تستطيع أن تعتبر أن عنوان الدورة الأخيرة لمهرجان «دبي» كان هو
«السينما الفلسطينية».. تظاهرة خاصة متنوعة ومفعمة بالأفلام الروائية
والتسجيلية يتصدرها بيت شعر لمحمود درويش: «على هذه الأرض ما يستحق
الحياة»، وقبل ذلك في الافتتاح نستمع إلى صوت الشاعر الكبير الفلسطيني
الراحل «محمود درويش» يحفر في مشاعرنا بأدائه إحساسا جارفا بتلك الروح التي
لا تغيب وهو يردد أيضا مع أي عرض لفيلم جديد بيت الشعر نفسه.. ثم تظاهرة
رئيسية باسم «الجسر الثقافي» تفتتح أيضا بفيلم فلسطيني عن مقاومة قرية
فلسطينية اسمها «بُدرس» أصر أهلها على النضال ضد بناء الجدار العازل على
أراضيهم! هذا الحضور الفلسطيني أسفر أيضا عن حضور ملفت عند إعلان الجوائز
حيث حصل المخرج الفلسطيني الكبير رائد السينما الفلسطينية الحديثة «ميشيل
خليفي» على جائزة أفضل فيلم عربي من خلال لجنة تحكيم جوائز «المهر العربي»
التي رأسها المخرج الجزائري الكبير أحمد راشدي. جاء ميشيل بفيلمه إلى «دبي»
كأول عرض عالمي للنسخة. والفيلم يحاول أن يكثف 61 عاما، هي عمر القضية
الفلسطينية، في يوم واحد من خلال المخرج ميشيل خليفي الذي وضع كل أفكاره
الخاصة والعامة في هذا اليوم الذي عاشته شخصية بطل الفيلم الذي تجد فيه
أيضا ملامح من ميشيل خليفي الإنسان في تردده وبحثه الدائم عن هويته. اختار
ميشيل اسما حركيا هو حرف واحد فقط «م» اسما للشخصية المحورية في بداية تشير
إلى المجهول مثل حرف «X» لا ندري يقينا أي اسم محدد فهو يتجاوز الأسماء، إنه المخرج «ميم»
العائد من أوروبا إلى رام الله لتصوير فيلم يوثق نكبة 48 معه الكاميرا التي
هي الذاكرة المرئية لكل أحداث فلسطين التي ترفض أيضا أن تستسلم لكل عوامل
التصحر والتعرية التي تريد أن تمحو الحقيقة التاريخية، وهي أن فلسطين عربية
بينما إسرائيل تملك السلاح الذي يعني بالنسبة لها قوة الجغرافيا، التي
تعتقد أنه من خلال السلاح وفرض الأمر الواقع يصبح من حق إسرائيل أن تحتل
الأرض.. كل العوامل تبدو في هذا اليوم متناحرة.. العودة إلى رام الله تبدو
مستحيلة، وهذه المرة لا يأتي العدوان من إسرائيل، ولكن من الداخل أيضا في
معركة ثأرية لم يكن طرفا فيها، حيث إن أحد أقاربه قتل رجلا من الناصرة»
وأصبح دمه مطلوبا هو أيضا. وعلى الرغم من ذلك فهو يقرر أن يعود.. المخرج
أراد أن يضع دائما في الفيلم عدوانا خارجيا عاما، وهو إسرائيل، بكل ما
تمارسه من تعسف ضد كل ما هو فلسطيني.. ثم هذا الاستنزاف الفلسطيني -
الفلسطيني لأن بطل الفيلم أحد المطلوبين للثأر من فلسطيني آخر.. ونأتي إلى
الحالة التالية وهي بطل الفيلم الذي يستعيد حياته بكل نزواتها وأخطائها
التي ارتكبها على المستوى الشخصي في علاقته مع المرأة في حياته وكيف كانت
الخيانة جزءا من بنائه النفسي!! «الزنديق» يبدو اسما مباشرا في مفهومه، فهو
الرافض للأديان، وبطل الفيلم في جانب منه كذلك، فهو متشكك، ولكننا نكتشف
بعد ذلك أن ما يعلنه في أكثر من جملة حوار لا يعبر بالضرورة عن يقين بداخله
لإنكار الذات الإلهية.. السيناريو مكتوب بدرجة حرفية عالية وأيضا بحميمية
ملحوظة، فلا تعبر فقط التفاصيل التي استمدها الفيلم من حياة بطل الفيلم، بل
وأيضا تلك التي تخيل حدوثها، سوى عن إحساس خاص يخرج كدفقة واحدة، وفي
العادة لا تحتفظ الذاكرة الشخصية أو الإبداعية بالأحداث طبقا للتسلسل
المباشر، ولكن تبدأ الأحداث وبها قدر من التشويش الظاهري، إلا أنه سرعان ما
يسفر بعد ذلك عن اتساق كامن، وهكذا تأتي اللقطات الأولى بامرأة تسير ومعها
شنطة السفر وترفض أن تعود إلى السيارة التي يقودها محمد بكري الذي يؤدي دور
«ميم» ليعبر السيناريو الزمن 61 عاما هي عمر النكبة يصورها من خلال ذاكرة
من عاشوها وفي هذا القيد الزمني حيث إن أحداث الفيلم لا تتجاوز 24 ساعة.
