عكس بعض التوقّعات، لم يخرج مايكل مور من العيد السينمائي الذي انتهى
مؤخراً فوق جزيرة الليدو في فنيسيا بجائزة أولى او ثانية او حتى ثالثة. بعد
أن ذهب الى المهرجان في دورته السادسة والستين وحضر عرض فيلمه الوثائقي
الجديد “الرأسمالية: قصّة حب”.
والحضور كان كثيفاً نظراً لأن مايكل مور بات متوّجاً الآن كأشهر مخرج
أفلام تسجيلي حول العالم من ناحية، وكسينمائي ذي موقف يساري واضح ينضح
بنظرة ترتاب في النظام الأمريكي القائم وتدعو الناس لتفضيل سواه.
والظرف يساعد مايكل مور ويمدّه بما يرغب بنقده وتحليله والخوض فيه،
والظرف نفسه يجعله مسموعاً ومرتقباً ومُشاهداً من قبل عشرات ملايين الناس
حول العالم في وقت يحوم فيه التساؤل الكبير: هل فشل النظام الرأسمالي
فعلاً؟ هل ما حدث خلال الاثني عشر شهراً الماضية هو نهاية الهزّة
الاقتصادية ام أن الأسوأ لا يزال قادماً؟ وهل النظام الرأسمالي في الغرب
ليس سوى فرصة تتيح للأقلية من الإداريين الكبار تحقيق مئات ملايين
الدولارات من المكاسب غير المشروعة والارتقاء مادياً من دون أي اكتراث
لمفهوم الوطن والحاجات الإنسانية المشتركة؟
في فيلمه الجديد “الرأسمالية: قصّة حب” يجيب مور عن السؤال الأخير
بالإيجاب. يرى فئة أن الاثنين في المائة من الذين حققوا مكاسب كبيرة
مستغلّة مناصبها العليا ولاوية ذراع الحرية الاقتصادية لصالحها فقط، إنما
فعلت ذلك بمنأى حتى عن حماية النظام الذي أتاح لها ذلك، وأنها استغلّت هذا
النظام لتنقض على الديمقراطية ذاتها لأن النظام الديمقراطي لو مورس لأبقى
الثروات في أيدي الغالبية من الناس، حسب رؤيته.
مور لا يخفي عدم إعجابه بالرأسمالية كنظام وتفضيله النظام الاشتراكي
إن لم يكن بصفة بديلة، فعلى النحو الذي يحاول الرئيس الأمريكي باراك أوباما
تحقيقه. وهو حمل رسالته هذه من “فنيسيا” الى “تورنتو”، وهو مهرجان كبير
إنما من دون مسابقة، حيث استقبل بمظاهرات تأييد من نحو 1500 شخص احتشدوا
أمام صالة إلغين التي تعرض فيلمه ضمن أعمال المسابقة بمنددين، حسب شهود
عيان، بالنظام الاقتصادي المتمثّل بمؤسسات “وول ستريت” في نيويورك. القطاع
المصرفي الذي يهاجمه مور في فيلمه الجديد ويصفه
ب “الكازينو” الذي لا يمكن له أن يخسر لأنه مصمم ومشغول بهدف واحد: هو
أن يبقى رابحاً.
طبعاً لمور معادون أيضاً وفي هوليوود ذاتها. منذ شهور ليست بالبعيدة
قام المخرج ديفيد زوكر بتنفيذ فيلم سمّاه “أنشودة أمريكية” تحدّث فيه عن
مخرج يساري “معاد لأمريكا” كما يصفه، يفيق من متاهاته السياسية بفضل
مقابلات يجريها مع مجموعة من الوطنيين الأمريكيين أمثال الجنرال جورج باتون
(قام به كلسي غرامر) والرئيس جون ف. كندي (كريس أنغلن) والرئيس الغابر جورج
واشنطن (جون فويت)، لجانب بعض اليمينيين الحاضرين ومنهم المعلّق التلفزيوني
المعروف بل أورايلي الذي لديه برنامج يومي يطل به من شاشة محطة “فوكس” التي
لا تؤيد اليمين فقط، بل تندد بكل من ليس يمينياً بوضوح حتى ولو كان الرئيس
الأمريكي نفسه.
الفيلم، الذي ضم شخصيات عربية شريرة، يقدّم المخرج اليساري (وقام به
كيفن فارلي) بالمواصفات البدنية ذاتها لمايكل مور ويسميه مايكل مالوني
ويعمد الى مزج الرسالة السياسية بالمواقف الهزلية. لكن لا الرسالة ولا
الكوميديا ساعدتاه على بلوغ أي غاية تجارية ونقدية وانتهى الفيلم كما لو لم
يكن.
