يبدأ فيلم اللبنانية ديما الحر «كل يوم عيد»، المشارك في مسابقة
المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة، من النفق ومن ثم البحر وصولاً إلى
سهول
وجبال ووديان لا تفضي إلا إلى الضياع، لا بل إن كلمة ضياع
ستكون الكلمة المفتاح
للفيلم، بما يطال الوطن والنساء، والإنسان باعتباره ضائعاً أبدياً، ونحن
نشاهد
فيلماً محتكماً إلى قدر كبير من التجريب والترميز.
النفق الذي يبدأ به
الفيلم في لقطة طويلة يرينا رجلاً وامرأة يركضان باتجاهنا، ننتظرهما حتى
يصلا،
والنفق طويل، المرأة بثوب زفافها والرجل متهندم كعريس، كما لو أنهما هاربان
للتو من
عرسيهما، يسبقها العريس ويختفي وتبقى العروس تركض وحيدة، ومن ثم يمتلئ
النفق بالبشر
يحملون صور من فقدوا، كما لو أنه نفق أكيرا كوروساوا في
«أحلام»، وذاك القائد أمام
نفق يدخله جنوده الذين قتلوا.
إنها امرأة اعتقل زوجها ليلة زفافها، ولننتقل
إلى امرأة ثانية تحادث زوجها في هاتف عمومي يقع في محطة
حافلات، ونفهم بأنها مثل
الأولى في طريقها إلى سجن الرجال، لكنها، أي المرأة الثانية، ذاهبة لإيصال
مسدس
زوجها الذي يعمل حارساً في ذلك السجن، كما أن امرأة ثالثة تضاف إليهما تكون
في
طريقها لتوقيع ورقة طلاقها من زوجها المحكوم بالسجن المؤبد.
يقتل سائق
الحافلة برصاصة في رأسه، تتفرق النساء اللائي كن في الحافلة، يفترقن ونمضي
مع
النساء الثلاث، وهنا يمكن لهن أن يستقللن سيارة مليئة بالدجاج، ويكتشفن أن
سائق تلك
السيارة رجل استخبارات، كما أن المسدس صالح للاستخدام في مواجهة ذئب، وهناك
بشر
يهجرون ويهربون من قتل يلاحقهم.
الأمر أشبه بالحلم وبما يقترب من الكابوس،
والمصير الوحيد الذي يطال الجميع هو الخسارة، لقد قتل السائق
وحل الضياع، الرجل في
السجن ومن بقي مهجّر أو في الاستخبارات.
فيلم ديما الحر ملاحقة للضياع،
ويمكن له أن يحقق تحالفاً بين العبث والرمز، عبث المضي في طريق
يفضي إلى لامكان،
ورمزية تقود إلى وطن ضائع.
من لبنان إلى مصر ومع ضياع من نوع آخر يجده
عبدالرحيم (فتحي عبدالوهاب) عند اصطياده من نهر النيل عصفوراً
بدل السمكة، بحيث
يمضي يحمل صنارته عالياً والعصفور يتخبط أعلاها، وذلك في فيلم «عصافير
النيل»
الخارج من رواية إبراهيم أصلان إلى الشاشة
الكبيرة حاملاً توقيع مخرج مصري مهم هو
مجدي أحمد علي، وليكون هذا الفيلم الذي لم يعرض إلا عرضاً
واحداً في الدورة الأخيرة
من مهرجان القاهرة السينمائي حاضراً في مهرجان دبي هذا العام وضمن الأفلام
المشاركة
في مسابقة «المهر العربي» للأفلام الروائية الطويلة.
لا يمهلنا «عصافير
النيل» وهو يكشف عن شخصياته، التي ستكون حاضرة بقوة، تجتمع على خصال المصري
الطيب،
وسيكون للرواية حضورها الطاغي في الفيلم، ولعل الشخصيات ستكون متأتية منها،
فسرعان
ما ينسج المشاهد علاقة خاصة معها، إنها مكتوبة لتكون من لحم
ودم، ومع تجسيدها
سينمائياً يمسي الإحساس مضاعفاً، ولعل هذا الحضور الطاغي سيبارك ويلعن
الفيلم في
الوقت نفسه.
