على الرغم من اندثار أفلام العصابات في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي
بعد مرحلة ذهبية قصيرة (1927-1934)-تناولناها الأسبوع الفائت- تزامنت مع
صعود الجريمة وإحكام العصابات سيطرتها على الشارع، ظل هذا الصنف السينمائي
أو لنقل تلك الحقبة من تاريخ المجتمع الأميركي قبلة السينمائيين.
وآخر"الزائرين السينمائيين" لمرحلة الانهيار الاقتصادي المخرج مايكل مان
بفيلمه
Public Enemies
"أعداء الحكومة" أو "أعداء الشعب" (الترجمتان صحيحتان وملائمتان لجوهر
الفيلم) المعروض حالياً في الصالات المحلية. على ان شريط مان المتقشف لجهة
الخوض في خلفيات تلك المرحلة السياسية والاجتماعية كان بمثابة المحرك خلف
هذا البحث في بدايات أفلام العصابات وتطورها.
إذاً وبعد فترة ازدهار قصيرة، ضُيق الخناق على ذلك الصنف السينمائي
بالتزامن مع تطويق ملهميه اي "العِصابيين" على أثر "الحرب على الجريمة"
التي أعلنها المكتب الفدرالي للتحقيقات (FBI)
وبتواطؤ الاستديوات السينمائية تحت الضغط. هكذا لم يعد ممكناً للسينمائيين
تناول موجة الجريمة أو رجالاتها في ضوء البطولة والتعاطف. بل ان رئيس
المكتب الفدرالي جاي إدغار هوفر اقترح مشروع انتاج أفلام عن مكتبه في
موازاة أفلام العصابات فكان أولها
G Men (1935)
لويليام كايلي مع جايمس كاغني- بطل عدد من أفلام العصابات في تلك المرحلة-
في دور رجل عصابات سابق، ينضم الى المكتب الفدرالي بعد مقتل احد أفراده على
يد عِصابي محترف.
في مديح الثلاثينات
بعد ربع قرن، دخلت السينما الأميركية "موجة جديدة" متأخرة عن نظيراتها في
فرنسا والمانيا وايطاليا، كانت صدمة فيتنام من أبرز دوافعها. ارتكزت تلك
الأفلام على البحث عن روح أميركية مسحوقة أو تائهة. هكذا ظهرت منذ منتصف
الستينات وطوال عقد أو أكثر أفلام طريق كثيرة أشهرها
Easy Rider
مع دينيس هوبر وجاين فوندا. الى تلك الافلام الهائمة على وجهها وأبطالها
التائهين من دون وجهة، برز تيار آخر من الأفلام التي عكست لحظة توق الأمة
الى ماضيها. تحولت النوستالجيا هاجساً وطنياً وأعيد تصوير الحقبات السابقة
من الخمسينات ورجوعاً على وقع نغمات سمفونية المديح والحنين. على ان
الثلاثينات كانت أكثر تلك المراحل تناولاً بمزيج من الإفتتان والهروب من
واقع مأزوم ومشتت، ولكن أيضاً بهاجس البحث عن "موديل" أميركي- أو تلك الروح
الأميركية كما ذكرنا سابقاً- أربكته حرب فييتنام ومفاعيلها. شكل
Bonnie and Clyde (1967)
بداية تلك العودة الى الثلاثينات وأكملت الموجة مع أفلام من طراز
Bloody Mama وSounder وpaper Moon
وThe
Sting وEmperor of the North Pole
وChinatown
وThieves
Like Us وBound for Glory
وغيرها أُنتجت بين 1970 و1976 ووقفت على نقيض مع أفلام مرحلة نيكسون/فيتنام
ذات الطبيعة المتوترة والمجابهة. على الرغم من التماس الذي حملته الأخيرة
مع واقعها وقتذاك، سقط العديد منها في النسيان بينما تشبثت أفلام العصابات
المنبعثة بالذاكرة ولاتزال الى يومنا هذا. فشريط مايكل مان الأخير
Public Enemies ليس الا استكمالاً لذلك الانبعاث بل هو انبعاث جديد سبقه اليه
سينمائيون من طينة مارتن سكورسيزي ووودي آلن والاخوين كوين ورون هاورد وسام
منديس وآخرين. تجتمع تلك الانبعاثات بمعظمها حول رؤية حلمية لحقبة الانهيار
الاقتصادي أكثر منها مأسوية كأنها ذكريات الطفولة تعود خلف علالة وردية
حالمة.
