كان فيلم «تسعة» هو فيلم افتتاح مهرجان «دبي» السينمائي الدولي في
دورته السادسة ثم انطلق من إمارة «دبي» ليعرض في عدد من الدول العربية
مواكبا لعرضه عالميا. مأزق يعرفه كل من شاهد فيلما قديما يعاد تقديمه مرة
أخرى، خاصة لو أن هذا الفيلم - أقصد بالطبع القديم - ظل حاضرا بنفس السخونة
والوهج والألق، بعد أن حقق بداخلك هذا الحضور الذي لا تمحوه الأيام..
المأزق هو أنك شئت أم أبيت فإن المقارنة تفرض نفسها عليك.. أحدثكم عن فيلم
«½8» للمخرج الإيطالي الشهير «فدريكو فلليني»، هذا الفيلم الذي ترى فيه
مزيجا بين الخاص والعام في حياة المخرج وقدم قبل نحو نصف قرن.. نرى إيطاليا
بكل تفاصيلها وتقاليدها ممزوجة بحياة البطل الذي يتقمص دور المخرج عندما
يبحث عن سيناريو لفيلمه الجديد.. حالة انسجام بين المكان والزمان وأيضا
الحالة النفسية لبطل الفيلم. كان فيلم «½8» بعنوانه الغريب يطرح من المؤكد
سؤال لماذا «½8»؟ ما المقصود وراء هذا الرقم؟ والإجابة أن «فلليني» اختار
اسما بلا معنى، لا علاقة مباشرة تجمعه بالفيلم؛ حيث إن هذا كان هو رقم
فيلمه (½8)، لأنه سبق وأن أخرج سبعة أفلام وشارك أحد المخرجين في إخراج
فيلم فصار فيلمه الجديد يحمل هذا الترتيب الرقمي.. بعد قرابة نصف قرن يعيد
المخرج روب مارشال نفس الحكاية باسم «9» يشير الرقم، هذه المرة إلى عمر
الصبي الذي صار رجلا تجاوز الأربعين، حيث إن الفيلم تنتقل أحداثه التاريخية
برؤية موسيقية غنائية استعراضية خلال تلك السنوات، ولا أتصور أن رقم «9»
عنوان الفيلم مجرد استناد إلى عمر الصبي بطل الفيلم، ولكنه أيضا يوحي بقدر
ما من الترديد للأصل الإيطالي، وكأن رقم «9» يأتي تاليا لرقم «½8»،
بالإضافة إلى أن الشخصيات الرئيسية في الفيلم «9».. الفيلم الإيطالي حاصل
على العديد من الجوائز منها أفضل فيلم أجنبي في مسابقة «الأوسكار» وأفضل
مخرج ونحو 6 جوائز متنوعة أخرى بالإضافة إلى أنه - وهذا هو الأهم - صار
يشكل جزءا حميما ليس فقط في تاريخ المخرج أو تاريخ السينما الإيطالية بل في
السينما العالمية، ربما لكل هذه الأسباب حرص المخرج روب مارشال على أن يقدم
فيلمه «9».. حشد ضخم من كبار النجمات مع بطل الفيلم دانييل داي لويس منهم
ماريون كوتيلارد، بينلوبي كروز، جودي دنش، نيكول كيدمان، صوفيا لورين، كيت
هادسون والمغنية فيرجي.
بطل الفيلم يبدأ في الإعداد لفيلمه الجديد الذي لم يحدد قصته ولا
السيناريو ولا حتى يعرف خطوطه، فقط لديه شحنة لتقديم فيلم.. لم يمسك بعد
بالسيناريو، ما يعلمه المخرج أن الفيلم يتناول علاقته مع البلد ومع أسرته
وإحباطاته ونزواته. المخرج يمر بمأزق مع زوجته «ماريون كورتيلارد» فهو
يحبها ولكن أيضا لا يستطيع مقاومة نزواته.. تشغل الأم التي أدت دورها
الفنانة الإيطالية الكبيرة صوفيا لورين دورا محوريا في حياته، والأم في
الثقافة الإيطالية لها هيمنتها على الرجل حتى بعد زواجه. نرى في الفيلم
علاقته مع رجل دين يقابله في الكنيسة يسأله هل هو كاثوليكي؟ يجيبه: نعم.
