفنانة كاميليا الكثير من علامات الاستفهام بعد
سقوط الطائرة التي كانت كاميليا على متنها في طريقها إلى أوروبا
واحتراقها... وأشاع كثيرون من أوساط مختلفة أن الحادث مرتب بعناية شديدة.
ودارت الشبهات حول الملك فاروق ورجال الحرس الحديدي الذين يتولون حمايته،
فيما نفى فريق كبير تورط ملك مصر لحبه الأسطوري لكاميليا واتهموا وكالة
المخابرات اليهودية بالتخطيط للمؤامرة التي كان مسرحها الدلنجات في البحيرة
حيث تحولت الطائرة إلى حطام، وتناثرت جثث الركاب وضاعت أمتعتهم ومجوهراتهم
التي استولى عليها مجهولون. وبعد كتابة اسم الفنانة القتيلة الحقيقي في
التحقيقات وهو ليليان ليفي كوهين وتاريخ ميلادها وهو 13 ديسمبر 1919 أثير
السؤال حول ديانتها، فالجميع يعرفون أنها يهودية أنجبتها أمها أوبي لويس
ابنور من غير زواج رسمي وبعدما هرب والد الطفلة لإفلاسه في البورصة نسبتها
أمها إلى صديقها ليفي كوهين... إلا أن الأم حمت ديانة الفنانة الجميلة
بأنها مسيحية كاثوليكية وتمت الصلاة على جثمانها في كنيسة القديس يوسف في
الانتكخانة وسط حشد من الفنانين وجموع الشعب المصري... وأمام الغموض الشديد
الذي صاحب الحادث دست وكالات الأنباء العالمية والصحافة العربية أنفها في
أذن تفاصيل الحياة الخاصة للفنانة الراحلة، خصوصاً وقد اشتهرت بالعلاقات
الغرامية المتعددة بالكبار وكبار الكبار. وفي الحلقة السابقة انفردنا بجزء
من مذكرات أم كاميليا التي كتبتها عقب انفجار الطائرة المشؤومة نجمة
ميرلاند! وكيف نشأت ليليان فقيرة للغاية هوايتها الوحيدة التسكع في شوارع
الإسكندرية وأمنيتها شراء فستان جديد وأن يتزوجها موظف راتبه ستة جنيهات في
الشهر... لكن فجأة يظهر في حياتها نجم السينما ودونجوان مصر أحمد سالم
فيمنحها موعداً في فندق وندسور.
لفت انتباه النجم الكبير أحمد سالم في لقائه الأول بكاميليا
أنها ترتدي ملابس رثة وفستاناً قديماً وتحتاج إلى جهد كبير ليصنع منها نجمة
سينمائية تحدث انقلاباً في عالم الفن. ويبدو أن الأستاذ الكبير زكي طليمات
شاهد الفتاة ليليان وهي على هذه الحالة مع النجم أحمد سالم فكتب في مذكراته
الخاصة يقول:
«ووقعت
عيناي عليها للمرة الأولى وأنا أستقل المصعد إلى مسكني في العمارة الكبيرة
وكان يصحبها الفنان الشاطر (يقصد أحمد سالم) وقدمها إليَّ قائلاً:
*
الآنسة ليليان ليفي...
-
تشرفنا...
*
هتكون البطلة في فيلمي الجديد.
-
مبروك وإن شاء الله تلاقي وقت تشتغل معايا في المسرح.
وقدمني الشاطر إليها بصفتي عميد المسرح العالي للتمثيل
ومدير الفرقة المصرية، فوجدت نظري يقع على «فتق» صغير في فستانها عند
الكتف. وأحست الفتاة باتجاه نظري نحو كتفها فرفعت يدها تغطي «الفتق». كانت
على جمال لافت وجاذبية طاغية وإن كانت ملابسها أقل من أن توصف بالمتواضعة
من ناحية الذوق والقيمة! وبعد عام وأشهر شاءت المصادفة أن ألتقي بها للمرة
الثانية، كانت مع زميلي الشاطر تهبط معه في نفس المصعد فأسقط بلباس أنيق
غال. كانت تبهر بأناقتها التي انضم إليها ذلك الشعر الذهبي الذي صففته يد
ماهرة. وتغلبت على دهشتي بالترحيب بها:
-
أهلاً آنسة ليليان...
