تهريج وتسطيح
واستسهال.. وعلاقات باهتة بين شخصيات متوترة
نديم جرجورة
في الصالة الرئيسة التي
تضمّ المكاتب الأساسية لفريق العمل، عُلِّقت لافتة كبيرة حملت اسم الفريق/
المسلسلوعبارة أصغر حجماً وأكبر دلالة: «الأكثر طلباً». فالفريق مهتمّ
بحلّ الجرائم
المختلفة التي تقع داخل قطاع البحرية الأميركية، وهذا يعني ترجمة حرفية
لعنوان
المسلسل واسم الفريق: «قسم التحقيقات الجنائية في البحرية»
NCIS كما أنه يؤشّر إلى
فريق آخر سبقه بثلاثة أعوام فقط: «مسرح التحقيقات الجرمية»
CSI مع أن رئيس الفريق
ليروي جيثرو غيبس (مارك هارمون) ردّ بسخرية مريرة تنمّ عن كراهية مبطّنة
على سؤال
عضو جديد عمّا إذا ارتبط اسم الفريق بالمسلسل الآخر: «فقط إذا كان لديك عسر
القراءةوالفهم». هذا ما جعل منتجي العمل الذي ابتكره وأداره وأشرف على
إنجاز حلقاته دونالد
بي. بيلّيزاريو يضيفون حرفاً على الحروف الثلاثة التي اختصرت اسم الفريق،
لعدم وقوع
المُشاهد الأميركي في فخّ التشابه مع المسلسل الآخر الذي ابتكره أنتوني
زويكر.
لن تكون المقارنة بين «قسم التحقيقات الجنائية في البحرية» والنسخ الثلاثالخاصّة بـ«مسرح التحقيقات الجرمية» لمصلحة الأول. فالجدّية
الدرامية الخاصة
بـ«مسرح التحقيقات الجرمية» واضحة في النسخ الثلاث التي تدور أحداثها في
لاس فيغاس
وميامي ونيويورك، والعلاقات الإنسانية متينة، والأسئلة الوجودية والفكرية
والحياتية
منضوية في السياق الدرامي بشكل سليم، لا يسيء إلى النسق الأساسي للحبكة.
بينما لا
يتمتّع فريق ليروي جيثرو غيبس بصفات جمالية ودرامية مسبوكة في حرفية فنية
وإنسانيةمتينة، ولا يُقدّم جديداً يُذكر في سلسلة حلقاته المنجزة في
ستة مواسم لغاية الآن.
وهذا كلّه لا يتوافق مع تعريف خاصّ بالمسلسل، ذَكر
أن فريقه مهتم بتحقيقات خاصّة
«احتلّت
مكاناً بارزاً ومهمّاً في لعبة السلطة، التي انخرطت فيها أجهزة مختلفة
ومنظّمات عسكرية وحكومية، في الصراع ضد الإرهاب». فـ«النزول إلى الشارع» لا
يعني،
دائماً، براعة في تنفيذ تقنيات المطارَدة والبحث عن المطلوبين للعدالة.
والبقاءداخل المكاتب والمختبر وغرفة التشريح لا تصنع، غالباً، عالماً
من المفاجآت
والتحدّيات البصرية. أما الصراع ضد الإرهاب فمادة استُهلكت كثيراً في أعمال
تلفزيونية أخرى، علماً أن أبرز هذه الأعمال يبقى «24»، المبني أساساً على
يوميات
«وحدة
مكافحة الإرهاب» ومطارداتها المشوّقة التي تشدّ أعصاب المشاهدين وتدخلهم في
أجواء اللعبة الجهنمية التي يقودها إرهابيون إسلاميون وروسيون وشرقيون
مختلفون ضدالولايات المتحدّة الأميركية. ولعبة السلطة تلك باهتة في مسلسل
مختصّ بإجراء
تحقيقات جنائية داخل أحد أبرز المؤسّسات العسكرية الأميركية.
