اصطدمت عملية النقد السينمائي بعوائق كثيرة منذ بدايته . بدا كما لو كان
دخيلاً
للبعض، غير مهم، لا سبب لوجوده أساساً، ولا يستطيع أن يخاطب
جمهور السينما كما
يخاطب المسرح والأدب جمهوريهما. لكن كلا هذين الوسيطين الإبداعيين يرتكزان
على
ثلاثة مراحل تماماً كالفيلم: مرحلة "خلق" المادة المراد تقديمها. مرحلة صنع
المادّة
ومرحلة تقديم المادّة.
الى ذلك، فإن هناك عناصر عدّة تجعل هذه المادة "المخلوقة"
ثم "المصنوعة" ثم "المُنتجة" شبيهة بتلك التي في العمل السينمائي: الأديب
والموسيقار والمسرحي يكتبون نصوصهم أوّلاً، وهناك مخرج يتولّى إعداد وترتيب
وتحويل
هذه النصوص الى بصريات او سمعيات. في المسرح هناك عمليات انتاجية شبيهة
بتلك التي
في السينما وهناك تصاميم فنية ومناظر وديكور وهناك بالطبع
العنصر البارز المعروف
بـ: التمثيل.
لمَ إذاً، لا يستطيع الفن السينمائي مخاطبة الجمهور كما يخاطبه
المسرح والأدب؟
في أيامها الأولى (أواخر العقد الأخير من القرن الثامن عشر
والعقد الأول من القرن العشرين) لم تجتذب السينما إليها جمهور المسرح او
الموسيقا
وصنوف الآداب والفنون الأخرى، بل -غالباً- اولئك الذين قلّما يذهبون الى
المسرح او
الى المعارض والحفلات الموسيقية. هذا بحد ذاته وضع خطّاً
فاصلاً بين هذا الإنتاج
البصري الجديد وبين الفنون التي سبقته، وهذا الخط الفاصل خلق مساحة عمودية
جعلت من
الفنون الأخرى تبدو كما لو كانت مشرفة من مكان علوي على عمل لا يختلف
كثيراً عن
لعبة الثلاث ورقات.
ولم تكن هناك، حينها، بوادر مشجّعة على أن أحداً من صانعي
الأفلام يعارض هذا الاعتبار. الفرنسي جورج ميلييس والأسباني سيغوندو دل
كومور كانا
غارقين في صنع الفرجة الساحرة: أشخاص يدخلون صناديق مغلقة يرفعها عن الأرض
ممثلون
فتبدو خالية. عظام بشرية تطير في الفضاء. علي بابا يخرج من
السلّة ويرمي شيئاً في
الأرض فيتحوّل الى امرأة حسناء، وهكذا. أحد الذين تقدّموا بفن السينما الى
الأمام،
وهو الفرنسي أوغوست لوميير بشّر بأنه "لا مستقبل لهذه الصناعة"
.
الذين هبّوا
لمنح السينما مكانتها كانوا منظّرين من أمثال ريكوتيو كانودو الذي وضع
نظريّته في
كتاب بعنوان "مولد الفن السادس" ومفاده أنه بما أن السينما تتعامل والخيال
وأنها
تختلف بالتالي عن الواقع، فهي إبداع خيالي يجوز اعتباره فنا، لهذا السبب
بعينه.
آخرون تبعوه في هذا الاعتبار بينهم الألماني رودولف أرنها يم والمجري بيلا
بالاش .
لكن هؤلاء لم يكونوا نقّاداً. شغلهم كان على التحليل النظري وليس على
معطيات
العمل السينمائي بحد ذاته ما ساهم في إنجاز خطوة من نوع تحصيل
الحاصل حينما بدأ
كتّاب معيّنون بالكتابة حول ما شاهدوه بالأمس. وهذه الكتابة تطوّرت وبات
لها جذورها
وأساليبها وعلمها وبل صناعتها، قبل عصر الإنترنت والمدوّنات و- للأسف- بعده.
