انطلقت مساء أمس الأول
اعمال الدورة السادسة والستين لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي وسط آمال
معقودة وتوقعات كبيرة بأن تأتي الدورة الجديدة ترجمة ايجابية لكل البذل
والجهد اللذين صرفا عليها في أكثر من جانب واتجاه. وفيلم الافتتاح هو جديد
المخرج جوزيبي تورناتوري “باريا” بطولة فرنشسكو شيانا وايفا منديز ومجموعة
كبيرة من الممثلين في أدوار متوسّطة وأكثر منهم في أدوار صغيرة وهناك سبب
آخر للاهتمام كامن في أنه الفيلم الايطالي الوحيد الذي افتتح أياً من
دورات المهرجان وذلك منذ ثماني عشرة سنة. فاذا أضفت الى ذلك، أنه أغلى
انتاج ايطالي منذ سنوات، ورصيد المخرج من الأعمال، وحقيقة أن الفيلم
مستوحى، افتراضاً، من ذكريات المخرج عن بلدته براغيا التي باتت الآن ضاحية
من ضواحي مدينة باليرمو، كما أنه يتعلّق بنضال الحزب الشيوعي المحلّي لكسب
الأصوات والانتخابات والدفاع عن أبناء القرى الصغيرة والمزارعين وسواهم ضد
المافيا والحزب الفاشي ثم الأحزاب اليمينية لاحقاً، فانه من الطبيعي أن
يُثير “باريا” كل هذا الاهتمام سواء من قِبل السينمائيين الايطاليين او
العالميين كما من قِبل الأوساط الاعلامية كافة.
وفي حين
التزم الجميع الصمت في حفلة الافتتاح الرسمية حابسين أنفاسهم ومستعدين لعمل
جدير بالافتتاح، انطلقت مشاهد الفيلم تتوالى في هجوم من الصور المتسارعة
والأصوات الضاجّة وفي صياغة غير ذاتية على الاطلاق تجعل من الصعب التعاطف،
على نحو او آخر، مع أي من الشخصيات التي تلعب أدوارها هنا. “باريا” كما
برهن بعد ساعتين ونصف الساعة من العرض عمل آلي كان يمكن لأي مخرج بذات
الامكانيات انجازه من دون الحاجة الى اسم عالمي الرنين كاسم تورناتوري قبل
العرض الذي أقيم له مساء أول أمس في فينيسيا، شاهد رئيس الوزراء الايطالي
الفيلم في عرض خاص في روما وأبدى اعجابه به ووصفه بالتحفة الفنية ناصحاً
الايطاليين بمشاهدته. هذا الاعجاب آت من سياسي يميني يرى في كل ما هو يساري
مؤامرة شيوعية، لذلك أحدث الاعجاب ردّة فعل متسائلة، لكن الحقيقة أن رئيس
الوزراء لديه سببان ليبدي اعجابه بالفيلم. الأول أن هناك مشهداً لشيوعي
ايطالي عاد من رحلته الى الاتحاد السوفييتي في الخمسينات محبطاً ومرتاباً
بمبادئ الحزب الذى ينتمي اليه، وهذا المشهد وفحواه تركا صدى بين كثيرين
اعتبروا المشهد نوعاً من قبول المخرج اليساري بعبثية الفكر الشيوعي ونقده
لهذا الفكر.
السبب الآخر هو أن الفيلم
من تمويل المنتج التونسي الأصل والفرنسي المؤسسات طارق بن عمّار الذي أودع
في الفيلم نحو 40 مليون دولار. ومع أن المغامرة محسوبة ويُقال إن الفيلم
بيع سلفاً بما يوازي نصف هذا المبلغ، الا أن بن عمّار وبرلسكوني صديقان
ورجلا أعمال لديهما استثمارات مشتركة ما لا يُتيح لبرلسكوني انتقاد الفيلم
حتى ولو لم يعجبه.
في واقعه فان “باريا” هو،
بين مواصفات أخرى كثيرة، صرخة يسارية حول أحلام أجهضتها حركات التغيير التي
وقعت في ايطاليا بالارتباط مع تلك التي وقعت حول العالم، اذ ينطلق “باريا”
من الثلاثينات وينتهي في الثمانينات، يسرد علينا توالي التيارات السياسية
الايطالية من الفاشية في الثلاثينات وخلال الحرب العالمية الثانية، الى
الشيوعية التي انتشرت في ايطاليا بعد انتهاء تلك الحرب وخلال الخمسينات
الستالينية، وصولاً الى الثمانينات حيث دخل الحزب الشيوعي الايطالي مرحلة
جديدة من الصراعات السياسية داخل ايطاليا بعد انهيار النظم الرسمية
القريبة.
بوضع هذه الملاحظات
جانباً، وبالاقتراب أكثر من ماهية الفيلم وكيانه فان “باريا” مخيب للآمال
على نحو كبير وسيكون صعباً عليه منافسة أفلام جيّدة أخرى منتظرة قد لا
تكون بالحجم الكبير نفسه، لكنها ستعمد الى النَفَس المستقل والى الابداع
الذاتي والحكايات والشخصيات القابلة للتصديق كمعين نوعي لها.
