تجر مهرجانات السينما عادة مشاهدها إلى التأمل والمقارنة والاندماج فى
عملية تتبع «صورة الإنسان» هنا وهناك، وهذا ما حدث فى مهرجان الإسكندرية
السينمائى الدولى الخامس والعشرين الذى انتهى أمس ليكون أول مهرجان سينمائى
فى مصر، والوحيد، الذى يقيم دورته هذا العام قبل حلول شهر رمضان وليس بعده
ليبتعد بذلك عن المنافسة بين كل المهرجانات العربية (وبينها القاهرة
والإسماعيلية) فى الفترة الباقية من العام الحالى.
قدم المهرجان هذا العام جرعة سينمائية قوية، ربما أكبر من طاقته وطاقة
جمهوره ومدعويه، فالكثير من الأفلام الجيدة، والرائعة افتقدت جمهورا يوازى
أهميتها برغم صلاحيته فكان العرض فى المجمع السينمائى القائم داخل المربع
التجارى جرين بلازا والذى كان يمتلئ عادة بجمهور ضخم جاء للتسوق والفرجة
والسينما ولكن الأزمة الاقتصادية العامة نالت منه، وعانت منها السينما
مثلها مثل المحلات التجارية حولها، لكن هذا أمر يتجاوز إرادة المهرجان الذى
تقيمه الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما التى تأسست منذ 36 عاما (1973)
وأهدى مجلس ادارتها الذى يرأسه الآن الأستاذ ممدوح الليثى دورة اليوبيل
الفضى إلى مؤسسها الصحفى والكاتب الراحل كمال الملاخ، بينما اعتبرت الناقدة
خيرية البشلاوى، رئيسة المهرجان لهذه الدورة، أن بلوغ المهرجان 25 عاما
يعنى اهتماما خاصا برامجيا مثل اختيار السينما الفلسطينية كضيف شرف هذا
العام بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية وهى لفتة رائعة، ربما
تتكرر فى مهرجانات أخرى لكن المهرجان هنا ابتكر وضع قائمة بأسماء 120 فيلما
عن فلسطين منذ النكبة وحتى الآن بدأها بفيلم (1948) التسجيلى الذى أخرجه
محمد بكرى الكاتب والمخرج والممثل الكبير عام 1998.
القائمة كانت تحتاج فقط إلى ترتيبها وفقا لسنة العرض لتصبح أكثر فائدة
لمحبى السينما كما كان من الأفضل الفصل فيها بين التسجيلى والروائى ولكن
هذا لا يقلل من أهميتها وأهمية الأفلام الأربعة التى عرضت فى البرنامج
الخاص تحت عنوان (فلسطين الوطن.. الحلم) وهما فيلمان لرشيد مشهراوى (حتى
إشعار آخر) و(حيفا) وفيلم هانى أبوأسعد (الجنة الآن) الذى فاز عام 2006
بجائزة الجولدن جلوب الأمريكية الشهيرة كأفضل فيلم أجنبى والفيلم الرابع هو
(ملح هذا البحر) للمخرجة آن مارى جاسر أحد اختيارات مهرجان كان فى العام
الماضى لأفضل الأفلام، وفى الندوة التى حضرتها المخرجة مع مشهراوى عن
السينما الفلسطينية قيلت معلومات وآراء مهمة للغاية عن تطور هذه السينما
وصناعها وعن «السينما» التى يحتاجها الزمن الحالى وامتد الحوار إلى ندوة
أخرى أقيمت لتكريم المخرج المصرى الكبير توفيق صالح وعرض قبلها فيلمه
(المخدوعون) أحد أهم الأفلام التى قدمت عن قضية فلسطين حتى الآن.