لكن
هذا النمو لم يكن طبيعياً في كل الأحوال. فالتحديات كانت كثيرة واليوم ربما
أكثر،
من أولى هذه التحدّيات أنه كان على النقد السينمائي أن يجد جمهوره. ليس كل
من يقرأ
الكتب يقرأ نقدها قبل او بعد قراءته هو. وليس كل من يشاهد
المسرح يكترث لقراءة نقد
الناقد المسرحي، لم يكون الأمر مختلفاً بالنسبة للسينما؟ الأمر مختلف فقط
من حيث أن
غالبية مشاهدي السينما هي غير غالبية مشاهدي المسرح وقارئي الكتب آنذاك،
ومن يدمن
السينما ولا يكترث كثيراً للفنون الأخرى لا يزال جمهوراً
مختلفاً عن جمهور هذين
الصعيدين. جمهور السينما اعتبر أن فن الصور المتحرّكة هو أكثر ترفيهاً من
أي شيء
آخر تقريباً. ما الذي كان على الناقد أن يقوم به لكي يُغيّر هذا الرأي؟ ما
الذي
سيكتبه من معلومات او نظريات او تحليلات ما سيدفع المشاهد لنفي
اعتبار أن السينما
ملهاة (ودعونا نكون واقعيين، هي بدأت كذلك) لكي يتعلّم منظوراً مغايراً
لها؟.
* * * *
فيلم "الفريق- أ" : يبرأ
نفسه من العراق
لا ينتمي كثيراً التي تلك الحلقات التلفزيونية التي ظهرت في العام 1983
وقاد
بطولتها الراحل جورج بيبارد على الرغم من أنه خط رئيسي : هؤلاء الأبطال
المنتمين
الى وحدة خاصّة متّهمون بجريمة لم يرتكبها أي منهم، ومُلاحقون من قبل وحدة
خاصّة
أخرى في الجيش الأميركي بناءاً على حادث تم تدبيره من قِبل وحدة ثالثة.
بالإضافة
الى هذا العنصر، تم إضافة فريق رابع هذه المرّة من السي آي أيه يريدهم
أحياءاً
والأفضل أمواتاً. وعن ذكاء يدرك صانعوه (ثلاثة كتّاب سيناريو
رئيسيين وسبعة في
الخفاء والمخرج جو كاراناهان) أنه لا جدوى من اللعب على حبل الألغاز ... لم
لا نسم
الأسماء بوضوح ونحدد الأدوار: الفريق الرباعي بريء. الفريق المطارد الأول
مغشوش.
الثاني قاتل محترف والسي آي أيه مذنب
بدوره. إذا كان ذلك يبدو للمشاهد معقّداً
ومتشابكاً، عليه بخارطة طريق من تلك التي يحملها بطل الفيلم
ليام نيسون ليدرس
احتمالات مغامرته التالية.
الدقائق العشر الأولى من الفيلم هي لتقديم هذا الفريق في عملية مكسيكية
(لابد
أن تكون خطرة بالطبع) تنتهي بمطاردة في الأجواء ينجح خلالها الفريق في
استدراج طائرة عدوّة الى المجال الجوي الأميركي قبل قصفها لتأمين الحماية
القانونية. بعد أن يحط أبطال الفيلم (ليام نيسون، برادلي
كوبر، شارلتو كوبلي
والأفرو أميركي كونتون رامباج جاكسون) تنتقل بهم الأحداث بضع سنوات الى
الأمام. ها
هم فوق الأراضي العراقية خلال الحرب الحالية وذلك لعشرين دقيقة لاحقة.
المهمّة التي
تطلب منهم هو استرداد سبائك لطبع دولارات مزيّفة لا يمكن
تفريقها عن تلك الأصلية.