استقالة
بيلّيزاريو
قبل ولادة «قسم التحقيقات الجنائية في البحرية» عام 2003، انهمكبيلّيزاريو في إنتاج حلقات المسلسل الشهير «جاغ» JAG
الذي جمع القضاء العسكري
بالبحرية الأميركية، باحثاً في دعاوى قضائية مرتبطة بالجنود. وفي الحلقتين
العشرين
والواحدة والعشرين من الموسم الثامن، ظهرت شخصيات عدّة اختارها الرجل، الذي
ابتكرمسلسلات تلفزيونية ناجحة («ماغنوم» و«شيفرة كوانتوم» وغيرهما)،
لتُشكّل بنية عمل
جديد تدور أحداثه في البحرية الأميركية أيضاً، هوسه الدائم وعالمه الدرامي
والإنساني المفضّل، فكانت حلقات «قسم التحقيقات الجنائية في البحرية»،
وفريقهاالمدني المكلّف بإجراء تحقيقات حول جرائم قتل أو حالات وفيات
غامضة ومتعلّقة كلّها
بجنود البحرية الأميركية، مهما كانت رُتب هؤلاء ومراكزهم العسكرية. تألّف
الفريق من
غيبس رئيساً وأنتوني دينوزيو (مايكل ويثرلي) وزيفا ديفيد (كوت دو بابلو)
وتيموتيماك جي (شون موراي) أعضاء في الفريق الميداني، بالإضافة إلى
آبي سكويتو (بولاي
بيريت) في المختبر، والطبيب دونالد مالاّرد (ديفيد ماك كالوم) المختصّ
بالتشريح. هناك أيضاً المديرة العامة للقسم جيني
شيبرد (لورين هولي).
غير أن دونالد بي. بيلّيزاريو، الذي رافق هذا المسلسل منذ
ابتكاره قبل ستة أعوام، لم يعد مسؤولاً عنهإثر خلاف في الرؤية وقع بينه وبين مارك هارمون، أدّى إلى
تنحّيه عن المناصب
المتعلّقة بهذا العمل، فإذا بصديقين اثنين له رافقاه طويلاً يتولّيان مهمة
الإشراف
العام: شاس فلويد جونسون (عمل معه على مدى ربع قرن) ورئيسة قسم كتّاب
السيناريوهاتشاين برينان. مع هذا، لم تتبدّل أمور كثيرة، لأن البنية
الدرامية مستمرّة في خلق
أحداث متشابهة إلى حدّ ما، وفي إيجاد مسوّغات متفرّقة لإكمال مسار إنتاجي
قيل إن
موسمه الأول عرف نجاحاً جماهيرياً كبيراً عند بثّه على شاشة «سي. بي. أس.»،
دفع إلىإنتاج موسم ثان. والركيزة الوحيدة له، كما جاء في تعليق نقدي،
كامنةٌ في «تشكيله
خليطاً عجيباً من البُعد العلمي التقني والعلاقات القائمة بين شخصياته».
ولعلّ
المأزق البصري ناتجٌ من صلب هذه العلاقات نفسها، ومن طريقة التمثيل
والحركاتالمستخدَمة في مواكبة التفاصيل المختلفة، ومن المناخ السائد
الذي بدا قريباً من
الصورة الكاريكاتوريّة التي يُراد لها أن تكون مضحكة، فإذا بها عالقة في
المسافة
الوسطى بين الكوميديا والتهريج. ذلك أن العلاقات القائمة بين الشخصيات لا
تنمّ عنمساحة إنسانية مرتبطة بصداقة جدّية أو عشق حقيقي أو دوافع
مهنية بحتة وسليمة، بقدر
ما ظلّت مسطّحة وملتبسة الشكل والمضمون، أو مفرّغة من أي عمق درامي جدّي.
وطريقة
الأداء تؤشّر إلى خفّة واستسهال، خصوصاً عند الاستعانة بحركات يُفضّل أن
تكونمضحكة، لا أن تقع في فخّ الغباء و«الولدنة». والسياق الخاصّ
بالتحقيقات نفسها
معبّأٌ بكَمّ لا بأس به من التفاصيل الجانبية التي لا «تُغني ولا تُسمن»،
كأنها
مُضافة على السياق لملأ فراغ درامي وبصري. والشخصيات نفسها فقدت حيويتها
الإنسانيةوالدرامية معاً، وعاشت توتراً لا علاقة له إطلاقاً بالتوتر
النفسي والروحي النابع
من مأزق أو صدمة أو خيبة أو واقع مهنيّ، لأنه توتر ناتجٌ من خلل في رسم هذه
الشخصيات وطرحها في السياق الدرامي.
