سجالات جديدة قد تندلع
في لبنان بدءاً من بعد ظهر اليوم، بسبب
شخصيتين تاريخيتين لا تزالان مؤثّرتين، بشكل
أو بآخر، في الوجدان والذاكرة وأنماط العيش. ذلك أن الصالات اللبنانية
تُطلق العروض
التجارية لفيلمي «تشي، الجزء الأول: الأرجنتيني» للأميركي ستيفن سودربيرغ
و«كوكو
قبل شانيل» للفرنسية آن فونتان، اللذين يسردان مقتطفات من السيرة المرتكزة
على
ثنائية الخاصّ والعام.
لكن، إلى أي مدى يُمكن لفيلم سينمائي، تناول سيرة مناضل
أممي بدّل أحوال الدنيا بثورته المتنقّلة في دول أميركية لاتينية، أن يجذب
جمهوراً
لبنانياً راغباً في مشاهدة فصول من الذاكرة الجماعية على الشاشة الكبيرة؟
وهل يُمكن طرح السؤال نفسه بخصوص فيلم ثان، قدّم سيرة شخصية أخرى لا
تقلّ
أهمية وثورية عن الأولى، وإن بالتجديد ومقارعة التزمّت
والتقليد المنغلق على نفسه
في مجال الأزياء تحديداً؟
يُطرح هذان السؤالان بالتزامن مع إطلاق العروض
التجارية في الصالات اللبنانية لفيلمي سودربيرغ وفونتان. فعلى الرغم من
الاختلاف
الجذري في الاهتمامات والنضالات والمسارات والمصائر، مع أن هناك تشابهاً
بينهما في
البحث عن المُغاير والسعي إلى تحطيم المألوف والجامد؛ إلاّ أن شخصيتي
إرنستو تشي
غيفارا وكوكو شانيل منطبعتان في وعي فردي وجماعي، لدى شرائح مختلفة (إن لم
تكن
متناقضة) داخل المجتمع اللبناني، وحاضرتان في نمطين ثقافيين وإنسانيين لا
يزالان
حاضرين في المشهد المحلي، وإن بمستويات مختلفة. ولعلّ المعاينة الأولى تفضي
إلى
القول إن شعبية غيفارا، في الأوساط الشبابية تحديداً، أكبر من تلك الخاصّة
بشانيل؛
وإن حيوية النضال السياسي والعسكري أقوى من براعة المخيّلة الإبداعية في
ابتكار
أشكال متفرّقة من الأزياء الصادمة، التي ناقضت السائد وتغلّبت عليه.
مع هذا،
فإن الأيام القليلة المقبلة ستقدّم جواباً
واضحاً، في مقابل قراءة نقدية إيجابية،
مستلّة من حقيقة أن الفيلمين مشغولان
بحرفية لافتة للانتباه، مع أن الأول (تشي) كسر
السياق التقليدي في تصوير السيرة الذاتية، باعتماده تفكيكاً درامياً
وجمالياً
للتسلسل التاريخي، بهدف إعلاء الشأن الإبداعي البصري؛ في حين أن الثاني (كوكو
قبل
شانيل) حافظ على النسق المعتاد في سرد التاريخ الشخصي والعام على حدّ سواء،
من دون
تناسي أولوية استيفاء الشروط السينمائية كافة في أي عمل بصري. فقد بلغ
«تشي» مرتبة
رفيعة المستوى في الاشتغال السينمائي، بالانتقال البصري بين مراحل ومحطات
وأزمنة
ومناخات، بينما حافظ «كوكو قبل شانيل» على سياق تأريخي مغلّف بنسق سينمائي
جميل،
سلّط الضوء على مرحلة خصبة بالتحوّلات المتفرّقة.