أحد كبار الجنرالات (جيرالد مكراني) يقول للضابط نيسون: "أرجوك أن تقبل
المهمّة"
ويخبره أن أنصار صدّام حسين يديرون عملية السبائك هذه وهم مدججون بالأسلحة
والرغبة
في إيذاء الاقتصاد الأميركي.
العملية التي يخوضها الأربعة منفردين ضد "أنصار
صدّام حسين"، كبيرة ومليئة بالاحتمالات، لكن احتمال أن لا يخرج منها أبطال
الفيلم
سالمين هو الأبعد طبعاً. لكن بعد استرداد المال والسبائك يتم اكتشاف أن
تلاعباً حصل
وتتم مباشرة إلقاء تهمة التلاعب على أولئك الأربعة. محاكمة
عسكرية في الولايات
المتحدة تقرر إرسال كل منهم الى سجن مختلف، لكن ذلك فقط الى حين تدخّل السي
آي أيه
لتدبير عملية تهريب في الوقت الذي تنتبه فيه الكولونيل شاريسا (جسيكا بيل)
بأن هناك
من يسعى لإطلاقهم فتحاول إحباط المحاولة ... تأخرت يا شاريسا
وها هم أبطال الفيلم
الأربعة يطيرون في أجواء ألمانيا بطائرة حديثة. لكن لحظة ... هناك طائرات
عسكرية
أميركية تريد قصف طائرة أبطال الفيلم لإسقاطها .. هل تنجح؟ نعم ستنجح ..
.طائرة
الفريق أ تنفجر لكن ها هم يطيرون بدبّابة تدافع عن نفسها
جيّداً وتتهادى بكل ثقة
في الأجواء العليا. قبل أن تسأل نفسك سؤالا منطقياً حول كيف يمكن لدبّابة
أن تطير
نجدها تهبط في ماء بحرية ألمانية ويخرج منها أبطال الفيلم سالمين بالطبع.
كل المغامرات التي ستتوالى تنتهي بسلامة هؤلاء. الرصاص الذي يواجهونه لا
يصل الي
أجسادهم الا لإحداث خدوش بسيطة. المفارقات تجعلهم دائماً الأسبق الى
الأمام، وحين
تكون هناك احتمالات وخيارات، فإن الاحتمال الناجح هو ذاك الذي
ينص على بقائهم
أحياءاً رغم شراسة العدو.
إذاً، ها هم الأشرار من الجيش والأشرار من السي أي أيه يلاحقون أعضاء
الفريق
أ. من حسن الحظ أن فايس (كوبر) كان يعرف الكابتن تشاريسا
(بيل) قبل بداية الفيلم
بسنوات، وهذه المعرفة كانت عاطفية ما يتيح له أن يحادثها أكثر من مرّة
مذكّراً
إياها بالحب الذي مضى. وهذه الذكرى نافعة لأن قلب الضابطة ذات السلوك
العسكري
الصامت يلين، وأذنيها تبدآن سماع الحقيقة: الفريق " أ" ليس
مذنباً ولا علاقة له
بعملية طبع دولارات مزوّرة، بل هناك من لصق التهمة به ويحاول الآن تصفيته
حتى لا
ينكشف الأمر. هذا ما يعني أن الفاسدين في الفريق العسكري المناوئ مع
الفاسدين من
السي آي أيه متعاونون من دون فتح خط مباشر في البداية، لكن حين
تفشل كل عمليات
التخلّص من أعضاء هذا الفريق يصبح التعاون بين كل الأشرار ضرورة لابد منها
يسبر المخرج غور كل هذه الكتل من الأحداث، بسهولة عرض متجاوزاً كل تلك
الثغرات
الناتجة عن القذائف التي أطلقتها مدافع المنطق. لدى المخرج
فكرة كافية عما يريد
إنجازه وكيف: يريد فيلماً ينتقل سريعاً من وضع الى آخر ومن مشهد قتال الى
مشهد قتال