عبدالرحيم في المستشفى يقع على حب حياته (عبير صبري) التي تكون
أيضاً نزيلة فيه، إنها المرأة الأولى التي ذاق معها طعم الحب، ولتتبخر من
حياته وهو
يعيش معها تناقضاً صارخاً، لا لشيء إلا لأنها امرأة حرة لا
تبالي بما يقوله من
حولها، ولانحيازها الكامل لحبه وتنعمها بالحياة والفرح، الأمر الذي يصعب
على
عبدالرحيم فهمه هو القادم من القرية.
وعليه نمضي في «فلاش باك» طويل ينقطع
مرتين أو ثلاثاً بالعودة إلى المستشفى، ونحن نتعرف إلى عالم
عبدالرحيم الذي يوظف في
مصلحة البريد، ويمضي حياته بالتنقل من امرأة إلى أخرى لدرجة يفصل فيها من
عمله بسبب
العثور عليه صباحاً نائماً مع امرأة في مصعد العمل.
يلهث عبدالرحيم خلف
لذاته، ويبقى على ما هو عليه من عفوية وطيبة، دون أن يفارق اخته (دلال
عبدالعزيز)
التي تشكل نقطة العودة الأبدية، ومعها
زوجها الطيب والشهم الـ«سي البهي»، محمود
الجندي، ولكل منهما حياته ومعاناته، الأخت تخاف العتمة وتسأل
زوجها أن يمد لها
ضوءاً في قبرها ولو لمدة أسبوع، لكن الزوج يموت قبلها بعد أن يمضي آخر سنين
حياته
في كتابة الرسائل إلى المسؤولين بما فيهم رئيس الجمهورية الذي يخاطبه بأنه
خدم
الثورة بعدم تبليغه عن مراسلات الضباط الأحرار التي كان يلاحظ
تواترها وعناوينها،
وكل ذلك لتصحيح خطأ تقاعده المبكر وتقليل مرتبه.
تلك ملامح أقل من قليلة من
الفيلم المحتشد بجماليات معروفة عن مجدي أحمد علي، واستثمار
كبير في السيناريو الذي
كتبه المخرج لرواية أصلان، لكن هناك مناطق من الفيلم أساءت إليه، تزاحمت
الأجيال
والشخصيات بشكل كبير، دون أن تنسينا مســاحات كثيرة كانت موهوبة للجمال،
وللسرد
المتناغم مع ما يضع أمامنا «حدوتة مصرية» بامتياز.
ينتهي الفيلم وعبد الرحيم
يهــــدي حبيبته في المستشفى «باروكة» لتضعها على رأسها بدل
شعرها المتـــساقط،
بينما يكون ابن اخــته يركض، هو اليساري المطارد من الإسلاميـــين
والحكومة، يركض
ولا يتوقف ومشــاهد من الــقاهرة تلاحقه، وبالوقت نفسه تكون أم عبدالرحيم
تائهة في
الشوارع وهي تسأل عن قريـتها التـــي لا تعرف اسمها، نهاية
مفــــتوحة لها أن تقول
الكثير، وحده عبدالرحيم يستعيد ســـعادته وإن كانت متأخرة، بينما يظلل
الضياع
الآخرين بعد أن مات من مات.
الإمارات اليوم في
13/12/2009
البشر بعيداً عن مؤشرات
البورصة والأسهم
«دار
الحي».. تناغم أحلام وخيبات
زياد عبدالله - دبي
يمرّ اسم دبي عابراً في فيلم هوليوودي، ويمكن لها في أفلام كثيرة أن
تكون موقع تصوير نشهد فيه أحداثاً عابرة، سرعان ما تنتقل إلى مكان آخر،
لكن، مع
عروض الدورة السادسة من مهرجان دبي السينمائي الدولي، يأتي
فيلم الإماراتي علي
مصطفى «دار الحي» الذي افتتح أمس عروض برنامج «ليالٍ عربية» لنكون أمام أول
فيلم
إماراتي عن مدينة تحتمل الكثير من الفن الخاص الذي يأتي من خصوصيتها هي
بالذات،
ونحن نتحدث هنا عن 200 جنسية تعيش وتحلم وتحزن ضمن حدودها.
