هل يُعقل أن يبلغ الحبّ
الأخوي درجة راقية وخطرة في آن واحد، متمثّلة بالدخول «طوعاً» إلى واحد من
أقسى
السجون نظاماً وإدارة، لإنقاذ شقيق من الإعدام، بتنفيذ خطّة
«جهنمية» للفرار؟ هل
يُمكن لقصّة بسيطة (في الشكل) كهذه، أن تتحوّل إلى مسلسل تلفزيوني بمواسم
أربعة
وحلقات بلغ عددها سبعاً وستين حلقة؟ ما الذي يجذب المُشاهدين إلى متابعة
أحداث
العمل، خصوصاً أن الغالبية الساحقة من مَشَاهد الحلقات الخاصّة
بالموسمين الأول
والثالث تحديداً تدور تفاصيلها داخل أروقة السجن وزنزاناته، وفي ذوات
السجناء
وأرواحهم وسلوكهم؟ هل يكفي التشويق، أم هناك حاجة إلى أمر آخر؟ هل تساهم
«مؤامرة»
ما، في السياسة والأمن مثلاً، في إضفاء مزيد من الحماسة لدى المشاهدين؟
فكرة
بسيطة
ببساطة، هذا ما حدث: عندما اقترحت فرانسيت كيلّي عليه فكرة مختصرة جداً
عن رجل «يُدخِل» نفسه إلى السجن لتنظيم عملية فرار، لم يستطع
بول شورينغ أن يجد
مواد درامية تصلح لتحويلها إلى مسلسل قادر على إقناع محطّة تلفزيونية ببثّه
على
شاشتها، على الرغم من اقتناعه التام بأنها «فكرة جيّدة». بعد مرور وقت مديد
على
إمعان التفكير بكيفية تطويرها ومنحها انفلاشاً درامياً
وجمالياً على مدى حلقات
وحلقات، توصّل شورينغ، عام 2003، إلى بلورة مسار تشويقي تصاعدي، ارتكز على
ثنائية
تنظيم عملية الفرار ووجود مؤامرة خطرة، يُفترض بالرجل أن يكشفها أثناء
تحضيره
العملية وتنفيذها، لأنه «دخل» السجن لإنقاذ شقيقه من الإعدام،
بعد اتهام هذا الأخير
بقتل شقيق نائبة الرئيس الأمــيركي. والمفـاجأة كامنةٌ في أن المحكوم عليه
بالإعدام
لم يرتكب الجريمة، ما يعني أن هناك مؤامرة كبيـرة تجري وقائعها في كواليس
السياسة
وأجهزة الأمــن السرّية. غير أن المحطة التلفــزيونية «فوكس»
رفضت المشروع، خشية من
ألاّ يكترث مشاهدوها به. والرفض لاحق شورينــغ من محطة إلى أخرى، قبل أن
يبدي
المخرج والمنتج الأميركي ستيفن سبيلبيرغ اهتمامه بإنجاز المشروع في فيلم
سينمائي.
لكن سبيلبيرغ كان منهمكاً، حينها، بتحقيق فيلمه «حرب العوالم»، فلم يستطع
العمل
عليه. مرّت أشهرٌ طويلة جداً، قبل أن تبدّل «فوكس» رأيها بالموضوع، إثر
النجاح
الجماهيري الكبير لمسلسلي «مفقود» و«24»، فإذا بها تتولّى
إنتاج «اختراق السجن» Prison Break
وعرضه، الذي بدأ في التاسع والعشرين من آب 2005، وانتهى في الخامس عشر
من أيار الفائت.
لكن، ما هي الميزات الخاصّة بالموسم الأول، التي جعلت منتجيه
يوافقون على إنتاج ثلاثة مواسم إضافية؟ التشويق الذي تحكّم
بمناخ الأحداث ومسارات
شخصياتها، والتفاصيل الإنسانية التي زُرِعت في حيّز جغرافي مليء بالعنف
والنزاعات
الدموية بين السجناء، والذكاء الفظيع الذي تمتّع به مايكل سكوفيلد (وينتورث
ميلر)،
الداخل إلى سجن «فوكس ريفر» لإنقاذ شقيقه لينكولن بورّوز (دومينيك
بورسيل) من
الإعدام، والحنكة التي صنعت خطّة الهرب، والتي رافقت السجناء المشاركين في
العملية
في رحلة «خروجهم» من هذا الجحيم الأرضي، وكيفية الحفر عميقاً في جدران
السجن لبلوغ
نقاط معينة تتيح لهم الفرار... أمورٌ تشابكت فيما بينها، وأفضت
إلى منح الحلقات
الاثنتين والعشرين الأولى هذه النجاح المطلوب (في البداية، قرّرت «فوكس»
بثّ ثلاث
عشرة حلقة فقط، غير أن النجاح الذي حقّقه المسلسل جعلها تُنجز تسع حلقات
إضافية).