نستطيع أن نلمح في الفيلم بناء «سينما الطريق» (Road
movie) حيث يتيح هذا القالب لصانع الفيلم أن ينتقل من حالة إلى أخرى ويدخل
شخصيات إلى مجال الدراما ويخرج أخرى، خاصة أن السيارة لم تعد فقط وسيلة
للتحرك، ولكن صارت في بعض الأحداث هي مكان الإقامة.. الإضاءة في هذا الفيلم
والمؤثرات الصوتية لا تضع فقط دلالات على تغير الزمن، لكنها أيضا تعبر عن
الحالة النفسية ما بين الخوف والهلع والمقاومة والتحدي.. المخرج لا يحيل
الحالة الاجتماعية للبطل إلى خط منفصل مواز لحال فلسطين، ولكنه ينسج تفاصيل
دقيقة هنا وهناك ما بين الخاص والعام، ونرى كل هذه الحكايات لتبدو في نهاية
الأمر معبرة عن حالة وجدانية واحدة.. محمد بكري يقدم دورا محوريا يحتاج إلى
ممثل له هذه الموهبة، حيث يبطن مشاعر أكثر مما يعلنها، يخفي العديد من
الكذبات العاطفية في حياته ويعلن تسامحا مع نفسه في لحظة، ثم احتجاجا ولوما
على تلك الخيبات العاطفية والشخصية والمهنية التي مارسها.. «الزنديق» نفسه
ليس ملحدا بالمعنى الحرفي على الرغم من إعلانه ذلك في حوار مباشر بينه وبين
صاحب أحد الفنادق رفض أن يسمح له بالمبيت في الفندق.. البطل يبحث عن نفسه
كإنسان يريد أن يحمي الجسد من عدوان الاغتيال، وأيضا يريد أن يستقر عاطفيا
على مرفأ، وأيضا يبحث عن الأمان المفقود في الأرض التي احتلتها إسرائيل..
ولا يدعو الفيلم للمقاومة المسلحة ولا للاستشهاد لاستعادة الأرض، لكنه لا
يحمل في الوقت نفسه أي مقومات للاستسلام، إنه يعبر عن قناعة المخرج نفسه
بالمقاومة والحفاظ على الحياة، كما أنه لا يكتفي بمواجهة الاحتلال ورفضه،
ولكنه يدلي أيضا بدلوه في الشأن الفلسطيني، وذلك عندما يشير إلى أن أحد
الفلسطينيين هو رهن اعتقال من حماس وليس السلطات الإسرائيلية.. الفيلم
تتجسد فيه ملامح ميشيل خليفي وهو يحمل بداخله هذا الحضور الشخصي في دور بطل
الفيلم المخرج السينمائي، وكأنك ترى أيضا وجها لميشيل خليفي، ويأتي هذا
الفيلم استكمالا لمسيرته في أفلام «الذاكرة الخصبة»، و«عرس الجليل»،
و«اللآلئ الثلاث». دائما لمشيل خليفي الإنسان حضور طاغ من خلال شخصياته
الدرامية.. وتبقى هوية الفيلم التي يحاول البعض، ربما بحسن نية، أن ينفي
جنسيته الفلسطينية بالنظر إلى الإنتاج غير الفلسطيني، ولكن ماذا يفعل مشيل
خليفي؟ فهو لم يحصل على تمويل من إسرائيل، والجهة العربية التي ساهمت في
إنتاجه هي دولة الإمارات العربية المتحدة بالإضافة إلى المملكة المتحدة..
الفيلم إذن ينطبق عليه أكاديميا الصفة العربية، لأن الإنتاج شاركت فيه دولة
عربية وعلى الرغم من ذلك، فإننا لا نعتبره فيلما إماراتيا، ولكن فلسطيني،
لأن لفلسطين خصوصية ينبغي أن تراعى عندما ننسب الفيلم إلى هوية مخرجه، فإذا
كانت إسرائيل قد اغتصبت الأرض فإن انتماء المخرج وتراثه وآراءه تصبح هي
الجنسية.. فلسطين تسكنه في الفكر والتوجه.. وهي قضية تحتاج إلى مقال آخر
لنقرأ فيه معا هموم المخرج الفلسطيني سواء أقام في غزة أو رام الله أو
الناصرة.. سواء كان معه جواز سفر إسرائيلي أو بلجيكي أو فرنسي أو سوري أو
مصري فهذه رؤية أخرى.
هذا العام يبدو في المهرجانات العربية هو عام السينما الفلسطينية؛ في
مهرجان «أبوظبي» قبل نحو شهرين حصل إيليا سليمان على جائزة أفضل فيلم عربي
عن «الزمن المتبقي» ثم في مهرجان «القاهرة» حصلت شيرين دعبس على جائزة أفضل
فيلم عربي «أميركا» وقبل أن ينتهي العام يحصل مشيل خليفي على جائزة أفضل
فيلم عربي في «دبي».. ويظل سلاح السينما والمقاومة هو الهوية التي تدافع
بقوة وجرأة وإبداع عن الأرض وكأنهم يرددون مع محمود درويش: «على هذه الأرض
ما يستحق الحياة»!!
الشرق الأوسط في
25/12/2009 |