إلى حين قريب لم تكن الأفلام الكرتونية، أو “الأنيماشن” كما هو مصطلح
على تسميتها، تحظى بذات الرعاية التي تحظى بها الأفلام الحيّة خصوصاً لدى
الجوائز الكبيرة . لكن “الأوسكار” من ناحية عزّز وجودها حين منحها قسماً
خاصّاً بها، تبعه “الغولدن غلوب” مع ارتفاع المعروض منها في المهرجانات
العالمية (كان، بوسان، فنيسيا الخ . . .) حيث كانت في السابق مستبعدة من
المسابقات الرسمية في المعظم الكاسح من المرات .
هذا العام، إذ ينطلق سباق الجوائز هذا مع إيداع أعضاء “جمعية الصحافة
الأجنبية في هوليوود” تصويتاتهم، نجد أن خمسة عشر فيلماً كرتونياً طويلاً
في السباق لاستحواذ “الغولدن غلوب” كأفضل فيلم “أنيماشن” . وما نجده بين
هذه الأفلام، التي عرضت خلال العام الحالي، على الشاشات العالمية، مدى
تنوعها بانتمائها الى مدارس فنية مختلفة، كما بطرحها مواضيع متعددة تحت
راية “الفانتازيا”، ثم بتعدد مصادرها ولو بنسبة محدودة .
أفلام “الأنيماشن” لم تعد محددة بالحكايات الكلاسيكية، مثل “ساندريلا”
أو “الأميرة النائمة” و”الأقزام السبعة” ولا بحيوانات الغابة مثل “الأسود
والفيلة”، بل هي تجاوزت هذا كله من دون أن تتجاهله تماماً، صوب شخصيات
جديدة وموضوعات متنوعة مع رصد لبعض القضايا التي يمر بها العقل البشري هذه
الأيام أكثر من أي أيام أخرى، كالبيئة واحتمال نهاية الحضارة على الأرض،
ومستقبل البشرية فوق الكواكب الأخرى . هذا كلّه في الوقت الذي كانت فيه
النظرة التقليدية للفيلم الكرتوني تكمن في الحديث عن شخصيات آدمية وحيوانية
معهودة حتى ولو كانت أسطورية، وذلك بسبب التوجّه المحدد لهذه الأفلام
للناشئة من أطفال وأولاد دون سن الرشد
تجارياً توسّعت حلقات الإقبال لتشمل فئات شابّة وما فوق، من دون أن
تخسر الجمهور السابق، ولو أن بعض هذه الأفلام ليس بالمستطاع فهمه من قِبل
الصغار إلا مع وجود أمهاتهم أو آبائهم، وهذا مقبول جداً من قبل استديوهات
“هوليوود” لأن كل طفل أو اثنين يأتي مصحوباً براشد أو اثنين ما يرفع من عدد
التذاكر المُباعة .
بعض الأكثر إثارة للملاحظة في أفلام “الأنيماشن” الجديدة، أن عدداً
منها يدور فوق كواكب أخرى . الفيلم الأمريكي الممول إسبانياً “الكوكب 51”
إخراج جورج بلانكو هو أحدها حول آدمي من الأرض يحط على كوكب يحمل ذلك الرقم
ليفاجأ بأنه مسكون من قِبل شعب أخضر البشرة وغريب الشكل وكيف أن أهل ذلك
الكوكب يخشون من غزو أرضي جامح يمثّله هذا الآدمي (يؤديه بصوته دواين
جونسون) .
فيلم “معركة تيرا” إخراج أريستومنيس سيرباس بدوره فيلم فضائي يتحدّث،
كما عنوانه، عن معركة للسيطرة على كوكب شرير من قبل غزاة آدميين (من بين
الأصوات المشتركة روزانا أركيت وجيمس غارنر) . وينحصر فيلم “الوحوش ضد
الغرباء” حول غزو مضاد يقوم به أهل الفضاء على الأرض وينتج عنه نشوء كائنات
متوحّشة مع ريز ويذرسبون وكيفر سذرلاند بين الممثلين .
سنلاحظ هنا أن هذا يأتي أقرب الى تقليد لفيلم “وول- إ” الذي انطلق في
العام الماضي ليتحدّث عن انتقال الإنسان الى كوكب اصطناعي للعيش فوقه .
وهذا ينقلنا نحن هنا الى الجانب الآخر من رسالة ذلك الفيلم تتكرر هذا العام
. في “وول-إ” فإن السبب في هجران الإنسان لكوكب الأرض هو ارتفاع كمّ
الأوساخ والفضلات البشرية ما لوّث العالم الذي نعيش فيه . وهذه الرسالة
البيئية مرتبطة بفيلم أسبق تناول المسألة البيئية هو “أقدام سعيدة”، حيث
حيوانات البطريق تكتشف أن العالم ينقض عليها وينتقص من مساحتها الطبيعية
التي اعتادت عليها .
