لم يكن خيار مايكل مان إنجاز فيلم مثل
Public Enemies
مفاجئاً بالنسبة الى متابعي مسيرته وأعماله. بل لعله، اي الخيار، بدا
متأخراً بعض الشيء بالنسبة الى سينمائي أسهم الى حد بعيد في منح "أفلام
الجريمة" شكلها المعاصر. ونقول "متأخر" لأن مان، بعيداً من شغفه بتلك
الأفلام، هو ابن تلك الحقبة التي يتناولها في فيلمه الجديد ليس زمنياً
وانما مكانياً واجتماعياً. ذلك انه مولود في شيكاغو، مهد ولادة موجة
الجريمة في الثلاثينات، ومنتمٍ الى عائلة أوكرانية يهودية مهاجرة.
والمهاجرون وقتذاك كانوا نجوم العصابات الأوائل نظراً الى أوضاعهم
الاجتماعية وتورطهم في التجارات الممنوعة. ولد مايكل مان في العام 1943 اي
بعد نحو عقد من طي صفحة الجريمة وأفلامها. ولكنه في المقابل اكتشف عشقه
للسينما مع بدايات الموجة الجديدة في السينما الأميركية مستعيداً في حوار
قريب مع أل.آي ويكلي تلك اللحظة التي اكتشف فيها سحر السينما أثناء مشاهدته
فيلم ستانلي كيوبريك
Dr. Strangelove (1964):
"هذا الفيلم توجه الى جيلي من السينمائيين قائلاً انه يمكننا تسجيل موقف
فردي على مستوى عالٍ من الأمانة، وفي الوقت عينه حمل جمهوراً عريضاً على
مشاهدة أفلامنا. بمعنى آخر، لم يكن علينا ان نصنع
Seven Brides for
Seven Brothers
لندخل سينما الماينستريم، ولا أن نتوجه الى جمهور محدد اذا أردنا ان نكون
جادين في تعاطينا مع السينما. هذا ما عناه كيوبريك، فضلاً عن أن
Strangelove كان بمثابة الإلهام."
هكذا مضى الشاب الى دراسة السينما في لندن، وعمل هناك بعيد تخرجه على
مجموعة من الاعلانات والافلام التلفزيونية قبل ان يقرر العودة الى الولايات
المتحدة الأميركية العام 1971. بعد فترة عمل في التلفزيون وانجاز أفلام
وثائقية، قدم فيلمه الاول
Thief عام 1981. ولكن شهرته الفعلية انطلقت مع
Manhunter (1986) الاقتباس السينمائي الاول لشخصية توماس هاريس "هانيبل لكتر"
في كتابه "التنين الأحمر" مع براين كوكس. صحيح ان شهرة لكتر اليوم ترتبط
بشكل شبه حصري بأنتوني هوبكنز، الا ان التشخيص الذي قدمه مان في فيلمه كان
أقرب الى الحياة. في أوائل التسعينات، قدم المخرج
The Last of the Mohicans الذي تميز بمشاهد الحركة والمعارك الكثيرة. ولكنه
مع
Heat (1995)
عرف ذروة النجاح النقدي والجماهيري. ومع تاليه
The Insider (1999) ملأ على الفور مكانة شاغرة في مجال الأفلام التي
تجمع بين الحبكة المتداخلة والذكية والمعقدة، وبين الادارة اللافتة
للممثلين وبين الاسلوب السينمائي المتميز الذي يبدأ بالخيارات الموسيقية
غير التقليدية ولا ينتهي بالصورة الغنية وتوظيف المشهدات الطبيعية والتركيز
على الالوان الباردة. فيلمه التالي
Ali (2001) كان أصيلاً لجهة ارتكازه بالكامل على الشخصية، كما كان
تجريبياً بالمعنى الحقيقي للكلمة حيث لجأ المخرج الى التقنية الرقمية للمرة
الاولى التي سوف يتسع هامشها في
Collateral (2004) وMiami Vice (2006)
وكلاهما من نوع أفلام الجريمة.
