قد يكون من الخطأ الاعتقاد أن اتفاقاً بين العسكر والسينمائيين تم
لإنتاج فيلم تدور أحداثه في دبابة “إسرائيلية” تشق طريقها في بلدة مدمّرة
في جنوب لبنان وتنتهي معطوبة وسط حقل لدوّار الشمس. قد يكون الأمر مجرد
مراجعة لأحداث وقعت مع المخرج سامويل ماعوز إذ اشترك، كزميليه جوزف سيدار
ولاري فورمان، في الحرب اللبنانية خلال العام 1984.
لكن اتفاقاً او لا إتفاق فإن فيلم “لبنان” المقدّم في المسابقة
الرسمية، يختلق الموقف السينمائي ليطرح موقفاً انسانياً مفتعلاً وكاذباً.
يدخل نفقاً سياسياً يؤدي به الى نفاق شامل.
منذ سنوات ليست بالبعيدة، أخذت السينما “الإسرائيلية” تتعامل والحرب
اللبنانية. طبعاً، وفي الأساس، كان هناك بضعة أفلام عن تلك الجبهة الشمالية
(بالنسبة للأراضي الفلسطينية) لكنها لم تتجاوز الحدود الى داخل لبنان.
في العام 2006 قدم جوزف سيدار فيلم “بيوفورت” الذي يتناول حياة
مجموعة من الجنود في قلعة بذات الاسم تقع في الأراضي اللبنانية وكانت
“اسرائيل” احتلّتها في الثمانينات. ثم جاء “الرقص مع بشير” لاري فورمان،
وهو فيلم ذو إنجاز تقني مهم كونه عملاً تسجيلياً قلّما أقدمت عليه السينما.
الفيلم كان عن حرب 1984 من ذاكرة مجنّد خاضها وشهد مجزرة صبرا وشاتيلا
ويعاني الآن من ذكرياته تلك.
فيلم سامويل ماعوز “لبنان” الثالث في هذا الاتّجاه وهو عن طاقم دبّابة
“إسرائيلية” (أربعة أفراد) يخوض الحرب ذاتها في موقع غير محدد داخل الأراضي
اللبنانية وما يتعرّضون اليه من شؤون تتراوح بين الأوامر التي يتلقونها من
رئيس الوحدة التي ترافقهم (مشاة) وبين تلقي قذائف من السوريين المتواجدين
في المنطقة.
يفتتح الفيلم على مشهد لحقل دوّار الشمس كبير. الزهور تعاني جفافاً إذ
هي ذابلة تنأى رؤوسها وتنحني. يبقى المشهد نحو دقيقة كاملة قبل أن ننتقل
الى قلب الدبّابة بوصول من تم تعيينه قائداً لفريقها. أرض الدبابة مغطّاة
بماء قذر غير معروف سببه وتبعاً لهوى المخرج ماعوز بتوظيف الصوت فإن كل
حركة من حركات منظار الدبابة (الى اليمين أو اليسار، أعلى او أسفل) مصحوب
بصوت عال كما لو أنه لم يؤخذ في الحسبان أن تكرار هذا الصوت سيكون مزعجاً
عدا عن أنه غير واقعي. تتقدّم الدبابة وهي الوحيدة التي في الفيلم الى
مشارف قرية على الفرقة العسكرية اجتيازها وصولاً إلى الطرف الآخر، بعدما
قام سلاح الجو “الإسرائيلي” بتدميرها.
تقف الدبابة على طريق في تلك المنطقة وسريعاً ما تتقدّم سيارة قديمة
تشق طريقها بسرعة وفيها مسلحان يسميهما الفيلم ارهابيين. الأمر المعطى
لأحد جنود الدبّابة إطلاق النار على السيارة، لكنه يجبن ويرتعد. معركة
سريعة تدور بين الجنود خارج الدبّابة وبين المسلّحين يهرب بنتيجتها أحدهما
ويموت الثاني قتلاً.
يتلقّى الجندي لوم قائده وشعوره بالذنب وخصوصاً أنه نتيجة عدم إطلاقه
النار أن أصيب رفيق له إصابة قاتلة. يتم نقل جثّة القتيل الى داخل الدبّابة
(ولاحقاً تستلمها طائرة مروحية وتطير بها) . لكن المناسبة ستطرق الباب
سريعاً من بعد: هاهو رجل يقود شاحنة صغيرة فيبادره الجندي ذاته بصاروخ
ليكتشف فيما بعد أنه قتل رجلاً غير مسلّح وأن حمولته لم تكن سوى أقفاص
دجاج. رئيس الوحدة يطلق رصاصة الرحمة على المواطن اللبناني ثم ينظر ناحية
الدبّابة وفي عينيه لوم لأن القتل هكذا هو آخر ما يود القيام به.
