إنّه من جيل القطيعة في الأدب المصري. هجر السينما والفلسفة، واستقرّ في
أحضان الكتابة التي يعدّها فعلاً نخبويّاً بامتياز. «على أطراف الأصابع»
يجمع، بأسلوب اليوميات، بين الأدب والتأملات، فيه يفتح النار على كتّاب
بارزين، ويعلن تبدّل ذائقته الأدبيّة
ثلاث سنوات قضاها في دراسة الفلسفة قبل أن يدخل معهد السينما لدراسة
السيناريو. لم يحبّ مصطفى ذكري تدريس الفلسفة في الجامعة، فالأسماء المهمة
ممنوعة: نيتشه مثلاً عدّوه «هجيناً بين الفلسفة والأدب ولا يستحق أن
يُدرَّس». لم يستفد صاحب «مرآة 202» من دراسة الفلسفة. مع ذلك، هي أكثر
اهتماماته حالياً، بينما توقّف عن السينما منذ فيلمه الثاني «جنة الشياطين»
(1999).
كتابه الأخير «على أطراف الأصابع: يوميات» (دار العين للنشر) شذرات تجمع
بين الأدب والفلسفة وتأملات حول السينما وأشخاص عرفهم أو اقترب منهم.
الكتاب خليط من النقد والرؤى السياسية، يقترب أحياناً من السخرية. شذرات
تُشبه ما قام به فالتر بنيامين في كتابه «شارع ذو اتجاه واحد» أو بيسوا في
«اللاطمأنينة».
اختار صاحب «الخوف يأكل الروح» شكل اليوميات نكاية بالشكل الأدبي المستقرّ.
أراد أن «يلعب» بالمفهوم الفنّي للّعب، كتابةً متحررة من الشكل، وخصوصاً أن
جيله «يسعى للرواية كشكل وحيد ممكن للنجاح، يفتح أبواب الجوائز والشهرة».
«على أطراف الأصابع»، عنوان اليوميات يوحي كأنّه يتسلل خلسة إلى هذا الشكل
الأدبي. «كنت أريد عنواناً مجازياً لا يعكس ما في داخل الكتاب، أو حتى
يناقضه. عنوان ينفتح على تأويلات متعددة، مثلما اختار بول بولز «من دون
توقف» عنواناً لمذكراته».
السخرية من شخصيات واقعية، والاقتراب من العوالم السياسية، أمور جديدة على
صاحب «هراء متاهة قوطية». ولهذا اختار شكل اليوميات. يضحك: «أثناء كتابة
الرواية، أمارس نوعاً من الحجر الفنيّ، بحيث لا يدخله أي تلوّث سياسي أو
اجتماعي». لكنّ «اليوميات» أتاحت إضافة أشياء «مفارقة لعالمي»، ووفّرت حرية
أكبر للاقتراب من موضوعات سياسية واجتماعية. هل «اليوميات» بداية لمغادرة
مفاهيمه عن الحجر الفني؟ يضحك: «ربما. لكنّ الرواية مقدّسة لي. النماذج
التي أحبّها في الأدب هي روايات حجر فني». الأمثلة التي يؤكد بها وجهة نظره
كثيرة، أهمها «القلعة» لكافكا، التي لا تجد فيها أي صلة بالواقع إلا مع
التأويل الشديد. ويضيف: «حتى التفسيرات الماركسية لكافكا لم تكن سوى
تفسيرات واهية. تعبانة»!
أكتب لمتعتي الشخصية... ولا أشعر أنّ ذلك ينتقص من أهميّة عملي (م. ذ.)
الياباني كاواباتا نموذج آخر، يلجأ إليه لتأكيد وجهة نظره: «رغم توافر
إشارات إلى قسوة الحرب العالمية في أعماله، إلا أنّها خلفيات لا تُذكر».
ويضيف: «الكتابة مثل المعدن. هناك معادن ثمينة بطبعها مثل الذهب، لكنّ
السياسة في العمل الأدبي مثل الرصاص، تحتاج إلى مجهود كي تحوّلها إلى فن،
وغالباً لا يمكن تحويلها».