وهنا تدخل زميلي الشاطر يقول لي:
*
لم تعد ليليان. أنا اخترت لها اسمها الجديد... كاميليا.
ووجدت نفسي أستطرد قائلاً له:
-
كاميليا حاف كده.. طب خلي اسمها غادة الكاميليا.
هنا صاحت الفتاة غاضبة:
**
لا... كاميليا بس. أنا عرفت حكاية غادة الكاميليا وأنها
ماتت بالسل.
الحب الذي كان
جمع الحب الكبير بين أحمد سالم وكاميليا... علمها كيف تأكل،
كيف تمشي، كيف تتكلم مع الناس أو تراقصهم في الحفلات. خصص لها أساتذة في
الإتيكيت وفن التعامل، منحها ألف جنيه أجراً عن فيلمها الأول فلم تصدق
نفسها. كان اسم الفيلم «رجل المستقبل»، ولا يعرف أحد إن كان اسم الفيلم
مجرد مصادفة، أم أنه كان تعبيراً عن واقع حي وملموس في حياة النجمة
الصاعدة. لكن كل هذا الحب الكبير سرعان ما تبخر حينما عادت كاميليا إلى
والدتها مذعورة لتخبرها أنها شاهدت أحمد سالم يضرب أحد العمال بقسوة حتى
كاد أن يقتله، وأنها تخيلت نفسها قد أخطأت في شيء ما فضربها بالطريقة
نفسها، خصوصاً أن له حادثاً شهيراً مع المطربة اسمهان قبل أن يتعرف إليها.
قررت كاميليا الانفصال وشجعتها أمها... واندفع كبار الفنانين يحاولون
التقرب من صاحبة الوسادة الخالية وفي مقدمهم يوسف وهبي والشاعر الكبير كامل
الشناوي... ولم يتردد الأثرياء من كبار التجار ومحترفي البورصة في محاولة
صيد الغزال الفاتن... كل واحد اعتقد أنه الفارس الوحيد الذي يستطيع أن يروض
هذا الفرس الجامح.
ومثلما ظهر أحمد سالم في حياة كاميليا بالصدفة... جاء الدور
على ملك مصر... كانت في سهرة في كازينو «الحلمية بالاس»، وما إن علمت بوجود
الملك حتى تركت مائدتها وقامت لترقص وتغني فانبهر بها الملك فاروق ولم
يغادر الملهى حتى كانت رسالته قد وصلت إليها بأن جلالة ملك مصر شديد
الإعجاب بها، وأنه حدد لها موعداً لمقابلته في القصر.
كانت كاميليا قد تفتحت عيناها على الدنيا، وحقيقة ما يريده
الرجال، وحقيقة ما تملكه من أنوثة ساحرة... نست الحارة والفقر والتسكع أمام
الواجهات... وبدأت تخطط لاستخدام سلاح جمالها للوصول إلى أقصى ما تحلم به
امرأة، أو هكذا صور لها الشيطان. لقد أحبها الملك فاروق، تبسط معها، أزال
كل الحواجز التي كانت بين ملك وممثلة. راح يحكي لها همومه الإنسانية
والعائلية والسياسية... وشعر بأنه لا يستطيع الاستغناء عنها. تعود عليها
وكثيراً ما يكون التعود أقوى من الحب نفسه... وفي هذه الأثناء حاول رشدي
أباظة أن يقترب منها فنصحوه أن يبتعد لأن الملك سيقتله... وعلى رغم إعجاب
كاميليا برشدي فإنه هرب وأنقذ حياته. ولم تهتم الفنانة التي أصبحت رمزاً
للإغراء... فليذهب رشدي وغيره ما دام أمامها مشروع العمر بالوصول إلى
الزواج من ملك مصر... حتى أحمد سالم لم يعد له في قلبها مكان، بينما كان
أحمد سالم يحاول نسيانها وحينما أراد صديق مقرب منه أن يرفع من روحه
المعنوية قال له إن كاميليا لا بد من أن تعود إليه ذات يوم. لكن أحمد سالم
كان يردد الإجابة نفسها لكل من يحدثه عن عودة كاميليا إليه فيقول:
*
حتى لو عادت فلن تجدني، لأني لا أحب السيارات المستعملة.