بخلاف أفلام العصابات في الثلاثينات التي قامت على تصوير واقع معيش وشخصيات
كانت نجوم الصحافة والشعب، اتسمت أفلام استعادة تلك المرحلة على مسافة أكثر
من ربع قرن بالمغالاة من أجل المتعة والربح في آن معاً. كان
Bonnie and
Clyde لآرثر بن صادماً للجمهور بكمية العنف والدم المراق (يوازيه في ذلك
Scarface
من المرحلة الاولى) وبجرأته على إثارة التعاطف مع قتلة مرضى النفوس. مهد
الشريط الطريق لتقليدات عديدة من بينها
Dillinger (1973)
لجون ملييس وSt. Valentines Day
Massacre (1967) لروجر كورمن. أخذ الفيلم الأخير على عاتقه توثيق الأزمة بين كابون
وموران، اثنين من أشهر رجال العصابات (آل كابون وباغز موران) في شيكاغو
الثلاثينات. استخدم كورمن البعد الاسطوري للحكاية والشخصيات تماماً كما
تناقلته الصحف في وقتها وكان في جزء كبير منه من تأليف جاي إدغار هوفر الذي
أراد إرهاب الناس من خطر العصابات وتالياُ منح حملته ضدهم الشرعية الكاملة.
على أن أحداً لم يشكُ ولن يشكو من تلك المبالغات التي جعلت شخصية مثل "ما
باركر" مثلاً أماً سيئة تدير أولادها في عصابة سرقة وخطف في شريط آخر
لكورمن هو
Bloody Mama (1970) بينما هي في الواقع لم تكن-بحسب الكتابات
الموثقة للمرحلة- أكثر من شخصية هامشية مقارنة بديلينجر أو بوني وكلايد.
كسر كورمن في رؤيته المتخيلة تلك صورة الأم بجرأة ولامبالاة متناولاً في
السياق تابوات اجتماعية (فكيف اذا اقترنت برمز الأم؟!) مثل سفاح القربى
والسادية والادمان والقتل. ولعل ما يحسب للفيلم حتى يومنا هذا هو البناء
المتماسك للشخصيات والأداءات المذهلة بدءاً بشيلي وينترز في دور الأم التي
تشق طريقها الى قمة المستنقع الاجتماعي الذي تحيا فيه ومروراً بديان فارسي
وروبرت دينيرو في ادواره الاولى ودون ستراود وآخرين.
إذا كانت تلك الأفلام بعيدة من التناول النقدي لحقبة الانهيار الاقتصادي أو
الأحرى بعيدة من الاشارة الى الأزمة، فإنها في المقابل كانت في جوهرها
مؤشراً الى واقع اقتصادي آخر معاصر. ليس صدفة اختيار الجنوب والغرب الأوسط
الاميركي مسرحاً لأفلام الستينات والسبعينات التي تناولت الازمة
الاقتصادية. فقد حُرمت تلك المناطق من التنمية التي أعقبت الحرب العالمية
الثانية بفعل الفقر والإهمال لتبقى على الحال التي عرفت به أيام كانت ملجأ
العِصابيين وأرض مواجهاتهم. وحتى يومنا هذا، هناك من يعتقد ان جولة في بعض
أحياء لويزيانا وأركنساس وفرجينيا الفقيرة سيكون بمثابة السفر في الزمن!
