شاهدت فيلم «كازانيجرا» في مهرجان دمشق السينمائي الدولي.. الفيلم حاصل على
الجائزة البرونزية من المهرجان في دورته السابعة عشرة وأخيرا جائزتي
الإخراج والتمثيل في مهرجان الفيلم المستقل في بروكسل وكان قد سبق له
الحصول على جائزة أحسن تمثيل من مهرجان «دبي».. وعلى الرغم من كل هذه
الجوائز فإن الاتهامات لا تزال تلاحق هذا الفيلم المغربي تتابعه وتترصده من
مهرجان إلى مهرجان لتؤكد أننا كلنا في الهم شرق.. حتى ولو كنا في المغرب
العربي فإننا أيضا شرق.
ما أحدثكم عنه هو هذا الاتهام الذي صار أشبه بالظل للصورة والصدى للصوت لا
بد منه ومع الأسف الشديد أقول لكم إنه قد صار لا بد منه.. أتحدث عن الاتهام
بالإساءة لسمعة البلد الذي تجري على أرضه أحداث الفيلم.
كثيرة هي الأفلام التي لاحقها هذا الاتهام في مصر؛ سواء أنتجها مصريون أم
عرب.. أتذكر أن عددا من أفلام ما أطلقنا عليه الواقعية الجديدة في مصر
وأعني بها أفلام المخرج الراحل عاطف الطيب وأيضا كل من محمد خان، خيري
بشارة، داود عبد السيد طالهم هذا الاتهام.. وسبقهم إليه الراحل صلاح أبو
سيف الذي كان يعتبر رائدا للواقعية، لم يسلم هو أيضا من هذا الاتهام؛ حيث
كانت أغلب الأفلام قبل أبو سيف تقدم البطل وهو يشرب السيجار ويتحدث وهو
يمسك سماعة التليفون الأبيض، ومع أبو سيف شاهدنا «الأسطى حسن» و«القاهرة
30» و«شباب امرأة».. فهل حقا من الممكن أن يسيء فيلم للبلد؟ وأضيف أيضا هذا
السؤال: هل فضح سلبيات يعيشها مجتمع ما تعني نشر غسيلنا القذر أمام الأجانب
كما يحلو للبعض أن يتشدق بمثل هذه العبارات؟ دعونا قبل أن نكمل نتناول
الفيلم الذي أثار بداخلي كل هذه الشجون. نور الدين لخماري مخرج «كازانيجرا»
لم يحضر مهرجان «دمشق» ولكن أصداء الهجوم على فيلمه سبقته إلى هناك..
الفيلم تجد فيه هذا التآلف بين السيناريو والإخراج وهو ما يجعلك تشعر بأن
الكاتب كان يقرأ فيلمه مصورا قبل أن يكتبه على الورق فأصبحنا وكأننا نتابع
دفقة إبداعية واحدة.. الاسم يحمل سخرية لاذعة ومقصودة بالطبع بقدر مباشر
جدا، وأنا أراها كذلك، ولكن هذا هو اختيار المخرج ليقدم لنا تلك الحالة
الخاصة جدا لفيلمه الذي يحيل كازابلانكا (الدار البيضاء) لتصبح دارا
سوداء.. يقدم الفيلم المدينة كما تبدو على السطح هادئة ناعمة.. تحت هذه
النعومة والسكون والدفء يختفي التوحش والقبح، حيث إن تجارة المخدرات
والاغتصاب والقتل والدعارة تتحول إلى قانون للحياة ولا تعرف قانونا غيره،
التناقض بين النهار والليل، بين قانون الدولة وقانون رجال العصابات الذين
يملكون مقاليد الحكم في الليل وينسج المخرج كل ذلك من خلال تيمة إنسانية عن
الصداقة التي تجمع بين بطلي الفيلم؛ حيث اختار المخرج شخصياته من بين هؤلاء
الذين يعيشون على أرض الواقع، وأحال واقعية الحياة إلى واقع فني.. لم يمر
هذا الفيلم بسهولة في المغرب خاصة وأن الدولة من خلال المركز السينمائي
المغربي ساهمت في إنتاجه وكان قد سبق لي أن شاهدته أيضا في مهرجان «دبي» في
الدورة الأخيرة وتعالت الأصوات في المغرب لتؤكد أن المخرج يسيء إلى سمعتها
إلا أنه كما يبدو انتصر الصوت الآخر الأكثر عقلانية، وهكذا وجد الفيلم
طريقه إلى «دمشق».. شخصيات الفيلم أخذها المخرج من واقع الحياة كما عايشها
في تلك المدينة الساحرة التي تراها نهارا على حال وليلا وهي ترتدي ثوبا
آخر. شخصيات الفيلم الرئيسية تتعايش مع الحياة وتحاول أيضا مع هذا التعايش
مع الواقع أن تملك روح التمرد لتغيير هذا الواقع.. الصديقان كريم الذي أدى
دوره أنس الباز وعادل أدى دوره عمر لطفي كل منهما يكسب رزقه بطرق غير
مشروعة تحمل في عمقها تحايلا على الواقع.. لكننا في نفس الوقت نتعاطف
كمشاهدين مع تلك الممارسات ونراها تستند إلى واقع فرض على أبطال الفيلم.