ومتدين؟ يرد عليه: نعم. ولكن ليس بالقدر الذي يرجوه رجل الدين.. نكتشف أن
رجل الدين معجب بشارلي شابلن، وهو أيضا معجب ببطلة فيلمه القادم نيكول
كيدمان، ويريد صورة عليها توقيعها وفي مشهد كوميدي يأخذ دانييل صورة منها
ويكتب توقيعها ثم يضع أحمر شفاه نسائي على شفاهه ويقبل الصورة وكأنها قبلة
من نيكول كيدمان، ويهديها لرجل الدين وكأنه يؤكد أن رجل الدين لديه أيضا
نفس ميوله ولكنها مكبوتة. في الفيلم تظل علاقته مع الصحافة متوترة، في
المؤتمر الصحافي يقولون له أفلامك الأخيرة ضعيفة بل هي ليست أفلاما، يصمت
بابتسامة تخفي موافقة ضمنية.. أيضا يقدم المخرج روب مارشال صحافيي «الباباراتزي»
الذين يطاردون النجوم في حياتهم الخاصة يريدون أن يلتقطوا أي فضيحة ينسجون
حولها قصصا ولهذا يطاردونه مع بطلة فيلمه القادم نيكول كيدمان.. من المشاهد
الرائعة وهو يمزج بين الحقيقة والتاريخ في عربته نرى أمه صوفيا لورين،
يناقشها في حياتها وفي رحيلها وتنصحه وتنهره وتعاتبه وتذكره بأنه لا يزورها
كثيرا في قبرها كما وعدها بذلك، يتعمد المخرج أن يقدم هذا اللقاء بين
المخرج وأمه ملونا لأنه ليس استرجاعا للزمن بقدر ما يتناول عن طريق الخيال
لمحة من هذا الزمن.. يلجأ المخرج إلى اللعب بالألوان للدلالة على الزمن فهو
يقدم الأبيض والأسود عندما يعود للماضي في الثلاثينات، حيث نراه وهو طفل في
التاسعة من عمره وهو يتعرف على كل شيء.. تكتشف أمه أنه ذهب إلى الشاطئ
ليلتقي لأول مرة في حياته بفتاة، ويتلقى عقابا قاسيا من رجل الدين، تتابعه
أمه وهو يتلقى بقسوة ضربات القسيس يظل بداخله هذا المشهد وكأنه صورة ثابتة
لا تغادر مشاعره.. إنه الإنسان الحيواني في مشاعره ولهذا لا يستطيع أن
يقاوم إغراء عشيقته بينلوبي كروز في نفس اللحظة التي لا يريد فيها أن يفقد
حبيبته وزوجته ماريون كوتيلارد التي تركت كل شيء حتى الفن من أجل أن تتفرغ
له. وعند سؤاله لماذا لا يعمل مع زوجته؟ أجاب بأنه لا يقيم علاقات مع
بطلاته ولهذا ولأنه يحب زوجته ولا يستغني عنها وهي كذلك فإنها ترفض أن تصبح
هي بطلة أفلامه. بالطبع هي إجابة لا تعبر مطلقا عن الحقيقة لأنه دائما ما
يقيم علاقات مع بطلات أفلامه.. من المشاهد المؤثرة التي لعبت فيها المشاعر
دور البطولة؛ حيث التعبير بالنظرة، هذا المشهد الذي عندما كان بطل الفيلم
يختبر بطلاته وتعجبه واحدة فيتقدم من رأسها ويطلق العنان لشعرها لينسدل على
وجهها ويقول لها شكرا، فتقول له على ماذا؟ يقول لها: لأنني أرى كل هذا
الجمال.
تكتشف زوجته أنه لا يوجد أي شيء خاص يجمعهما ولهذا تهرب منه وتعود
للفن مرة أخرى بينما هو يطلق لحيته حتى يتهرب من الناس والمعجبين بل ومن
الفن. صار لا يدري أين هي الفكرة التي يلتقطها لينسج فيلمه.. ثم يعود إلى
الاستوديو لنرى مرة أخرى عالمه الخاص والعام.. الطفل الذي هو بطل الفيلم ذو
التاسعة يصعد معه مرة أخرى على رافعة الكرين التي تقدم لقطات من أعلى،
بانوراما للحياة مرة أخرى، ونتابع نفس الشخصيات التي عايشناها طوال أحداث
الفيلم في مشهد يبدو وكأنه وداع بعد أن شاهدنا مشهد البداية وهو يقدم فيه
كل شخصياته التي سوف نلتقي بهم. بطل الفيلم كان نقطة ضعف رئيسية فهو غير
قادر على الغناء، ولا يمتلك مقومات الممثل الاستعراضي رغم أن دانييل داني
لويس واحد من أفضل النجوم في فن الأداء؛ يكفي أن نذكر له فيلمه الرائع
«قدمي اليسرى» ولكن بالطبع دنيا الاستعراض تحتاج إلى مقومات أخرى وهو غير
مؤهل لها.. النجمات اللائي تناثرن في الفيلم كحبات اللؤلؤ كن دائما مضيئات
خاصة القديرة جودي دينش في دور مصممة الأزياء وأقرب أصدقاء المخرج،
وبينلوبي كروز في دور الحبيبة، وماريون كوتيلارد في دور الزوجة.. ولكن يظل
أن سحر «½8» لا يمكن مقاومته.. وهكذا ظلم فيلم «9» نفسه.. رغم أن روب
مارشال واحد من أهم المخرجين القادرين على تقديم حالة استعراضية غنائية
وفيلمه «شيكاغو» الاستعراضي الموسيقي حصد «الأوسكار» قبل نحو 6 سنوات يؤكد
ذلك، ولكنه دخل في معركة خاسرة مع فدريكو فيلليني.
t.elshinnawi@asharqalawsat.com
الشرق الأوسط في
29/01/2010 |