بابا عزيز.. رجل من زمن الأقوياء
وغير توفيق صالح، فقد جاءت «تكريمات» المهرجان هذا العام فى محلها،
خمسة من المصريين وعربى واحد هو فنان السينما التونسى ناصر خمير الذى عرض
له المهرجان ثلاثيته عن الحضارة العربية والإسلامية وعلاقتها بالصحراء
(الهائمون) و(طوق الحمامة المفقود) والثالث (بابا عزيز) وتضمن الكتاب الذى
أصدره عنه دراسات للنقاد سيد سعيد وصبحى شفيق وماجدة موريس أما المكرمون
المصريون فقد ألغيت ندوات بعضهم مثل الفنان حسن حسنى لسفره الفورى عائدا
لموقع تصوير عمل مع أن تاريخه الحافل وكتاب الناقد وليد يوسف عنه كانا
يستحقان ندوة وكذلك الأمر مع الفنانة مريم فخر الدين وكتاب الناقد الأمير
أباظة عنها وعنوانه (أميرة الرومانسية) لكنها رحلت سريعاً، بينما تحدث
الكاتب فيصل ندا فى ندوة تكريمه عن المناخ الفنى فى بدايات زمن الستينيات
وظهور الدراما التليفزيونية وأشار إلى المنوعات القائمة منذ هذا الزمن للآن
وكان كتاب الصحفى حسام فاروق عنه مؤكداً مسألة الزمن هذه (رجل من زمن
الأقوياء) بينما اختار الناقد أحمد يوسف اسم (البذور والحصاد) عنوانا
لكتابه عن توفيق صالح الذى طرح فيه الكثير من المعلومات المهمة فى سيرة
مخرج مثير للجدل منذ اللحظة الأولى التى أطل فيها على الشاشة بفيلمه (درب
المهابيل) عام 1955، وحتى الآن.. ومن أجمل اللقاءات فى إطار التكريم ما كان
بطله غريب أحمد لبيب، أحد كبار العاملين فى الإضاءة فى السينما المصرية،
والذى جاءت الندوة معه فى قصر الإبداع بالإسكندرية درسا ممتعا فى أهمية
فريق العاملين وراء الكاميرا والذين يعتمد عليهم الفيلم السينمائى إبداعيا،
غريب الشهير بفوزى بدأ عمله كفنى إضاءة عام 1962 وأوصلته قدراته الفنية
العالية لتدريب طلبة معهد السينما قبل أن يحترف بجانب عدد كبير من مديرى
التصوير ومع أكبر المخرجين ليصبح اسمه عنوانا على الجودة والاخلاص، وتكريمه
هو الثالث فبالنسبة للمهرجان الذى ابتدع هذا التقليد منذ عام 2007، كما
ابتدع هذا العام تقليداً جديداً هو تكريم الأجيال الجديدة من صناع السينما،
فى الفوكس، أى مجالات الاخراج والتمثيل وحيث أقيمت ندوة حول صناعة النجوم
فى السينما المصرية شارك فيها نجوم هذا التكريم المخرج عمرو سلامة والممثل
آسر ياسين بينما تخلفت الممثلة يسرا اللوزى.. وفى اعتقادى أن اختيار
المكرمين فى هذا البرنامج لاحقاً لابد أن يأتى من خلال استفتاء للنقاد
والعاملين فى صناعة السينما بمصر الذين يمكنهم فرز أفضل المواهب الصاعدة
ليأتى الاختيار معبرا عن مصداقية أكبر.