وكانت كاميليا تقول إن الرجل الوحيد الذي كان يمكن أن تحبه
فعلاً هو أنور وجدي لولا أنها شعرت بأنه يريد أن يغيظ بها ليلى مراد.
زواج لم يتم
طردت كاميليا الرجال كلهم من حياتها. تفرغت لغرام صاحب
السمو الملكي، خصوصاً وقد بدأ فاروق يخصها بهمومه كزوج طلق زوجته ويبحث عن
العروس التي ستنجب له ولياً للعهد... وكانت كاميليا تنصت للملك وتترك
أنوثتها تتكلم وترغي... وتسيل لعاب جلالته! سألها فاروق ذات يوم عن أجمل
بقاع الدنيا التي ترتاح للإقامة فيها وردت كاميليا من دون تردد:
*
جزيرة قبرص.
وهمس لها الملك في رقة العشاق:
**
سأشتري لك بيتاً هناك... ولنسافر بعيداً عن العيون
والجواسيس الذين يراقبوننا.
طارت كاميليا من الفرحة. سبقت فاروق إلى قبرص... ولم يستطع
الملك الانتظار حتى يرتب أوراقه. لحق بها من دون أن يخبر حكومته التي كانت
تتفاوض مع سلطات الاحتلال الإنكليزي، وتعاني بوادر أزمة وزارية تطل فتنتها
فوق رؤوس الأشهاد.
التقى الملك بالحسناء الجميلة في قبرص بعدما سافر إليها
باليخت الملكي فخر البحار. عاشا أياماً من الحب كامل الدسم. لكن الزيارة
المفاجئة التي أربكت حكومة قبرص، أربكت في الوقت نفسه الحكومة المصرية التي
فوجئت بأن الملك سافر سراً، ويتكهرب الجو حينما طيرت وكالة «رويتر» برقية
تقول إن ملك مصر شوهد في قمة سعادته مع الممثلة الشابة كاميليا... وأنهما
كان يتحدثان وينصت كل منهما إلى الآخر في اهتمام بالغ.
ونشرت الصحف المصرية نص البرقية فقامت الدنيا ولم تقعد.
رئيس الوزراء هدد بالاستقالة إذا لم يعد ملك البلاد فوراً لحل الأزمة
الوزارية بدلاً من اللهو مع ممثلة السينما.
ظن فاروق أن كاميليا هي التي سربت الخبر لتضعه أمام الأمر
الواقع. كان واثقاً أن كاميليا لم تف بوعدها له وحكت لأمها عن رحلتها
الغرامية مع الملك، وأقسمت له كاميليا أنها بريئة فلم يصدقها. بكت وهي
ترتمي فوق صدره تسترحمه فلم يضعف. قال لها إنه يحبها فعلاً، لكنه لا يحب
المرأة المدمرة. طعنها وهو يخبرها أيضاً أنه لا يستريح لأخلاق الفنانات،
فهي كأي فنانة تريد أن تتباهى وتعلن للعالم أجمع أنها قد أصبحت سيدة الغرام
الملكي. وللمرة الأولى يستغلب فاروق على عواطفه ويرفض توسلات كاميليا
ويخبرها أنها تبكي بدموع التماسيح!
تركها الملك في قبرص وسافر إلى تركيا في محاولة للتمويه على
حكومة مصر والظهور وحده من دون أن تكون معه كاميليا، لكنها لم تستسلم.
أرسلت إليه ببرقية من خمس كلمات فقط، لكنها وضعت بالكلمات الخمس النقاط فوق
الحروف:
*
إما أن تعود... أو أنتحر!
وصلت البرقية إلى اليخت «فخر البحار» حيث يرسو بالملك. اهتز
الملك... قرر العودة إليها فوراً. ربما كان معذوراً الآن الحب لا يموت مع
أول غلطة. أخذها في عناق طويل... نصحها أن تحافظ على علاقتها به، وحذرها أن
تبوح بسر غرامها. أمرها أن تنكر أي صلة لها به.