السفير اللبنانية في
14/08/2009
كلاكيت
ازدواج
نديم جرجوره
شكا مخرجون وثائقيون
عديدون من مواطنين عاديين اختيروا للمثول أمام كاميراتهم، بسبب مواجهتهم
مأزقالثنائية المتناقضة التي يسلكونها، والتي تؤدّي إلى إضعاف
الصنيع السينمائي، إذا لم
يتغلّب الأوّلون على هذه المعضلة بالحيلة الإبداعية، القادرة وحدها على
توريط «الشخصية السينمائية الوثائقية» في سرد
«حقائق» متعلّقة بمسألة أو شعور أو تصرّفأو
واقع، يسعى المخرج إليها في فيلمه.
تتمثّل هذه الثنائية المتناقضة بإفصاح
المواطن المختار عن مشاعره ووعيه والمعطيات المتوافرة لديه خارج الكاميرا
وعدستها. لكن هذا الافصاح يسقط سريعاً في التشذيب
والتحوير والممانعة والتصنّع وابتكار أشكالمختلفة ومغايرة للمطلوب بسبب رفض المواطن نفسه البوح أمام آلة
التصوير. وعلى الرغم
من هيامه بالظهور الإعلامي (هناك قلّة تُدرك الفرق الشاسع بين الإعلام
المرئي
والسينما الوثائقية الجادّة)، إلاّ أن الوقوف أمام الكاميرا يُشعره برغبة
جارفة في
التحكّم بزمام الأمور كلّها، وفقاً لمزاجه الخاصّ. والثنائية تلك تصيب
الصنيع الفني
بمقتل، لأنها تجعل المخرج حائراً: فهو بَلَغ مقصده بعد تفتيش دقيق وتساؤلات
عدّة
وأرشفة ضرورية (أقصد بهذا المخرجَ المحترفَ والواثق بنفسه وموضوعه وثقافته
ورؤيتهومُراده، والمنسجم وطموحاته ومبادئه)، وعثر على من يستطيع
مساعدته في كشف مسألة أو
إعادة صوغ مشهد أو سرد حكاية. لكن، يكاد كل شيء يضيع في مهبّ رياح «الكذب»
التي
تهبّ عليه عند بدء التصوير، لأن السيّد المواطن لبس شخصية ثانية مغايرة
تماماًلشخصيته «الحقيقية»، خوفاً أو هيبة أو نزوعاً إلى سلوك حياتي
اعتاد لبنانيون كثيرون
ممارسته في يومياتهم: ازدواجية العيش في التناقضات، في بلد مشلّع أمام
أنواع شتّى
من الادّعاء والتكاذب.
لا تتعلّق المسألة بالكاميرا الوثائقية فقط، لأنها
انعكاس واضح لطبيعة النفس البشرية اللبنانية المتأصّلة في أعماق الغالبية
الساحقة
من اللبنانيين. إذ تكفي جولة ميدانية لكشف واقع ميؤوس من تغييره: فالناس في
الأمكنةالخاصّة بهم يطلقون العنان لأنين قهرهم وخيباتهم وآلامهم
ومشاعر الإذلال التي
يعانون وطأتها؛ لكنهم لا يتجرّأون على الانقلاب على واقعهم رفضاً
لمراراتهم، لأنهم
منكمشون في قبائلهم الضيّقة وأزقّتهم المحلية، وقانعون بما يُقدّمه لهم
الزعيم من
خيرات لا تتجاوز كلاماً معسولاً عن أولوية المذهب والطائفة والعائلة، أو عن
ضرورةالالتفاف حوله لأن مسؤولياته تحتّم عليه الاهتمام بأمور أخرى،
تحتلّ القضايا
المعيشية والحقوق الإنسانية المرتبة الأخيرة فيها، ولأن اللحظة الراهنة غير
مناسبة
لتحسين شروط الحياة اليومية. وهم منزعجون ومتضايقون، لأن اللقمة لا تأتي
بسهولة،ومع هذا يصمتون ويخنعون ويمشون منسحقين وراء زعيم لا يأبه بهم
ولا يكترث بفقرهم
المذلّ.
غالب الظنّ أن هذا كلّه ناتجٌ من تمتّع الأكثرية الساحقة من اللبنانيينبجينات غريبة، باتت المكوّن الطبيعي لعلاقاتهم الملتبسة
بأنفسهم وأنماط عيشهم
وسلوكهم. ومع هذا، لا يتردّد مخرجون وثائقيون عن البحث عن حقائق عند أناس
مصابين
بلوثة الادّعاء و«الشطارة»! أي مهزلة.