هذا العام نجد أن “غائمة مع فرص مطر لحم” و”عصر الجليد: فجر
الديناصورات” يتناولان مسألة البيئة، في حين أن مسألة نهاية الحياة على
الأرض موجودة في فيلم “9” إنتاج تيم بيرتون . في الوقت ذاته، فإن الأفلام
التي لديها أجندات أقل طموحاً إرشادياً لا تزال موجودة يتقدّمها الفيلم
الياباني “بونيو” عن الولد الذي يحب سمكة صغيرة تنقلب فتاة، و”الأميرة
والضفدع” الذي يتناول حكاية متقاربة .
بعض الأفلام من بطولة حيوانات مثل السنجاب في “ألين والسناجب” والسمكة
في “بونيو” والثعالب في الفيلم الجديد “مستر فوكس الرائع” والديناصورات في
“عصر الجليد” . بينما لا يزال ل “الأنيماشن” المعتمد على الآدميين وجود مهم
كما الحال مثلاً في “أنشودة الكريسماس” و”فوق” .
نقاط الضعف تهوي بـ"فوق في
الفضاء"
“فوق في الفضاء” هو الفيلم الثالث للمخرج جايسون
رايتمَن، والثالث أيضاً من بطولة جورج كلوني بعد “الرجال الذين يحدّقون في
الماعز” و”مستر فوكس الرائع” يحمل بضع حسنات، لكنه ليس فيلما كامل الجودة .
كذلك كان الحال مع فيلمي المخرج نفسه السابقين “شكراً للتدخين” و”جونو” .
إنه حكاية رجل وظيفته صرف الموظّفين حين يتقاعس مديرو أو أصحاب
المؤسسات عن فعل ذلك بأنفسهم . يقطع في الفضاء عشرات ألوف الأميال كل سنة
ليقابل من تود الشركات الأخرى صرفه من العمل . إنه ساعي بريد لا يسلّم إلا
الأخبار السيئة لم يستغن عنهم، وكيف أنه إذ يصرف العشرات من أعمالهم كل
عام، يأتي يوم عليه فيه أن يساعد أحداً في نيل وظيفة . ليس هذا كل ما يحويه
الفيلم الذي يبدأ وينتهي بمحاولة ربط موضوعه بما تمر أمريكا اليوم به من
بطالة، وكيف أن هذا الرجل الذي لا ينبض قلبه بعاطفة ولا تعرف حياته الخاصة
أي التزامات يقع في الحب، لكن من أحب تصرفه . إنه كما لو عاد للبطالة
العاطفية مرة أخرى . رايان بينغهَم (جورج كلوني) يمضي معظم أيام السنة
منتقلاً من مدينة أمريكية الى أخرى . نراه مستمتعاً بحياة في الفضاء حيث
يعيش بين المطارات . وهناك تمهيد يصف به رايان حياته فيقول “المطار .
المكان الذي لا تطيق هواءه المستهلَك وحواجزه الإلكترونية والسوشي الرخيص
هو البيت المحبب بالنسبة لي” .
يصاحب ذلك لقطات مونتاجية له . كيف يرتّب حقيبته الصغيرة وكيف يمشي
بها وكيف يستخدم البطاقات الخاصة وكيف يتصرّف عند حواجز التفتيش بسلاسة
وسهولة وكل الأمور التي اعتاد عليها حتى أصبحت هو .
لاحقاً يعلّم الفتاة التي يدرّبها (آنا كندريك) كيف تكون حذقة مثله
.عند هذه النقطة من الفيلم (منتصفه تقريباً) تشعر بأنك لم تعد بحاجة الى
نصائح رايان . كل من يسافر مثله يعرف هذا وأكثر منه وكل من يشاهد أفلاماً
كثيرة يدرك أن المخرج هنا يُضيف لمسة أخرى فوق ما أثبته سابقاً وكان يستطيع
أن يستغني عنه، لكن جايسون رايتمَن نوع من المخرجين الذي عليهم وضع الخط
أكثر من مرّة تحت السطر.
وهذه الحالة تزداد حين ينفصل الفيلم عن نصف ساعته الأولى، التي هي
أفضل ما فيه، فنشهد تحول رايان من الرجل الذي تعرّفنا عليه الى الرجل الذي
سيتناقض مع ما هو عليه . يقع في الحب، ويتدخل لإعادة عريس شقيقته إلى
الحياة الزوجية بينما هو لم يكن مقتنعاً بالزواج كمنظومة بشرية ولم نر أن
عليه قبول فكرة التغيّر .
ليس المقصود من التناقض خلق تضاد يثمر عن دراما تشحذ الفكر، بل هو نوع
من قول الشيء وغيره .
فحياة البطل كأعزب تبدو جميلة وحرّة ومستقلّة ولديه خطاب قصير مقنع .