حين تتعرّض الفرقة لإطلاق نار حال دخولها البلدة يحدث ما يلي: مسلّح
عربي (مجهول الهوية والانتماء) يحتمي بامرأة ضد القوات “الإسرائيلية” التي
يأمرها رئيسها بالحذر. وفي لقطة أخرى نرى زوج المرأة وهو ملقى على الأرض
يصرخ بما هو ليس مفهوما. اللقطة التالية للمسلّح تبدي لنا أنه يحتمى أيضاً
بطفلين. يرفع الفيلم سؤال ما إذا كان الجنود “الإسرائيليون” سيفتحون النار
على الجميع من دون استثناء. لكن خلاصهم من هذه الأزمة يتم عبر المسلّح
الثاني الذي فتح النار على العائلة تطوّعاً فقتل الأب والطفلين. هنا فتحت
القوّات “الاسرائيلية” النار على المسلّحين فأردتهما. في الشارع تبكي
المرأة، وتصرخ في وجه أحد الجنود الذي يأمرها بالابتعاد عنه. فجأة تنشب
النار في فستانها فيحترق ويتدخل ذات الجندي فيخلع عنها الرداء لتبدو عارية
ثم يدفع لها، وهي في نحيبها وصراخها، بما يغطّي جسدها. انتهى الفصل.
كل ذلك نراه من داخل الدبابّة. الكاميرا لا تخرج من الدبّابة مطلقاً
لا هنا ولا في أي مشهد آخر باستثناء اللقطة الأخيرة من الفيلم حيث الدبابة
وفريقها وسط حقل دوّار الشمس. لكن ما ينضح به ذلك المشهد الذي أطرب الجمهور
الغربي كونه يستخدم أزمة درامية ومواجهة بين عناصر معادية هو الموقف
الأخلاقي العالي للجندي “الإسرائيلي” في مقابل قيام المقاومين العرب
بالاحتماء بعائلة ثم قتلها، وهو أمر لا نعتقد أنه حدث يوماً وصولاً الى
موقف ذلك الجندي من المرأة المفجوعة. في تصوير أكثر واقعية للمشهد، لو كان
المخرج يقصد الحقيقة، كانت الدبّابة ستفتح النار من دون ريب على المسلّحين
اللذين احتميا بتلك العائلة او لم يحتميا. قذيفة واحدة وينتهي أمر الجميع.
ليس أن هذا أمر متخيّل بل مورس، بشكل او بآخر، طوال تلك الحروب المتوالية
على لبنان، كما في اعتداءاتها المختلفة. السائد وليس الاستثناء هو ما يجب
أن يكون عليه الدور أوّلاً لو كان الفيلم يقصد النقد الذاتي او طرحاً
أخلاقياً لمبدأ الاشتراك في الحرب- وإذا لم يكن يقصد هذا او ذاك، فهذا قصور
لأن الفيلم في هذه الحالة لن يتبدّى كأكثر من مناسبة لتقديم قصّة معاناة
أربعة أفراد داخل دبّابة.
بعد قليل نرى لوي ذراع الحقيقة مرّة أخرى في مشهد آخر: يلقي الجيش
“الاسرائيلي” القبض على جندي يتبيّن أنه سوري. يُبادر أحد الجنود الأربعة
في الدبّابة فيسأل: ماذا يفعل السوريّون هنا؟ سؤال يبدو للمشاهد غير
المثقّف أمراً عادياً، لكنه موجود كنوع من الاحتجاج على الوجود السوري
علماً بأن المشاهد الآخر (ذلك المثقّف الذي سوف لن تنطلي عليه مثل هذه
البهلوانيات) من حقّه أن يسأل: ما الذي يفعله “الإسرائيليون” في لبنان
أساساً؟ ولا مرّة هذا السؤال يرد على لسان أي من شخصيات الفيلم.
الناحية السياسية غائبة وأنت لا تستطيع أن تصنع فيلماً واقعياً او
حقيقياً، وهما صفتان يزمع الفيلم التحلّي بهما، إلا إذا كان لديك بُعد
يتضمّن واقعية وحقيقية الغطاء السياسي الذي دفع بالحدث لأن يتطوّر إلى ما
يقع على الشاشة.