المعروف عن مايكل مان انه يستغرق وقتاً أطول من أقرانه في الاستعداد لفيلم
جديد بسبب هوسه بالتفاصيل وبالحرفة والابتكار. هكذا جاء
Public Enemies
بعد غياب خمس سنوات. لم يكن موضوعه مفاجئاً ولكن رؤيته المتقشفة تخلف
شعوراً بالكبت لدى المشاهد. يلعب مايكل مان هنا في ملعبه الخاص جداً.
الفيلم أشبه بسيرة ذاتية للمكان الذي شب فيه و"غرق" حتى الثمالة في موضوعه
الأثير: الجريمة والعصابات. فلماذا يحرمنا العوص على التفاصيل والخلفيات
السياسية والاجتماعية لشخصيات الفيلم وأحداثه؟ ليست هنالك من إجابة مقنعة
سوى ان مايكل مان أدرك سلفاً ان ساعتين على الشاشة لا تكفي في كافة الأحوال
للدخول في دهاليز الحقبة التاريخية بينما هي أكثر من كافية لاستعراض
مهاراته الاخراجية والتوليفية والتصويرية (مع شريكه المفضل مدير التصوير
دانتي سبينوتي) والتجريبية عن طريق منح الكاميرا الرقمية مكانة أرفع. كأن
المخرج يتوقع من مشاهدي فيلمه أن يكونوا على معرفة بذلك التاريخ الذي يعيد
خلقه وبأسطورة شيكاغو الثلاثينات. ومن لا يعرف، يمكنه قراءة مقابلاته التي
يطيل فيها في شرح الخلفيات النفسية والاجتماعية لأبطال فيلمه. أما على
الشاشة، فيختزل كل ذلك بجملة حوارية او لقطة أو مشهد. فها هو يمنح جوني ديب
في شخصية "ديلينجر" أقل من دقيقة ليوجز لصديقته طفولته. ويطلب منه "بصق"
جملته "أنا منشغل بالحاضر. لا وقت لدي للتفكير في المستقبل" بلامبالاة مع
انها تختزل حال جيل كامل كان يحيا اللحظة الراهنة خارج الازمة الاقتصادية
ولا يملك الوقت للتأمل في الآتي. قد لا يتذكر المشاهد جملاً حوارية كثيرة
بين البطل وعدوه (ديلينجر وبورفيس اي ديب وكريستيان بايل) كما يفعل مع
روبرت دينيرو وآل باتشينو في
Heat.
ولكن تكفي مواجهتهما بين قضبان السجن حين يقلب ديلينجر محادثتهما من أقصى
الفلسفة (تلك النظرة الاخيرة للموت تصيبك بالأرق الى الأبد) الى أقصى
السخرية ("القهوة هي ما تبقيني ساهراً" يرد ديلينجر على سؤال غريمه "ما
الذي يؤرقك؟"). في مشهدين آخرين ( أحدهما يصور ديلينجر داخل مكتب الحظر
والثاني لدى إلقاء القبض على صديقته) يكتفي مان بما يحملانه من معانٍ.
الاول يبين ذكاء ديلينجر الفطري في استغلال ضعف عدوه (الحكومة) والثاني
يعيد الى الأذهان اسلوب مان في
Manhunter
وHeat في إرسال إشارات الى المتفرج تهيئه لحدوث شيء من خلال بروز اللون
الأزرق في الصورة. مشاهد القتال والمطاردات متعة حقيقية بتناقضها بين
الداخل المضاء (مشاهد سرقات المصارف الرخامية) والخارج المعتم. ولكنها
الدقائق الأخيرة من الفيلم هي التي تشهد أكثر من غيرها على براعة مايكل مان.