في اليوميات، يقترب ذكري من تقنيات كان يرى أن استخدامها في العمل الأدبي
الخالص مثل «الرواية» يضرّ بها. يقترب من السياسة، ويسخر من كتابات علاء
الأسواني وإدوار الخرّاط. صاحب «عمارة يعقوبيان» سحبَ بعمله «الرواية
العربية من أدبيّتها ووضعَها على أرض الواقع الغليظ والمباشر»... لتصبح
«تقريراً صريحاً عن اللحظة الراهنة». أما ثلاثية الخرّاط «رامة والتنين»،
فيراها مثالاً «للضعف الفني»، إذ «لم يكن الخراط على درجة من الجرأة الفنية
لجعل بطله وسيماً أو قبيحاً، خوفاً من المقارنة الواقعية. وهذا الخوف يقع
فيه أديب متوسّط القيمة».
قد يكون رأي ذكري أن الأسواني له ما يبرره، إذ يقف كلاهما على ضفة من
مفاهيم الأدب والفنّ، إلا أنّ حديثه عن الخراط كان صادماً. الخراط كان
راعياً لمفاهيم الحساسية الجديدة، وكان ذكري أحد النماذج التي تبنّاها، بل
كان يعدّ نفسه تلميذاً نجيباً له. الكتابة الصادمة عن الخرّاط في هذه
اللحظة يراها ذكري «تصفية حساب» مع ذوقه السابق وتأكيد منه ألا «مسطرة»
جاهزة للأدب. قناعاته الجمالية تهتز بين الحين والآخر، وهو لا يخجل بذلك.
هل تغيُّر الذائقة دليل على اتساع الثقافة أو النضج؟ يجيب: «أنا على قلق
دائم وتملّص من الأشياء التي أنتمي إليها. أكون دائماً على هامش ما أنتمي
إليه. ويمكنني أن أتنكّر له عند أول منعطف». ويعترف صاحب «الرسائل»: «عندما
تهتزّ قناعاتي، أتركها، بل أفضحها بشكل مبالغ فيه».
القناعة الوحيدة التي يتمسّك بها ذكري هي أنّ «الكتابة فعل نخبوي، موجّه
إلى قارئ محترف، بل من كاتب إلى كاتب آخر». هل هو ضد فكرة الجمهور؟ يجيب:
«العمل الفنّي بطبيعته ضد الجمهور. لا يوجد عمل جيد يتذوّق على مستويات
كبيرة من الناس، وهذا أمر يؤكده تاريخ الأدب. كل الأعمال العظيمة يقرأها
قارئ محترف أو نصف كاتب».
لكن ألا يمكن أن تتغيّر هذه القناعة في إطار «تحولاته الفنية»؟ يجيب: «لا،
كتاباتي تزداد عدوانية. هي ضد القارئ الذي يتعامل معها بسطحية. حتى في
«اليوميات»، أكتب عن أفلام نخبوية، إذ يصعب على كثيرين تذوّق برغمان أو
تاركوفسكي». لمن يكتب إذاً؟ «أكتب لمتعتي الشخصية. أدرك أنّ لي قارئين فقط،
ولا أشعر أنّ ذلك ينتقص من أهميّة عملي». ربما يرى بعضهم في ما يقول نوعاً
من الدوغما؟ يجيب: «الدوغما هنا شيء إيجابي. أنا دوغما في ما يتعلق
بالكتابة. أفضّل تعقيدات اللغة. أقف ضد العامية المحكية. هي لهجة وليست
لغة. وربما هذا هو الشيء الوحيد الذي أتفق فيه مع نجيب محفوظ»!
الأخبار اللبنانية في
18/08/2009
غسان مطر مخترقاً أسرار الموت
حسين بن
حمزة
في مجموعته الجديدة «للموت سرٌّ آخر» (الريّس)، وهي الثالثة عشرة له،
يدعونا غسان مطر إلى قراءة شعرٍ موزون وموقَّع. لم يعد هذا النوع يُكتب
بكثرة. الأجيال الجديدة تتدافع زرافات ووحداناً إلى قصيدة النثر، بل إلى
نوع شبه موحَّد منها، ذاك الذي تُستثمر فيه السير الشخصية العادية وتفاصيل
الحياة اليومية. قصيدة التفعيلة اليوم أشبه بكائن مهدَّد بالانقراض، إضافةً
إلى أنّها تُعامل بازدراء يصل إلى حدود الإرهاب أحياناً. لا يمكن وضع الحق
كلّه على ازدهار النثر. جزء من مشكلة التفعيلة موجود فيها طبعاً. إنَّها
ملاحظة سريعة تتناهى إلينا ونحن نقرأ شعراً يقترح علينا الانعطاف وسلوك
طريق جانبي أثناء سيرنا الروتيني في الأوتوستراد العريض للنثر. ننعطف
فنحسُّ بأننا لم نغادر النثر فقط، بل غادرنا الواقع الذي يتغذى منه أيضاً.