بعد قليل، حياة المتزوّجين، حتى من دون خطاب، تبدو الأكثر قبولاً، كونها
تعني الاستقرار وتكوين الأسرة . والعيش في الفضاء جيّد والعودة الى الأرض
جيّدة أيضاً . الفتاة نتالي التي عليه تدريبها جادّة في عملها، لكنها تعيش
على الحافّة بين الإيمان بما تقوم به ونكرانه ما يخلق للفيلم حالة أخرى من
اللاثبات في الموقف .
على ذلك كله، هذا فيلم له صياغته السلسة في أكثر الأحيان . خذه على
أساس التنويعة الفنية التي يقدم عليها: صور متوالية من الفضاء للمدن التي
يحط فيها رايان (دترويت، نيو أورلينز، سان فرانسيسكو الخ . .)، لقطات
مُعالجة كما لو كانت تسجيلية لرد فعل المطرودين من أعمالهم وعلى نحوين (نحو
من يتحدّث إلى رايان، ونحو كمن يتحدّث لمقابلة معه)، ثم تلك النقلات
الهيّنة من مشهد لآخر ومن فصل في حياة بطل الفيلم إلى آخر .
المرء يمكن له أن يلحظ سوء الانتقال من لقطة إلى أخرى . عادة في أفلام
رايتمَن ينتظر كل ممثل دوره في الحديث، ثم دوره في اللقطة فتراه حين يتحدّث
من دون أن ترى ردّ فعل من يتحدّث إليه . واللقطات، بين اثنين متحاورين
غالباً لقطة لهذا وأخرى لذاك، إلا إذا كانا متلاصقين كما الحال مع كلوني
وفارميغا أيام العز .
علامات
قواعد لغوية
عند مطلع القرن العشرين، أي من 1901 وما بعد، تبيّن أن الفيلم مقبل
على تغيير بسبب قيام ميلييس في فرنسا وإدوين س . بورتر في الولايات المتحدة
باعتماد مبدأ اللقطات المتعددة للمشهد الواحد . بذلك أوجدا ما عُرف حتى
اليوم بالقواعد اللغوية للفيلم . هذه القواعد تألّفت حينها من أربعة بنود
الأول هو ما عُرف بالإنجليزية بكلمة
Frame
، واختار معظم النقاد ومدرسو السينما العرب تسميته ب “الكادر” نقلاً عن
الكلمة الفرنسية .
والكلمة في الحالتين تحتاج إلى تعريف أوسع: هذا الإطار المذكور هو
الجزء الأصغر من كينونة المشهد: الجزء المحدد من اللقطة حتى ولو كانت طويلة
واحدة . هي أيضاً ما يحتاج مدرّس المادة السينمائية التركيز عليه ليشرح
لقطة . لنقل انتقال الممثل من العتمة إلى الضوء متقدماً أول ما يخرج من
النفق تجاه الكاميرا في لقطة بعيدة . لو تم تجميد هذا الجزء من اللقطة
تماماً عند أول خروج الرجل من النفق فإن هذا التجميد سيكون المادة لدراسة
استخدام النور وموقع الكاميرا وحركة الممثلة أو أي شيء آخر ينضوي داخل
الكادر الذي تم إيقاف الفيلم عنده لتلك الدراسة .
الثاني هو اللقطة وهي المؤلّفة من مجموعة كادرات/ ثوان بعد الانتقال
من لقطة سابقة وقبل الانتقال إلى لاحقة . في المثل أعلاه ستكون اللقطة هي
كل عملية خروج الرجل من النفق الى النور واقترابه من الكاميرا . الآن يمكن
أن تكون الكاميرا في هذا الشأن متحرّكة فتستمر اللقطة لتحتل، ربما كل
المشهد، أو منتقلة فإذا بها يتم نقلها من أمام الرجل إلى خلفه لنرى لقطة
ثانية وهو يبتعد عن الكاميرا .
الثالث هو بالطبع المشهد وهو المؤلف إما من لقطة طويلة تحتوي كل ما
يريد المشهد احتواءه، أو من عدّة لقطات تؤلف المشهد بالكامل .
ثم هناك “الفصل” وهو عدّة مشاهد تؤلّف جزءاً مختلفاً للفيلم عن الجزء
السابق أو اللاحق . في فيلم مصطفى العقّاد “الرسالة” فإن غزوة بدر بمشاهدها
الكثيرة هي فصل من الفيلم . وهذا الفصل ينتمي الى التقسيم الفني والتقني
أكثر من انتمائه الى تقسيم أدبي أو نصّي .
ما علينا الآن إلا أن نتخيّل كم كان الانتقال من اللقطة إلى اللقطتين
مثيراً للقائمين به كما للمشاهدين . لكن مهما بدا الأمر بسيطاً وبدهياً
اليوم، إلا أنه كان الخطوة الأولى نحو الفيلم الأكبر .
م .ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
الخليج الإماراتية في
13/12/2009 |