أي مخرج آخر سواه يستطيع خلق كل ذلك التوتر لدى المشاهد والبطل تجاه أمر،
كلاهما يعرفان انه واقع لا محال، ديلينجر الخارج لتوه من صالة السينما بعد
لعبة مرايا متعددة الابعاد بينه وبين كلارك غايبل في فيلم
Manhattan Melodrama، يجتاز المسافة بين مدخل الصالة وآخر الرصيف كأنه متأكد من اقتراب
لحظته. وكذلك المشاهد المتقدم بمعرفته للتفاصيل على البطل. ولكن الأخير
ينتظر الـ "كيف" هنا وليس الـ "ماذا" سيحدث. هكذا يسقط ديلينجر في المشهد
الأخير شهيداً للسينما التي أحب والتمرد الذي آخى والذكاء الذي امتلك. تلك
هي صورة ديلينجر الاخيرة في ذهن مشاهد فيلم مايكل مان الذي يقول من خلال كل
ذلك انه غير معني بتشريح أسباب اسطورة مثل ديلينجر. ففيلمه هو استعادة
لاستعادات وتحديث بصري للتاريخ، ولكنه فوق كل ذلك متجذر في الحاضر أكثر
بكثير من أفلام آنية. انه فيلم عن السينما وأميركا المعاصرة بعين ترى الى
الماضي بكثير من التسامح ومتعة الاستيلاب للحظة.
المستقبل اللبنانية في
14/08/2009
موسم سينمائي مزدحم في نادي "لكل الناس"
يستكمل نادي "لكل الناس" نشاطه السينمائي الذي بدأ بالتبلور أكثر فأكثر
خلال السنوات الثلاث الأخيرة من خلال توزعه على ثلاثة ميادين اساسية: عروض
متفرقة لأفلام جديدة أو استعادة أفلام قديمة، مهرجان الطلاب السنوي وتكريم
سينمائي لبناني من خلال جمع أعماله واصدارها على "دي.في.دي". وعلى الرغم من
ان الخطوة الأخيرة التي أطلقها النادي في العام 2006 بأفلام برهان علوية
مازالت يتيمة، إلا أن التحضيرات جارية مذذاك على جمع إرث المخرج اللبناني
الراحل مارون بغدادي في خطوة ستكتمل في غضون ستة أشهر.
خلال الأيام المقبلة، سيحيي النادي سلسلة نشاطات سينمائية متصلة بمشروعه
تبدأ مساء اليوم بإطلاق "دي.في.دي" المخرج هادي زكاك "لاجئون مدى الحياة"
وتوقيعه في فيرجين ميغاستورز. الفيلم من انتاج شركو
O3
للإنتاج وقد عُرض على شاشة قناة العربية عام 2006 كما شارك في عدد من
المهرجانات. يتناول الفيلم الوثائقي ثلاث عائلات فلسطينية لاجئة في لبنان
في حيواتهم اليومية ومشكلاته راصداً أحلامهم ومحاولاتهم التواصل مع
أقربائهم في ألمانيا من خلال شخصية ناشط في مجال حقوق الانسان. فيلم آخر
لزكاك هو "الحرب والسلام" سيكون محور أمسية "جمعية البيت الريفي" في بلدة
كفرفاقود الجمعة الحادي والعشرين من الجاري.
وللعام الثاني على التوالي، يدور النادي بأفلام الطلاب الفائزة في مهرجانه
على بعض المناطق اللبنانية. المحطة الاولى ستكون في النبطية يوم غد السبت
حيث ستعرض في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي ثلاثة أفلام طالبية هي: "رسالة
الى أختي" لسليم مراد و"لبنات" لنرمين حداد و"نعيماً" لسليم صدقة بحضور
المخرجين الشباب.
وفي إطار رعايته الافلام الجديدة المستقلة، سيقدم النادي مساء الاحد السادس
عشر من الجاري في مسرح دوار الشمس العرض الأول للفيلم الوثائقي "كوبوي
بيروت" لداليا فتح الله في ما يُتوقع ان يكون فيلماً يجمع بين الشخصي حيث
بطل فيلمها والدها والعام اذ يتناول الشريط علاقة الاجيال المتعاقبة بفكرة
أميركا ورموزها. الجدير ذكره ان فتح الله قدمت في العام 2003 باكورة
أفلامها الوثائقية "مبروك التحرير" والشريط الحالي هو فيلمها الثاني.
على صعيد آخر، يشارك "لكل الناس" في الافتتاح المنتظر لمسرح بيروت المقفل
منذ سنوات طويلة في أواخر شهر آب الجاري حيث سيدشن المسرح عروضه السينمائية
بفيلم برهان علوية الروائي الأخير "خلص" بالتزامن مع إطلاقه على "دي.في.دي".
المستقبل اللبنانية في
14/08/2009 |