طبعاً، موقف مور لم يتأثر به ولا يتأثّر بالصيحات الإعلامية المعادية
التي ووجه بها في الولايات المتحدة منذ أيام إنجازه أول أفلامه الانتقادية،
وكان ذلك عبر فيلمه الأول “روجر وأنا” قبل عشرين سنة. خلال مسيرته التي
شملت “باولينغ لأجل كولمباين” (عن تجارة السلاح في أمريكا التي تغذّي
الجماعات النازية الجديدة)، و”فهرنهايت 9/11” (عن مغامرة بوش العسكرية في
العراق بحجة الحرب على الإرهاب) ثم في “سيكو” (حيث تصدّى لمساوئ مؤسسات
التأمين الصحّي الأمريكية) برهن على أن ما يهمّه هو أمريكا الناس العاديين
مدافعاً عنهم ومستغلا ما حققه من شهرة ومكانة لكي يطرح تلك التساؤلات
الاجتماعية التي تجلب له التأييد من ناحية وتؤلّب عليه المعارضة من ناحية
أخرى.
وحتى اولئك المعارضين له والمنددين به يدركون أنه أصبح علامة فارقة في
السينما الوثائقية وبين المخرجين الأمريكيين. علامة من غير الممكن تحجيمها
او تجاهلها خصوصاً وسط تلك الظروف والأخطاء التي يرتكبها اليمين نفسه ما
يُفيد موقف مور ويمنحه المزيد من المفردات التي يبني عليها أفلامه.
فيلمان في واحد بدعة تدفع
الملل
في العام 1909 عمد المخرج الأمريكي د. و. غريفيث الى تجربة جديدة:
فيلم داخل فيلم. الفيلم الذي تشاهده له هو “تلك القبّعات الفظيعة” والفيلم
الذي يعرضه الفيلم المذكور بلا عنوان. موضوع فيلم غريفيث هو قبّعات
السيّدات الطاووسية الكبيرة حين يدخلن صالات السينما ويصررن على ارتدائها
وما تسببه من إزعاج للآخرين. الفيلم لا يحمل لمعات ومزايا عميد السينما
الأمريكية غريفيث، بل أشبه بنكتة واحدة صورت داخل صالة سينما وبكاميرا
ثابتة تكمن خلف الجالسين لمتابعة الفيلم الآخر المعروض على الشاشة.
منذ ذلك الحين، ومفهوم تقديم فيلم داخل فيلم شهد وضعاً متكرراً ولو
أنه لم يكن كثيفاً في أي حال ولا متواصلاً. هذا الى أن يلحظ المرء كثرة
الأفلام التي عادت للاعتماد على فكرة وجود فيلم آخر داخل الفيلم الذي نراه
ما يجعل معظم المشاهدين مشغولين بمتابعة فيلمين ومتابعة ما يحدث في كل
منهما على حدة من زاوية علاقته بالفيلم الآخر.
في فيلم كونتين تارانتينو الأخير “أولاد زنا بلا مجد” مثل هذه
التفعيلة: هتلر وبعض كبار القادة النازيين يدخلون قاعة السينما الباريسية
لمشاهدة فيلم بعنوان “فخر الأمّة”. العنوان يُقصد به تلك المجموعة من
الأفلام التي أنتجتها الآلة الإعلامية خلال الثلاثينات من القرن الماضي في
سنوات الحرب العالمية الأولى لرفع معنويات الشعب الألماني. المخرج لم يصوّر
الفيلم بنفسه بل أسند تصويره الى أحد ممثليه (إيلي روث) ومنحه كاميرا وبضعة
ممثلين وفيلماً بالأبيض والأسود وسيناريو لا يحكي قصّة بل يقدّم مشاهد قتال
فقط. وخلال فصل من الأحداث، يتطلّع هتلر وغوبلز وآخرون من القيادة
الألمانية الى الفيلم بإعجاب شديد، بينما نتابعه أيضاً نحن كمشاهدين في
حالة مزدوجة نرقب من خلالها عملين أحدهما داخل الآخر.
فيلم “خمسمائة يوم من الصيف” يحمل مشهداً يدخل فيه بطلاه دار سينما
لمشاهدة فيلم. لا تبقى الكاميرا في الخارج ولا يُتاح للمونتاج اختصار الوقت
لمشاهدتهما خارجان من الفيلم، بل يعرض جزء من الفيلم علينا. وبعضنا بلا ريب
تمنّى لو أن الفيلم المعروض داخل الفيلم هو الفيلم الذي كان يشاهده طيلة
الوقت.
وشاهدنا للأخوين كووَين استعارة أخرى في فيلمهما الأخير للآن “أحرق
بعد القراءة” وكان جوزيبي تورناتوري حشد في فيلمه المعروف “سينما باراديسو”
مشاهد من أفلام عدّة وسبقه فديريكو فيلليني الى منوال مشابه في “أتذكر”،
والكوميدي الصامت باستر كيتون كان لديه فيلم رائع بعنوان “شرلوك هولمز
جونيور” استخدمه لكي يظهر لنا أحلامه في التمثيل وفي لعب دور التحري الذكي
في الوقت ذاته وذلك رغبة في البرهنة عن حبّه لابنة صاحب الصالة.