سينما الحرب والحب والانهيار
5 من بين 46 فيلما عرضها المهرجان فى كل برامجه عشرة أفلام من دول
البلقان لتكون هذه الدورة بحق هى دورة «البلقان» أى شبه الجزيرة التى تعرضت
لحروب طاحنة بين أجزائها بعد سقوط دولة يوغوسلافيا وتفككها إلى دويلات
صغيرة، وتبدو أصداء هذه الحرب واضحة بعد عقد ونصف العقد من انتهائها فى بعض
أفلام المسابقة الرسمية مثل فيلم (انظر لى) من جمهورية الجبل الأسود إخراج
ماريا بيروفيتش، وفيلم (كينوليكا) من كرواتيا للمخرج داليبور مانانيت أما
أكثر الأفلام قوة فى التعبير عن الصراع البلقانى السياسى الاجتماعى وآثاره
الحالية فهو فيلم (افطار الديك) الذى تشارك فى إنتاجه كل من سلوفينيا
وكرواتيا وأخرجه ماركو نايرشينك والذى يطرح صورة شاب يعمل ميكانيكيا فى
ورشة عجوز، لكل منهما حلمه، الأول يبحث عن المادة والحب والثانى لا يجد فى
واقعه أمرا حسنا فيلجأ إلى الماضى حين كانت الطبقة العاملة فوق الرءوس أيام
تيتو ومجد يوغوسلافيا القديم وحين كانت الدولة كبرى وموحدة، ويبدو التفاهم
بين الاثنين صعبا فى البداية لكنه يصل إلى نقطة وفاق حين يتركان المسائل
الكبرى جانبا، وينشغلان بالبحث عن المغامرات العاطفية.. وحتى هذه تصبح
كالسراب لدخولها فى عالم الصفقات.
الفيلم المصرى.. وتضميد جراح الماضى
جاء الفيلم المصرى المشارك فى المسابقة الدولية (لمح البصر) إخراج
يوسف هشام عن سيناريو لنبيل شعيب مثيرا لجدل الكثيرين ما بين درجات التشجيع
للأجيال الجديدة إلى الاحباط من نوعية الاتجاه نحو البحث عن الأكشن فى فيلم
كتب صناعه أنه مأخوذ عن قصة لنجيب محفوظ، وليدور من جديد التساؤل الخالد:
هل من الأفضل أن يختار المهرجان أفلامه بدون النظر إلى ضرورة وجود أفلام
مصرية فى المسابقة أم أن وجود فيلم مصرى ضرورة ملحة؟.. وهل هى ضرورة فنية
أم سياسية أم تجارية؟ وما يفرض هذا مجموعة من الأفلام الرائعة فى المسابقة
التى ضمت 12 فيلما وجمعت بين مخرجين مرموقين فنيا (وإن كانوا غير معروفين
جماهيريا) مثل الاسبانى فينتورا بونز مخرج فيلم (الغرباء) الذى يقدم دراما
كلاسيكية عن ثلاثة أجيال من أسرة واحدة يتقدم بها الزمن ولا تتعلم من
أخطائها أبداً، وكأنها قدر مكتوب عليها.
بونز حصل على 21 جائزة دولية من قبل، ومثله المخرج الفرنسى القدير
آرنو ديبليشان وفيلمه الجميل (حكاية عيدالميلاد) الذى يطرح صورة أسرة أرادت
أن تلملم شتاتها بالتجمع فى عيد الكريسماس فإذا بها تفتح جراحها وتتمزق
ربما إلى الأبد.
أما الفيلم الإيطالى (فوضى هادئة) للمخرج أنتونيللو جرومالدى فيطرح
أيضاً صورة الهوس بالبحث عن التقارب والصلات القديمة المفقودة بين الناس من
خلال أب فقد زوجته وبقى ابنه هو عالمه قبل أن يهجم عليه أقارب له كان قد
نسيهم.. من اللافت للنظر هنا أن فيلم الافتتاح التركى (تضميد جراح الماضى)
إخراج آرسين برنان جاء ضعيفا وأقل من المتوقع خاصة أنه يعيد مسرحية
دوريتمات (زيارة السيدة العجوز) التى قدمتها السينما من قبل مرارا،
وبمعالجة متواضعة فنيا، وربما قدم فى إطار وجود النجمة التركية الكبيرة
هوليا كوسينجيت كرئيسة للجنة تحكيم المسابقة الدولية، فلا يوجد فيلم تركى
آخر غيره فى كل برامج المهرجان.. ويمكننا اعتباره هنا ذنباً مغفوراً!
الأهالي المصرية في
13/08/2009 |