ومع مرور الحلقات، وأثناء التحضير للفرار، تقع أحداثٌ متفرّقة، أبرزها قصّة
الحبّ
العميق الذي جمع قلبي سكوفيلد والطبيبة ساره تانكريدي (ساره واين كالّيز)،
العاملة
في مستشفى السجن؛ وكشف حقيقة البراءة بالإضاءة على مؤامرة
خبيثة قضت بتحميل لينكولن
مسوؤلية القتل، على أن يتكفّل الإعدام بطيّ الموضوع نهائياً.
تشنّج وارتباك
إذا نجح الموسم الأول من المسلسل في جذب عشرة ملايين مشاهد أسبوعـياً، فإن
الأرقام التالية شهدت انتكاسات متفرّقة، إذ انخفض العدد إلى
تسعة ملايين وأربعمئة
ألف مشاهد للحلقة الأولى من الموسم الثاني، وإلى خمسة ملايين مُشاهد فقط
كمعدّل عام
لحلقات الموسم الرابع. غير أن هذا التراجع البادي في مطلع الموسم الثاني لم
يحل دون
إنجاز الحلقات والمواسم اللاحقة. والنجاح الجماهيري الأول
تكامل نجاحاً نقدياً، إذ
اعتبرت «نيويورك تايمز» أن المسلسل انبنى على فعالية أقوى وأكبر للمؤامرة
من غالبية
المسلسلات التلفزيونية المعروضة في الوقت نفسه حينها: «إنه، بالتأكيد، أحد
أكثر
المسلسلات ابتكاراً»؛ بينما مدح آخرون قدراته على خلق «ثريلر
مليء بالتشويق»؛ علماً
بأن «إنترتاينمت ويكلي» صنّفته واحداً من أفضل المسلسلات الجديدة عام 2005.
هذا
كلّه على نقيض ما ذهبت إليه «واشنطن بوست»، التي أخذت عليه «طموحاته
القاتمة»
و«الأداء التمثيلي القائم على التوتر العصبي الدائم».
بعيداً عن هذه التصنيفات
كلّها، بدا هروب الشقيقين و«رفاقهما»، ومنهم فرناندو سوكري (أموري نولاسكو)
وبنجامن
مايلز فرانكلين (روكموند دانبر) وثيودور باغويل (روبرت كنيبر) وغيرهم، أشبه
بـ«الهروب الكبير»، الذي رسم ملامحه الموسم الثاني بحلقاته
الاثنتين والعشرين
أيضاً، التي شهدت تكليف ألكسندر ماهون (ويليام فيكتنر)، عميل «المكتب
الفيدرالي
للتحقيقات»، مهمّة مطاردتهم. في حين أن الموسم الثالث (13 حلقة) «أعاد»
مايكل
سكوفيلد إلى أحد أسوأ السجون في باناما، في مهمّة إنقاذ مطلوب
من قبل أجهزة أمنية
وشركات ضخمة. بينما تناول الموسم الرابع (10 حلقات) قصّة الانتقام الذي سعى
إليه
سكوفيلد إثر مقتل حبيبته ساره. وبعيداً عن الأرقام المتداولة حول عدد
المشاهدين،
ظلّ الموسم الأول أفضل المواسم كلّها، إنجازاً ومناخاً درامياً
وأداءً تمثيلــياً
وحبكة قصصية، لأنه قدّم إطاراً جديداً للتشويق وللعلاقة الإنسانية بالمكان
ولمعنى
الفرار؛ ولأنه بدا حيّزاً للتفاصيل اليومية والعادية، المشغولة بحرفية
لافتة
للانتباه، والمرتكزة على المقوّمات كلّها المؤهّلة لرفع وتيرة
التشنّج والارتباك
داخل السجن؛ ولأنه منح قصص الحبّ شكلاً آخراً من التعبير. أما الموسم
الثاني، فلم
يخرج من دائرة المطاردة البوليسية، محاولاً استكمال المسار التصاعدي
والمتأزم من
دون أن يبلغ المرتبة نفسها للموسم الأول؛ في حين استلّ الموسم
الثالث مناخه
التشويقي من العالم البديع الذي صنعه الموسم الأول، فبدا (الثالث) نسخة
عادية، على
الرغم من المحاولة الدؤوبة لرفع وتيرة التــشويق، بالإمعان في تصوير أبشع
أنواع
البؤس والمهانة والنزاعات الفردية الوحشية. أما الموسم الرابع،
فركّز على السعي
الفردي إلى إعادة تصويب الأمور الشخصية، والثأر لمقتل الحبيبة ارتبط بذكاء
(في
التخطيط والمطاردة)، عرف مايكل سكوفيلد دائماً كيف يجعله أداة فاعلة في رسم
مسارات
وأقدار.
السفير اللبنانية في
28/08/2009 |