السفير اللبنانية في
03/09/2009
كلاكيت
نقد النقد
نديم جرجورة
يعاني النقد السينمائي
العربي أزمات عدّة، أبرزها عجزه عن
الانتقال من حالة المتابعة اليومية للنتاجات
الحديثة، إلى مشروع ثقافي وجمالي وفكري متكامل، لا يكتفي بتحليل فيلم، بل
يستكمل
التحليل بقراءات أوسع وأعمق. والعجز، إذ ينبع من بؤس الحالة الثقافية
العربية
العامّة، يواجه مأزق العثور على أعمال وحالات متفرّقة، كي يستمدّ منها
قدرته على
إثارة نقاش جدّي أو إطلاق سجال حيوي، يتناولان شتّى الأمور السينمائية، من
دون
تناسي ما يحيط بها من شؤون اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية وجمالية.
فالواقع
الراهن مزر، إنتاجاً ومعالجة واستخداماً للتقنيات؛ والمخيّلة الإبداعية
مائلةٌ إلى
تصحّر خطر؛ والبحث عن تمويل إنتاجي عربي وغربي يُحرِّر الإبداع من سطوة
التجارة،
محاصرٌ باستسهال عربي وانقلابات «سلبية» في المنطق الغربي الخاصّ بآلية
التعاطي مع
المشاريع السينمائية العربية. في المقابل، يُفرَّغ النقاش النقدي الجدّي من
مضمونه
السجالي، عندما يرفض سينمائيون عديدون إدراك أهمية النقد، لأنهم يريدون
«ملحقين»
صحافيين وإعلاميين (ما أكثرهم)، لا نقادّاً يقرأون أعمالهم برغبة الحوار
المفتوح
معهم (ما أقلّهم).
أسباب عدّة فرّغت المشهد السينمائي العربي من نصّه النقدي
الجديد. أقول الجديد، وأعود إلى أجيال سابقة من النقّاد العرب، الذين لم
يحوّلوا
سجالاتهم ونظراتهم الفكرية والثقافية والإيديولوجية إلى مشاريع ثابتة تواكب
حيوية
الإنتاج السينمائي حينها، وتصنع ركيزة أساسية في كتابة نصّ إبداعي لا يقلّ
أهمية عن
الإبداع البصري؛ ولم يتفرّغوا لكتابة هذا النصّ المفتوح على الأسئلة كلّها،
لأنهم
غرقوا في متاهة العيش اليومي، أو لأنهم التهوا بالحياة اليومية على حساب
الكتابة
النظرية الفكرية. فغياب النقد، على الرغم من المحاولات الفردية الجادّة هنا
وهناك،
منبثقٌ من طغيان المنطق الصحافي/ الإعلامي، الذي برع في تفريغ المشهد
الثقافي
والفني كلّه من المعاني الإنسانية والسجالية، محوِّلاً كتبة كثيرين إلى خدم
السلطان؛ وناتجٌ من تسلّط العلاقات العامّة على ما عداها من علاقات إنسانية
وقواعد
أخلاقية، يُفترض بها أن تسود بين الجميع.
ما يفعله بعض النقّاد الجديين،
المتمسّكين بحقّهم الثقافي والإنساني في قراءة النتاجات السينمائية
ومناقشتها،
وبكونهم «نقّاداً» يسعون إلى بلورة خطابهم النقدي بتواضع وخَفر، يكاد يذهب
سدى،
لأنه مرتبط بعمل صحافي يومي، وليس بحراك نقدي. فالكتابة النقدية في صحف
يومية أو
مجلات أسبوعية أو شهرية غير مختصّة بالفن السابع لا تصمد طويلاً في الذاكرة
ولا
تؤثّر عميقاً في المشهد، إذا لم تصبح نصّاً نقدياً يتجاوز المعاينة الراهنة
لفيلم
أو قضية أو حالة، إلى تأسيس ما وصفه السينمائي اللبناني غسان سلهب بـ
«حوار» مفتوح
ودائم مع الأفلام والسينمائيين والتقنيين، والمواضيع والتقنيات والأفكار،
والارتباط
الوثيق لهذا كلّه بالمجتمع والثقافة والحياة اليومية والانفتاح على الآخر
والتواصل
معه. وحوار كهذا محتاج إلى نتاج سينمائي كثيف وسوي، وإلى وسائل أخرى تكون
ركيزة هذا
النتاج، ومرآته وضميره.
السفير اللبنانية في
03/09/2009 |