خصال شخصية
ما يصرف الفيلم جهده عليه
هو تقديم عدد لا يُحصى من الشخصيات من دون تركيز فعّال على تلك الرئيسية
لتكوين حس جيّد بالعمل ولتطوير ملكية هذه الشخصيات الماثلة. يقدّم الفيلم
لنا الأب الذي لم يحصل على علم كثير ويعمل راعياً للمواشي منذ صغره لكنه
يحب القراءة، والذي نشأ ابنه صبياً وسط تقلّب الحياة الاجتماعية والسياسية
في البلدة وصولاً الى شبابه.
المخرج الراغب في الحديث
عن سيرة حياة موازية لشخصيته يتجاهل أن مثل هذا الحديث يحتاج الى قدر كبير
من الشعور الخاص والحميمي ومن قدر أكبر من الذاتية والحس الوجداني على نحو
ليس بعيداً عما حققه سابقاً حين سرد حكايته صغيراً وكيف وقع في حب السينما
في فيلم “سينما باراديزو”. تورناتوري هنا تجاهل ما هو خاص في الوقت الذي
يريد فيه سرد حكاية بطله بيبينو (فرنشيسكو شيانا) منذ أن كان صغيراً في
الثلاثينات وحتى أصبح رجلاً على أعتاب الخمسين من العمر في الثمانينات. مع
هذه الرحلة الشخصية رحلة موازية لايطاليا وهي تنتقل من عصر الى آخر:
الفاشية والحرب العالمية الثانية وازدهار الشيوعية بعد الحرب ومواجهاتها مع
كل الأطراف الأخرى.
بيبينو الفقير القابع في
الأزقة يصبح شاباً يجر بقرته ليحلبها مباشرة الى الزبائن وفي يوم تلتقي
عيناه بعيني فتاة جميلة (ايفا مندز) فيقعان في الحب. وردح من الفيلم يقع
طريح مشاهد عليها أن تتوالى بينما نعلم ما ستنتهي عليه: فبيبينو وفتاته
سيواجهان تعنّت أهلها التي تتمنّى تزويجها من ثري وسيقوم الشاب بالزواج من
حبيبته غصباً واضعاً أهلها أمام الأمر الواقع. المشاهد العربي يتساءل متى
سيلجأ الممثل الذي يلعب دور الأب لعبارة “من هنا ورايح لا أنت بنتي ولا
اعرفك”. لكن تورناتوري اذ يسرد هذا الجزء بكل تفاصيله المملّة ينطلق بعده
لسرد حكاية بيبينو وانتمائه الى الحزب الشيوعي وكيف أن طموحاته غير
المحقّة لها علاقة بمحدودية ثقافته. وهو، اي المخرج، يوفر للفيلم عشرات
المشاهد وملايين الكلمات من دون أن يسعى للحظة الى توفير ولو مشاهد تأمليّة
صغيرة تكون بمثابة فضاءات تتيح للفيلم أن يتنفّس طبيعياً
للأسف، لا القصّة
الذاتية تحوي على أي خصال شخصية وألفة تبعث على الاهتمام، ولا القصّة
التاريخية تصدمنا بأي جديد او طرح لأي موضوع يحلل اجتماعيا او سياسياً أي
شيء جدير بالتحليل. بديل المخرج لكل هذا هو هجوم بالصوت والصورة على عيون
وآذان مشاهديه وحرص على ايقاع سريع غير ذاتي وبلا نبرة صدق وبكثير من
الرغبة في انجاز الفيلم بتوضيبة آلية غير فعّالة ولا يمكن أن تحقق للفيلم،
كموضوع او كفن، أي انجاز يُذكر.
بالطبع ليس كل انتاج كبير
او ضخم محكوماً عليه بالفشل، وأفلام فرنسيس فورد كوبولا، وبرناردو
برتولوتشي وسيرغي بوندارتشوك وكل المخرجين الذين أمّوا الأفلام الضخمة
للتعبير عن نظرة بانورامية للتاريخ، لا تزال نماذج صالحة للدراسة. في أعمال
هؤلاء فرص نادرة للسباحة في فضاء الواقع كما لو كان خيالاً ولنبش الذاكرة
والمعتّق في البال عبر صور لا تنضب. تشاهد هذا الفيلم وتتمنّى لو كنت تشاهد
فيلم فديريكو فيلليني الساحر “أماركورد” عوضه، او فيلم برناردو برتولوتشي
“1900” بديلاً له. ما يحدث في فيلم تورناتوري الجديد هو أن الرغبة في حشد
كل هذه القصص وكل تلك العناصر الفنية والانتاجية في فيلم ضخم، أدّى -وعلى
نحو غير متوقّع من مخرج عُرف عنه ذكاء فني مشهود- الى عمل مكثّف في كل تلك
النواحي و-الأهم- آلي الحس والصنعة بحيث لا يمكن البحث عن مصادر ذاتية او
لقاء بين الحكاية المسردة وبين ما قد يكون واقعاً وليس مجرّد رصف كتابي
لخلق حالة او تسجيل موقف.
الخليح
الإماراتية في
04/09/2009 |