كريم يقوم بتوظيف عدد من الأطفال الهائمين على وجوههم في الشوارع لكي
يبيعوا السجائر ويحصل هو على المقابل، بينما صديقه عادل يقرر شراء عقد عمل
والحصول على فيزا لكي يسافر إلى سويسرا وهو يجسد أحلام الهجرة التي يعيشها
الكثير من الشباب في عالمنا العربي، كل منهم يعتقد بأن كل أحلامه ستتحقق في
حالة واحدة فقط عندما يهاجر خارج حدود بلاده وكأن البلد صار طاردا لطاقات
شبابه.. يغلب على مشاهد الفيلم قدر من السخرية اللاذعة، حتى رجل العصابة
الكبير نراه يحمل كل التناقضات فهو الأب الروحي المهيمن على مقدرات الجميع
وفي نفس الوقت هو أيضا المنتقم الجبار الذي يتحكم في كل تفاصيل الحياة..
يستند الفيلم إلى رؤية اجتماعية حيث نرى كلا من الصديقين في حياتهما
الاجتماعية المحطمة وذلك لكي يقدم لنا كمشاهدين مبررا لكل ما سوف يتجسد
أمامنا بعد ذلك من إحباط وهزائم يعيشها الطرفان.. لا ينسى الفيلم رغم قتامة
الأحداث أن يضع شخصياته خاصة الممثل محمد بن إبراهيم في إطار كوميدي ضاحك
حتى اللقطة الأخيرة ونحن نراه وهو يداعب كلبه الصغير مشفقا عليه رغم أن
طلقات الرصاص تحاصره من كل جانب!! المخرج حرص من خلال لقطاته على أن يقدم
لنا هذا العشق الذي يعيشه أبطاله لتلك المدينة رغم احتجاجهم عليها وتمردهم
على ما يجري داخل أجوائها، عندما يصعد البطلان إلى إحدى البنايات العالية
نرى في العمق تلك التفاصيل من خلال عين مدير التصوير لوكا كواسين.. أيضا
كانت الموسيقى التي نسجها ريتشارد هورفيتش تؤكد باقتدار عمق الإحساس المرئي
من خلال شريط الصوت.. استعان المخرج بعدد من أطفال الشوارع الحقيقيين لكي
يؤدوا أدوارهم على الشاشة وهي بالمناسبة لم تكن المرة الأولى، وعلى المستوى
المغربي أو العربي المخرج المصري خالد يوسف مثلا قدمها في فيلمه «حين
ميسرة» وقبل نحو 60 عاما قدم عاطف سالم في «جعلوني مجرما» أطفالا أيضا من
الشوارع.. نبيل عيوش المخرج المغربي استعان بأطفال الشوارع في فيلم «على
زاوا» أخرجه قبل نحو 12 عاما. على عكس ما يعتقد البعض فإن الاستعانة
بالأطفال أمام الكاميرا مشكلة ومأزق حاد جدا لأن المخرج عليه أولا أن يحافظ
على تلقائية الطفل ثم يدربه على أسلوب التعامل السينمائي وهذا هو أصعب دور
يؤديه المخرج وهو يلقن هذا الطفل قواعد الوقوف أمام الكاميرا ثم عليه أن
يجعله أيضا ينسى أنه يقف أمام الكاميرا أي يحافظ على فطريته وفي نفس الوقت
يدرك طبيعة الكاميرا في النظرة والحركة لأن كل شيء ينبغي أن يتم حسابه بدقة
حتى لحظات الانفلات الطبيعية يستطيع المخرج المحترف توظيفها جيدا وأتصور من
خلال مشاهدتي لهذا الفيلم أن المخرج أجاد تماما توظيف ممثليه في هذا الفيلم
وبات حتى المحترفين منهم يتمتعون في الأداء بروح الهواية لنجد أنفسنا أمام
هارمونية واحدة!! كان المشهد الأخير في إسطبل الخيل وتلك الحالة من الهمجية
والوحشية حيث نرى الحصان داخل الإسطبل ثم هروبه ومحاولتهم المستحيلة إيقافه
خارج حدود السيطرة وكأنها تحمل في مدلولها إحساسا موازيا أيضا بنفس الحالة
التي عليها بطلا الفيلم في مواجهة زعيم العصابة الكبير محمد بن إبراهيم،
والذي أرى من حقه أن يحصل على جائزة أفضل ممثل وهي تلك التي لم تأت له سواء
في «دبي» أو «دمشق».
ويبقى الحوار متصلا حول الاتهام الذي لاحق صناع الفيلم وتحديدا الإساءة
للسمعة التي طالت هذا الفيلم، وحقيقة علينا أن نفكر بصوت مسموع من هو الذي
يسيء للسمعة هل السلبيات التي نراها في حياتنا ونسكت عنها أم أن مواجهة
السلبيات هي أكثر الأسلحة قدرة على مواجهتها.. أعتقد أن المخرج المغربي نور
الدين لخماري قرر أن يواجه الفساد وسيطرة العنف على تلك المدينة مؤكدا أن
العشوائيات تفرض قانونها الخاص حيث نراه أمامنا في حالة توحش خاصة عندما
يغيب القانون وعلينا أن ندرك أن هذا هو الطريق الوحيد لفضح تلك الممارسات
وهذا هو ما اختاره بالفعل المخرج المغربي، ومع الزمن سوف تصمت تلك الأصوات
التي نسمعها وهي تردد الإساءة للسمعة سواء كنا في القاهرة أو في الدار
البيضاء أو أي مدينة عربية أخرى!!
الشرق الأوسط في
13/11/2009 |