فيلم مصطفى محمّل
تماماً بالعيش المختلط، بنقاط الاشتباك بين الجنسيات، وعلى تناغم مع
الأحلام
والخيبات. إنه يوثق نمط العيش الذي تمليه هذه المدينة «الكوسموبوليتانية»،
ويأتي
بثلاث لغات، لنا أن نسمعها تتردد يومياً في دبي، وهي العربية
والانجليزية والهندية،
إنه فيلم مأخوذ بمدينته، وينسج حكايته وفق إملاءاتها وواقعها.
ويأتي بناء
الفيلم الدرامي من خلال ثلاثة خطوط رئيسة، تبدو أول الأمر أنها بعيدة عن
بعضها ،
إلا أنها تتشابك في النهاية، مازجة المصائر والشخصيات والجنسيات كما هي
الحياة في
دبي.
فيصل شاب إماراتي ضائع يعيش الترف والفراغ معا، ومعه صديقه الذي يتكشف
دائماً عن شخصية مستعدة للاستفزاز في أية لحظة، ومعها تلك الطيبة العذبة.
يعيشان
الحياة، لا لشيء إلا لتزجية الوقت، بينما يمضي والد فيصل طوال الفيلم وهو
يوبّخه
واجداً فيه مثالاً للفشل، كونه، أي الأب، يعيش النعيم الذي وصل
إليه بعد قصة كفاح
طويلة.
إلى جانب الحياة التي يعيشها فيصل، نمضي مع سائق تاكسي هندي يشبه
بيتر باتيل، الأمر الذي يقوده إلى العمل في ناد ليلي، لا لشيء إلا لأنه
يشبه بيتل،
والنوم بينما يقود التاكسي. سيقل السائق نتالي مضيفة الطيران
الأوروبية، والمرأة
الرقيقة العاشقة للباليه التي سرعان ما تقع في غرام غاي المدير الإبداعي في
شركة
إعلانات.
في البداية، سيبدو كل شيء مشرقاً من دون أن يغيب الترقب، فيصل
وصديقه ونتالي يعيشون الترف الذي تتيحه دبي، سائق التاكسي غارق في أحلامه
البوليوودية. ومع اقترابنا إلى النهاية، يمسي الفيلم سوداوياً
وانقلابياً من خلال
حادث سير يقع لفيصل وصديقه ولسائق التاكسي الذي يكون في طريقه لإجراء
اختبار خاص
بالتمثيل والغناء، إضافة لنتالي التي تكون في طريقها لمغادرة دبي، بينما
يفقد فيصل
صديقه الذي يكون منقذه من موت قد يطاله.
سيضيئ هذا الانقلاب ما حلّ بنتالي
على يد غاي الذي يخونها ويهددها بإجهاض الجنين الذي تحمله منه،
مستعيناً بما له أن
يكون سلطة متأتية من جنسيته الانجليزية ربما، بينما يتشوه وجه سائق التاكسي
فيفقد
ملكة شبهه بالنجم البوليوودي.
يراهن علي مصطفى على الواقع، وعلى شيء من
تقديم توثيق جمالي للعيش من دبي التي لا تشكل في النهاية وجهة
سياحية أو اقتصادية
فقط، بل مكاناً للعيش يشهد يومياً آلاف الحكايا والمصائر. إنه الفن من عليه
أن يقدم
رواية موازية تتخطى أسعار البورصة ومؤشرات الأسهم وأسعار العملات والصفقات
التجارية، إنها دبي للحياة، والتي تحتمل الأسود والأبيض،
الأحلام والكوابيس، والحب
والبغض، وكل أشكال المشاعر الإنسانية وبكل اللغات.
الإمارات اليوم في
12/12/2009 |