الباحثون
الافتتان بشخصية العِصابي لا يتوقف ولكن النظرة تختلف. فمن البطولية التي
وسمت رجال العصابات في الثلاثينات من القرن الماضي الى الرؤية الاجتماعية
التي صورتهم سماسرة يقتنصون الفجوات الاجتماعية التي خلفتها الحرب العالمية
الثانية وما بعدها، حملت الستينات والسبعينات رؤية مغايرة وضعت العِصابي في
خانة الـ "أنتي-هيرو"
antihero او البطل المضاد. مع آرثر بن في
Bonnie and Clyde اكتسب العصابي هالة البطل المضاد المعاصرة. كان
على المشاهد ان يضع جانباً أحكامه المسبقة أمام الرؤية الجديدة التي رأت
الى السلوك الاجتماعي لهؤلاء ردة فعل فردية تجاه عالم غير منصف والى
اضطرابهم العقلي مصيراً حتمياً تجره أوضاعهم الاجتماعية والمعيشية. كان
"الشواذ" الذي يمثله بوني وكلايد الى جرأتهما وازدرائهما للقيم السائدة
(الخلاص والتسامح) مصدر انجذاب الجمهور اليهما تماماً كما كان، اي
"الشواذ"- رمزياً وفعلياً- كبسة الزناد التي ترديهما في نهاية الفيلم.
لعل ذلك الافتتان بالاستقلالية والفردية على حساب القيم الاخلاقية والاعراف
الاجتماعية هو في صميم الثقافة الأميركية ان لم يكن بالفعل فعلى الأقل
بالمساندة والانجذاب الى مشاهدة اولئك "المتمردين" يقامرون في سبيل حرية
مطلقة. فهل كان العصابيون باحثين عن الروح الأميركية على طريقتهم الخاصة؟
لعل في تعريف الناقد روبرت وورشو للعِصابي إجابة ما على ذلك حين قال: "العصابي
هو الـ "لا" في وجه الـ"نعم" الأميركية العظيمة الموسومة على ثقافتنا
الرسمية التي لا علاقة لها بحقيقة شعورنا تجاه حيواتنا". سواء أكان
العِصابيون باحثين على طريقتهم عن أميركا بديلة أم كانوا ساعين الى أمة
متملصة على طريقة رجال
Easy Rider وجيل كامل معاصر من الهيبيين والمنكفئين وغيرهم، فإنهم يعبرون تماماً
أزمة الأميركيين في تلك المرحلة. بين أحلام العيش المستقر بعد الحرب
العالمية الثانية والواقع الافعواني الهائج الذي عرفوه مع فييتنام وبعدها،
كان من الطبيعي أن تبدو أميركا الثلاثينات، وعلى الرغم من انهيارها
الاقتصادي، حلمية جاذبة: مساحة شاسعة غير مستثمرة، أرض فرص وأحلام وخارجين
على القانون يحق لهم الحلم ببناء عالم جديد، رجال ونساء يجتازون الحدود
بحرية باحثين عن اجابات لأسئلة اساسية بعيداُ من هموم العيش المعاصر
ومستلزماته (القروض المالية، السيارات، المنازل الفخمة...)
لم يكن ذلك فقط ما أعادت أفلام العصابات في الستينات والسبعينات تقديمه بل
أسقطت عليه مفردات عصرها: الحرية والجنس. للمرة الأولى، شاهد الجمهور في
Bonnie and Clyde
اثنين من رموز عصابات الثلاثينات يمارسان الجنس في المساحات العامة
المفتوحة.
لا تكلف كل أمة نفسها عناء التساؤل المستمر عن معناها (ماذا تعني أميركا؟
أو ما هي الأميركية؟) ولكن أميركا تفعل ذلك بشكل مستمر ربما في معركة وجود
مستمرة ضد التعريفات والتصنيفات التي ما انفكت تحاصرها وتختزلها (بدءاً
بالغرب الأميركي ومروراً بامبراطورية الرأسمالية ووصولاً الى توصيفات
اليوم). في أميركا وحدها- كما تعلمنا السينما- يمكن البحث عن مجتمع مثالي
يبدأ من رحلة فردية على طريق مفتوحة. وفي أميركا فقط يمكن الحرية الخارجة
على القوانين أن تكون مكوناً عضوياً للمجتمع الصلب. سواء أكان الباحثون عن
حياة بديلة أبطال أفلام العصابات او كانوا دراجي الموجة الجديدة او
الهائمين أو المستجدين فإن الموت المحتّم الذي يقف لهم بالمرصاد على بكرة
الـ35 ملم الأخيرة ليس بالضرورة عقاباً على جرائمهم ولكنه- اي الموت-
المكان الذي تفضي اليه غواية التناقضات، على الأقل في عالم محكوم بالانصياع
للأعراف السائدة.
المستقبل اللبنانية في
14/08/2009 |