لاحق، مع تزيين سماء كل ذلك بالانفجارات والمشاهد الكبيرة، وفي ذات الوقت
الإمساك
بالخيط الرئيسي للفيلم حتى لا يتوه هو قبل سواه. أعتقد أنه نجح
في هاتين المهمّتين
وبفضل مونتاج صعب يشمل، فيما يشمل، المحافظة على إيقاع عام وتنفيذ الكثير
من
النقلات السريعة داخل المشهد الواحد. هناك مشهد مثير للضحك وناجح في فكرته
يقع في
النصف الأول من الفيلم. أحد أعضاء الفريق، مردوك (كوبلي الذي
تعرّفنا عليه في فيلم
الخيال العلمي "المقاطعة 9") مسجون في مستشفى مجانين (تصرّفاته غريبة
بالفعل) لكنه
على علم بأن هناك محاولة لاستخراجه منه. يدعو باقي المساجين المصابين
بأعراض نفسية
(ربما
بينهم الكتّاب السبعة الذين انسحبوا من هذا العمل) الى دخول خيمة منصوبة
لعرض
فيلم بالأبعاد الثلاثة. نظارات ملوّنة يتم توزيعها لكن الصورة على الشاشة
(داخل
الشاشة) تبقى غير واضحة. البعد الثالث لا يتحقق. لكن فجأة تدخل
سيارة عسكرية من
الشاشة هي تلك التي جاءت لتهريب مردوك. توقيت كل شيء والفكرة بذاتها لا
تخلو من
السخرية حيال ظاهرة الأبعاد الثلاثة. هذا الفيلم ينجز ببعدين ما يكفي من
التشويق
وخزعبلاته ليست بحاجة الى تجسيم إضافي. هو بطبيعته لا يحتاج
الى أي عمق.
الحرب
العراقية ليست واردة الا من حيث كونها خلفية لمسألة وجود من يحاول تهريب ما
يلزم
لطبع عملة مزوّرة في الخارج. وهي المحاولة التي لا تعد ملكاً
لأنصار صدّام حسين، بل
تبعاً للأميركيين الذين يريدون استخدامها لأنفسهم وتحقيق الثروة من خلالها.
لكن
هناك شخصيات عربية تظهر في المشاهد الأوروبية. طبعاً الطريقة الوحيدة لكي
نفهم أنهم
عرب هو إلباسهم العقال والكوفية (ولو فوق البذلة الغربية). لكن
هناك مفاجأة: أحد
هؤلاء ليس عربياً. هذا ضروري رصده حتى لا نقرأ بعد أيام من أن الفيلم معاد
للعرب.
إنه إذا ما كان معاد لشيء فللأميركيين
أنفسهم، لكن الأميركيون لا يشتكون من ذلك...
لقد اعتادوا علي أفلام تظهرهم أشراراً، طالما أن الأبطال هم أيضاً
أميركيين .
الفصل الأخير من الفيلم الذي تقع أحداثه على رصيف ميناء لوس أنجيليس من
الكبر
بحيث تتساءل كيف لم تسمع بما حدث في الأخبار؟ لقد تم عملياً
هدم الميناء بأسره خلال
معركة تم التخطيط لها بذكاء من قبل الفريق الذي أدرك تماماً ما الذي سيحدث
(قرأ
السيناريو جيداً) لدرجة أن لا مفاجأة ستقيّده من فعل الشيء الصحيح. هذه
الخطّة
تتطلّب رافعات ضخمة وكتل من البضائع القابلة للانفجار ومعرفة
بأين سيقف كل فرد من
أفراد العدو وكيف سيتم التخلّص منهم جميعاً كل في الثانية المخصصة له.
هذه اسئلة
المنطق. أما اسئلة الترفيه فهي من نوع: لماذا علينا أن نأخذ الأمور بجدّية
طالما أن
الفيلم لا يقصد ذلك؟ وهذا السؤال هو المنطق الوحيد في هذا الفيلم.
The End
الجزيرة الوثائقية في
27/06/2010 |