وفي الستينات ظهر فيلم رعب بعنوان “The
Blob” ويدور حول مادة لزجة هبطت من الفضاء وكبرت حتى
أصبحت ضخمة تتدحرج في شوارع المدينة وتنفذ من ثغرات المباني وأجهزة التهوية
الى صالة سينما تعرض فيلم رعب بدورها. واستخدام هذه التفعيلة ليس دائماً
لإثارة قدر من الحركة والتشويق او من الكوميديا او الذكريات، بل أحياناً ما
يستخدم هذا الوضع حين يكون الفيلم مبنياً على قصّة تسبر غور الصناعة
السينمائية ذاتها كما الحال في فيلم روبرت ألتمن “اللاعب” وفيلم “غاتسبي
العظيم” كما حققه جاك كلايتون سنة 1974.
وفي فيلم كلينت ايستوود “البركة الميّتة” نراه يدخل عالم “هوليوود”
حيث نجد قاتلاً يقتنص من الممثلين المعروفين من دون هوادة ومخرجاً يحاول
جمع شتات فيلمه المهدد بالإيقاف بعد موت بطله الرئيسي.
والغالب أن الظاهرة مستمرّة ربما الى أن يصبح في المتناول تقديم
فيلمين متساويين في عرض واحد وبسعر تذكرة واحدة فتتابع ما تريد في حال أن
الآخر لا يعجبك.
أوراق ناقد
هروب
يكاد كل شيء في عالم السينما والإعلام العربيين أن يكون قائماً على
النزعة الفردية من دون الاهتمام بربط الذات بسواها مما يشكّل عصب المجتمع
العربي، الإنساني والاقتصادي والثقافي على وجه التحديد.
فنحن نطلق ما نريد من أحكام ونقوم بما نرغبه من تصرّفات لأننا نعتقد
ونفترض أننا على حق في كل وأي شيء نقوم به. ولم تعد تسمع اعتذاراً عن الخطأ
لأن الفضيلة ما عادت موجودة في ذلك الاعتذار، بل نراها نقيصة، فمن مثلنا لا
يمكن له أن يخطئ. وإذا أخطأ... لم الاعتراف والاعتذار؟ الا يخطئ كل البشر؟
كنت تسمع مثلاً كلمة آسف حين يخطئ مذيع نشرة الأخبار فيتوقّف حالاً
ويعتذر. الآن يعيد قراءة الكلمة كما لو كانت مكتوبة مرّتين كل مرّة بشكل
مختلف. وهذا إذا كلّف نفسه عناء الإعادة. في أحيان كثيرة يخطئ ويستمر كما
لو أنه لم يفعل ما يستوجب التوقّف عنده، وإذا سمح لنفسه قدراً من المراجعة
فإنه يلخّصها بحرف “أو” فيقول مثلاً “الإعيار او المعيار” كما لو أنها غلطة
بسيطة او كما لو أن كلتا الكلمتين بمعنى واحد. ربما لكثرة اخطاء المذيعين
توقّفت إدارات الأخبار عن مطالبتهم بالتصحيح.
كنتَ قادراً على أن تطرح موضوعاً ما منطلقاً من زاوية مبدئية فتحدث
سجالاً حميمياً وصحيّاً يسعى لأن يُفيد ويستفيد. الآن تطرح الموضوع من ذات
الزاوية فإذا بالكثيرين يؤوّلونه حسب الرغبة الخاصّة وحين يردّون يكتبون في
أشياء أخرى لأنهم لا يستقوون على الرد. تقول مثلاً إن الفيلم الفلاني كان
ينقصه كاتب سيناريو جيّد، فيرد عليك المنتج بالقول: “لكني أنا الذي وافقت
عليه”. وتقول إن هذا المخرج يستغل كونه وصل الى الشهرة كمخرج جاد ليبتز
مهرجانات السينما العربية، فيرد عليك بالاتصال بالمهرجان والاحتجاج. في
الحالتين، ما للرد والموضوع المطروح؟ لا علاقة.
وحين يلوم بعض الزملاء مسؤولاً في مؤسسة من المفترض بها أن ترعى شؤون
السينما كونه يوافق على منح الدعم المالي لمشاريع لا تثمر عن نجاحات لا
فنية ولا تجارية، يرد عليهم بالتأكيد على أن الإقبال على السينما منحسر في
كل أرجاء العالم، وهو رد مزدوج الخطأ، فهو ليس منحسراً على الإطلاق من
ناحية، وهروب من ولوج المشكلة لأنها مشكلة حقيقية وهو مسؤول عنها وليس لديه
ما يدافع به عن نفسه سوى الهرب الى وضع آخر، تماماً كذلك المخرج الذي
يُتاجر بصيته فيتقاضى من المهرجانات بحجة إنجاز فيلمه.
في وسط هذه الظروف، وهي ليست سوى أمثلة بسيطة لحالات متوالية تشبه
جحافل النمل، من حق المرء أن يسأل: كيف يمكن لهذا العالم العربي أن يتقدّم
إذا ما كانت الممارسة فردية وذاتية على هذا النحو؟ ومن حقّه أن يجيب: لن
يتقدّم. هذا ليس وضعاً يُتيح للسينما وللتلفزيون وللفن وللثقافة وللمجتمع
أن يتقدّم. هناك شيء خطأ يقع كل يوم ولا أحد يود مواجهة الحقيقة.
م.ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
الخليج الإماراتية في
22/09/2009 |