بعد أن يتم نقل ذلك الجندي السوري الى داخل الدبابة تصل سيّارة تحمل
كتائبييّن اثنين. يسأل أحد جنود الدبابة: من هم الكتائب؟ فيجيبه آخر:
مسيحيون معنا.
يخرج من السّيارة كتائبي ويتبادل وقائد الفرقة حديثاً طويلاً ونسمع في
اتصال من قائد الفرقة الى من هم في الدبابة طلب الكتائبي الحديث الى
المعتقل السوري. بعد قليل يتم فتح الباب العلوي للدبّابة (الذي يفتح ويغلق
عشرات المرات في الفيلم) وينزل اليها ذلك الكتائبي الذي ينحني لجانب
المعتقل السوري ويقول له بالعربية التي لا يفهمها أي من المجنّدين
“الإسرائيليين”: من ليلة اليوم او من الصباح الباكر سيتم نقلك لي. وعندي
رجال لم يمارسوا الجنس منذ أسابيع طويلة وكلّهم سيسعدون بشاب جميل المحيا
مثلك. بعد ذلك سأقلع عينيك بالملعقة. لا. سأقلع عيناً واحدة لترى العذاب
بالأخرى. سأربطك إلى سيّارتين لكي يتم تمزيقك نصفين. يقول ذلك ويخرج تاركا
الجندي السوري في حالة هستيرية من الخوف.
هنا يستخدم الفيلم العنصر الكتائبي لنقد طرف آخر إمعاناً في عدم وجود
أي ذكر للدور “الاسرائيلي” ذاته. في “الرقص مع بشير” يشعر المجنّد راوي
الذكريات بالذنب على الأقل مما حدث حين دهم الكتائبيون مخيّمي صبرا وشاتيلا
بينما الجنود “الإسرائيليون” عند مدخل المخيّمين يعلمون ما الذي يحدث
ويتجاهلونه. على الرغم من إلقاء تبعية كتائبية أكبر حجماً على المجزرة
الشهيرة، الا أن الموقف أكثر جرأة مما يرد في فيلم “لبنان” مع إقحام
مسلّحي الكتائب ليكونوا أشرار الفيلم الفعليين.
في الحقيقة لن تجد مشهداً واحداً في الفيلم يعكس ازدراء للعدو من أحد.
أكثر من ذلك، الجنود الأربعة داخل الدبّابة أقرب الى “الصوص” الذي لا يعرف
شيئاً من شيء وبل يرتعد خوفاً أكثر من مرّة. حين يصل الأمر الى قيام كتائبي
بإصدار الأوامر الى الجنود، نرى عوض امتلاك “الإسرائيليين” (او واحداً منهم
على الأقل) للمبادرة بقوّة آمرة وناهية، أربعة متخاذلين يرتعدون خوفاً من
الكتائبي كارتعاد الجندي السوري ذاته تقريباً.
وفي النهاية نشاهد لقطتين:آخر لقطة داخل الدبّابة على الجندي السوري
وهو يطأطئ رأسه في إدراك لشيء ما، بعدما أنقذ “الإسرائيليون” حياته عبر عدم
تسليمه الى الكتائبي الدموي. شيء مثل خطأ المقاومة وخطأ الحرب التي يقوم هو
بها. شيء مثل إدراك أن الجندي “الاسرائيلي” لا يعني الا كل خير.
واللقطة الأخيرة والوحيدة خارج الدبّابة وتوسّطت ذلك الحقل كما لو
كانت سفينة معطّلة وسط البحر.
ليس هناك من شائبة حول صياغة الفيلم الفنية: إبقاء المشاهد طوال الوقت
داخل الدبّابة ومن منظارها نشاهد نماذج من مواقع الحرب. لكن المشكلة هي في
الرسالة التي تعكس تجاهلاً للحقيقة وعدم الرغبة في زج الفيلم في نقد او
موقف اخلاقي يطول الجندي “الإسرائيلي” او الحرب في لبنان من منظورها
“الإسرائيلي”. في النهاية صفّق أغلب من في القاعة من الأجانب لأن عديدين
منهم اقتنعوا، على ما أعتقد، بأن الفيلم جسّد الحقيقة. ارتاح هؤلاء من
مغبّة البحث عن مسببات أخرى او إلقاء أضواء ساطعة على الوضع برمّته واكتفوا
بوجهة نظر الفيلم أن الحرب كانت على “إسرائيل” و”الإسرائيليين” داخل وخارج
الدبّابة من دون أن يطرح السؤال حول ماذا كانت “اسرائيل” تفعل في لبنان
بادئ ذي بدء.
الخليج الإماراتية في
09/09/2009 |