عاد الملك إلى مصر وعادت بعده كاميليا بأيام عدة. كان
يقابلها بحرص بالغ وقلب كبير وغرام لا يفتر. إلا أن أزمة أخرى نشأت بين
الملك وحبيبته... طلبها أن تذهب إليه في استراحته الملكية في الهرم، واضطرت
هي أن تترك الأستديو والمخرج والمشاهد التي كان يجب أن تصورها. ذهبت إليه
في الموعد الذي حدده بالدقيقة والثانية. أمضت معه ساعات يذوب معها الحديد
البارد. كان الملك مدفوعاً إليها دفعاً... قرر أن يوصلها بسيارته... طبع
قبله فوق خديها وسط ظلام شارع الهرم. ربما لأن المرأة الجميلة كالبحر لا
يزداد الشارب منه إلا عطشاً.
صباح اليوم التالي خرجت الصحف وفي صفحاتها الأولى خبر يقول
إن كبيراً شوهد وهو يطبع قبلة غرامية على وجه ممثلة معروفة. قرأ فاروق
الخبر... ضرب مائدة الإفطار بقدمه... ثار غاضباًً وهو يؤكد لنفسه أن
كاميليا لا تريد أن تسبح معه إلى بر الأمان أبداً. عاد إلى الشك فيها، وظن
أنها هي التي اتصلت بالصحف مما سيجعلها السبب في أن يغرق الملك في فضيحة
جديدة. ابتعد عنها... وأصر هذه المرة على أن يؤدبها. لكن كاميليا لم تيأس.
طاردته... أراد أن يقنعها بضرورة الابتعاد عنه ولو موقتاً كي لا تصيب عرشه
في مقتل... قالت له: إذاً نتزوج ولو في السر! تردد الملك لحظات... لكنه عاد
يهمس لها بأنه لا يرفض الفكرة. ولكن بشرط أن ينسى الناس علاقتها به...
وطارت كاميليا من الفرحة. وعاشت تنتظر هذا اليوم بفارغ الصبر. لكن الملك في
الوقت نفسه كان يبحث عن امرأة تنسيه سحر وجمال كاميليا... ولو إلى حين.
تعمد أن يعرف الناس قصة غرامه الجديد بالمطربة الفرنسية آني برييه ليبتعد
شبح كاميليا عن ذاكرة الناس... وفعلاً وجد فاروق في المطربة الفرنسية
الحسناء ضالته، فهي امرأة مسلية تتحدث بجرأة... ولا تنبهر بالملوك
والمواكب، ولا يسيل لعابها أمام السلطان والنفوذ، فهي معشوقة للجماهير...
شعبها هم المعجبون بها في أنحاء العالم كله... ويبدو أن هذا النموذج الفريد
من النساء جذب إليه ملك مصر. عرض عليها ما تشاء من أموال وكنوز لتعتزل
الغناء وتتفرغ لحبه... لكنها ردت عليه بأنه لو ترك القصر والحكم ليتفرغ
لحبها، فسوف تفعل مثله.
سافر فاروق إلى إيطاليا. وهناك قابلته آني برييه... وكانت
مفاجأة لملك مصر حينما سألته آني برييه عن كاميليا. وهنا صمت فاروق، ولم
يرد، فإذا بها تعود لتهمس له في ثقة:
*
صدقني يا جلالة الملك أنت لن تنساها إلا إذا ماتت. أنت
تحبها وتهرب منها عندي. أنت تختبئ منها في مغارتي. وأنا رضيت... ومنحتك حق
اللجوء العاطفي.
وفجأة، وبينما الملك في إيطاليا، سافرت كاميليا على الطائرة
المشؤومة ولقيت مصرعها... وبعدما تلقى الملك الخبر المفجع ترك المطربة
الفرنسية وعاد إلى مصر.
•
هل كان مصرع كاميليا هو الحل الوحيد لينسى فاروق كاميليا
كما قالت آني برييه للصحف الفرنسية بعد حادث الطائرة.
•
هل أسرع الحرس الحديدي بالتخلص من كاميليا قبل أن يقع
المحظور ويتزوج كاميليا وتصبح أول ممثلة تجلس على عرش مصر؟
•
هل قررت المخابرات اليهودية أن تفجر طائرة كاميليا بعدما
لعبت دور العميلة لجهاز المخابرات؟ هل خشى الجهاز من أن تسرد كاميليا للملك
حكايتها مع الجاسوسية؟
•
كل هذه الأسئلة وغيرها ما زالت حتى الآن بلا إجابات منذ عام
1950، وما زال الحادث يكتنفه الغموض رغم مرور 63 عاماً على وقوعه.
الجريدة الكويتية في
24/07/2013 |