قصائد تحدث في المعاجم واللغة والتخييل البلاغي
القصد أن معظم قصائد غسان مطر تحدث في المعاجم واللغة والتخييل البلاغي. من
النادر أن نجد واحدة من مفردات الحياة الحديثة في أعماله. وإذا وجدناها
فلأنّها مستخدمة في السياق العام لقصيدته، لا كما تَرِدُ، فظَّة وقاطعة
وذات جلبة معدنية ومدينية، في تجارب أخرى. الشعر هنا غنائي ودرامي. سماته
الأبرز هي البوح والتداعي اللغوي والتفلسف الذاتي، إضافة إلى الوزن
والإيقاع والقافية. الأرجح أن شعراً بهذه السمات يُصعِّب على صاحبه الخروج
عن النماذج النمطية في قصيدة التفعيلة. رغم ذلك، ثمّة سلاسة وعذوبة
متأتيتان من عزوف صاحب «رسائل بيدبا السرية» عن الميوعة اللغوية والتفجع
العاطفي المفرط. إنها قصيدة تفعيلة، لكن القارئ لا يفقد خيط المعنى فيها.
«عندما تلمس روحي شعلةُ الله/ ويأتي الشعرُ/ ناراً في عروق الكلمات
النازفة/ لا أنا أعرفُ، لا أنتِ/ ولا الحبرُ ولا السحرُ/ ولا يعرف الله/ من
أينَ/ وكيف انفجرت/ بين ضلوعي العاصفه».
يجد هذا الشعر موضعاً صغيراً وقصيّاً في ذائقتك الميَّالة إلى النثر أو إلى
تفعيلة مهاجرة إلى النثر اليومي كما هي الحال في نتاج سعدي يوسف ومحمود
درويش. تزداد ملاحظاتك كلما تقدمت في القراءة، لكن عليك أن تتقبَّل ذلك على
أساس أن التفعيلة التقليدية غالباً ما تكون مصحوبة بهذا النوع من
الملاحظات. تضع ذلك جانباً، وتستسلم لنبرة الشاعر الذي ينحو إلى لغة
إلقائية ومنبرية. مردُّ ذلك أن الوزن غالباً ما يكون طافياً على سطح
الجملة، ويكون صوت التفعيلات بمستوى حضور المعنى أو أعلى منه. لا تبدو
النبرة عالية وصاخبة، لكنّ طريقة تأليف الجملة وتسلسلها النحوي والإيقاعي
يجعلها كذلك. هناك رغبة واستعداد لدى الشاعر لجعل اللغة تتغذى على الفصاحة
والجزالة. المشكلة أن هذه اللغة هائمة أحياناً: «كيف أعبرُ هذا المدى/
والمراكب راسيةٌ/ مثل نوم المساء/ على ضفة المستحيل». الصورة هنا لا
تمسِّكنا معنىً ملموساً.
في المقابل، نجد مقاطع أخرى يظل المعنى فيها واضحاً وملموساً رغم احتفاظ
اللغة بمعظم عتادها المنبري، كما هي الحال في قصيدة «الذئب» المكتوبة بدفقة
أسلوبية واحدة وصافية: «لا وقت أمام الوقت/ لغيرِ حراسة باب الموتْ/ أتذكرُ
أني في ليلة ميلادي/ حاولتُ خداع الوقت/ فلم أصرخ كي لا يمسكَ بي/ من عنق
الصوتْ/ وغفوتُ/ لكنَّ الوقت الكامن مثل الذئب/ تصيَّدني في شهقة أمي/ حين
صحوتْ». على أي حال، الوقت حاضر بطرق متعددة في المجموعة. صاحب «عزف على
قبر لارا» مشغول بتأمل فكرة الزوال والموت والانبعاث وتحويلها إلى فلسفة
وخلاصات شعرية شخصية. ثمة عناصر دينية وماورائية تتسلل إلى القصائد، كما في
القصيدة الأخيرة من المجموعة: «فليأخذ الله راحته حين ألقاه/ لستُ أفكر في
عودةٍ ثانيه/ كتب الناس أقدارهم/ وكتبتُ حروفي على صفحةٍ عاريه».
الأخبار اللبنانية في
18/08/2009 |