على مدى الأسابيع القليلة المقبلة، ستقوم "المجلة" بنشر مجموعة من
المقالات حول علاقة الأديب المصري نجيب محفوظ الفريدة بالسينما. والمقالات
هي جزء من كتاب "نجيب محفوظ سينمائياً"، الذي أصدره مهرجان أبوظبي
السينمائي، باللغتين الإنكليزية والعربية، احتفالاً بمئوية محفوظ الأولى
التي احتفت بها الدورة الخامسة للمهرجان من خلال برنامج خاص، ضمّ، إلى
الكتاب، عروض استعادية لثمانية أفلام مقتبسة من أعماله أو مبنية على
سناريوات كتبها خصيصاً للسينما، طاولة مستديرة ومعرض لملصقات الأفلام
المأخوذة عن رواياته.
هنا المقالة الثانية بتوقيع الناقد السينمائي المصري كمال رمزي.
فقرة واحدة، وأحيانا جملة قصيرة، عند نجيب محفوظ، تضيء عند الممثل
العالم الداخلي للشخصية التي سيؤديها. تجعل الممثل يتفهم الأبعاد النفسية
للنموذج البشري الذي سيعبر عنه، وليست مصادفة أن يصل الكثير من الفنانين
إلى أفضل مستوياتهم حين تسند لهم أدوار أبطال روايات نجيب محفوظ، سواء
الرئيسية أو الثانوية. صحيح ان كاتبنا الكبير يهتم بالتفاصيل ذات الدلالات
التي تعبر عن واقع اجتماعي وسياسي واقتصادي، سواء على مستوى المجتمع أو
الفرد، ولكن لا يمكن إغفال ما تتسم به بعض عباراته من القدرة على الإمساك
بجوهر الشخصية على نحو يجعلها مفهومة، مهما كان تعقيدها. وهذه العبارات،
التي تجمع بين التوصيف والتحليل، تختصر الكثير من جهد كاتب السيناريو
والمخرج، وتمنح الممثل قدرة على استيعاب الشخصية، وإدراك ظلالها، والوصول
إلى أغوارها. لذا ليست مصادفة أن يتحدث الممثل عن نجيب محفوظ أكثر مما
يتحدث عن كاتب السيناريو والمخرج، وهذا لا يقلل من شأنهما، ولكن يشير بوضوح
إلى تلك الطاقة الكبيرة القادمة في صفحات الروائي، والتي تفوق طاقة كل من
كاتب السيناريو والمخرج، بل تجعل عمل كل منهما ينهض على أساس راسخ من
الفهم. وكل هذا يصب في طاحونة الممثل الذي تجده، غالباً، يتألق في الأفلام
المعتمدة على نجيب محفوظ، على نحو أفضل مما تجده في أعمال أخرى.
دخل نجيب محفوظ عالم السينما من خلال بوابة صلاح أبو سيف، في أواخر
الأربعينيات حين أسند له أبو سيف مشاركته في “المنتقم” (1947) و”مغامرات
عنتر وعبلة” (1948) و”لك يوم يا ظالم” (1951). وبعد عدة عقود، دخلت السينما
عالم نجيب محفوظ، فلأول مرة تقدم إحدى رواياته على الشاشة الفضية، عن طريق
صلاح أبو سيف أيضاً، حين حقق “بداية ونهاية” (1960).
نقدياً، استقبل الفيلم بترحاب، وتوقف المعلقون طويلاً عند الأداء
الجيد لمعظم الممثلين، خاصة سناء جميل، في دور “نفيسة”، وفريد شوقي في دور
“حسن أبو الروس”.
سناء جميل، نجمة المسرح المرموقة، لم يكن لها حظ على شاشة السينما، في
ما قبل “بداية ونهاية”. فخلال ما يقرب من العشر سنوات، منذ ظهرت في دور
هامشي في فيلم متواضع عنوانه “طيش شباب” (1951) لأحمد كامل مرسي، شاركت في
ما يزيد عن العشرين فيلماً، لم تلفت الأنظار. لكن مع بداية “بداية ونهاية”،
تغير الوضع تماماً. كتب فاروق القاضي، في جريدة "المساء" الصادرة في 26
تشرين الأول/أكتوبر 1960: “كانت تمثل بعينيها وشفتيها، بل بكل خلجة من
خلجاتها”.. وبلغة أحمد حمروش، في جريدة الجمهورية بتاريخ 5 تشرين
الثاني/نوفمبر 1960، جاء: "سناء جميل لعبت دورها بإتقان الممثلة التي تفهم
طبيعة الدور، وتستطيع بأدائها أن تصل إلى القلوب...". هكذا كان نقد الممثل
في الستينيات، وبالضرورة، بحكم التطور أصبح أكثر نضجاً وتفصيلاً وتحول
الإنطباع العام إلى نوع من القراءة المتأملة. فبعد أكثر من ثلاثة عقود من
ظهور الفيلم، يكتب الناقد حسن عطية، في الكتاب الذي صدر عنها،
بمناسبة تكريمها في المهرجان القومي 1998
أنها “.. تحب الأخ الأصغر المتطلع- حسنين - وتتعاطف مع الأخ الأوسط
المسالم- حسين- ولا تكره الأخ البلطجي- حسن- وتتداخل في شبكة علاقاتهم، وإن
مالت أكثر إلى أخيها حسنين لأنه يمثل لها الفعل العاجزة هي عن تحقيقه، بحكم
ظروف الواقع الاجتماعية والأخلاقية المحيطة بالبنت المصرية وقتذاك، ولذا
كان لقاؤها معه همساً، ومنحها إياه النقود سراً والتصاقها به داخل الكادر
التصاقا حميماً، وفرحها به وهو قادم بالبذلة الرسمية فرحاً حسياً، وحركتها
الوئيدة على ماكينة الخياطة، وبين جدران البيت المتهالك، بملابسها السوداء،
الكالحة ونظراتها الحائرة والمتنقلة بانفعال بين أفراد أسرتها وماكينة
الخياطة المنكبة عليها، وقرارها الأخير بالموت قذفاً للجسد في مياه النيل
بليل دامس، خلاصاً مزدوجاً لها في شعور بالإثم في خطيئة العهر، وخلاصاً
لأخيها في ورطته باكتشاف سقوط أخته وهو الضابط المتباهى به”(1).
صحيح ان لمسات صلاح أبو سيف واضحة في تحريك بطلته داخل المكان،
واقترابها وابتعادها من بقية الأشخاص، على النحو الذي ذكره حسن عطية. ومن
الإنصاف الاعتراف بقوة الإيحاءات النفسية المرهفة التي ترجع للمصور كمال
كريم، الذي جعل الجدران تنطق بالمعاني، حتى أن مكان ساعة الحائط التي تم
بيعها، يظل مختلفاً في لوته الفاتح عن بقية الجدار. إنه، طوال الفيلم،
وبدرجات متفاوته، يحيط نفيسة بالظلام، حتى أن الكثير من مشاهدها تدور
ليلاً، ولكن إبداع الممثلة هنا هو الأوضح، وهو وإن كان يعبر عن موهبة سناء
جميل، إلا أن الإمساك بالشخصية، يأتي من نجيب محفوظ الذي منح الممثلة مفتاح
بطلة الرواية، بجملة محكمة، حاكمة، يقول فيها إنها تدرك، على نحو مأساوي،
وضعها كفتاة “بلا مال ولا جمال ولا أب”. ست كلمات، سارت سناء جميل على
هديها، امتلأت بها داخلياً، وحددت شكل وطريقة سلوكها، وحركتها، ونظراتها،
وردود أفعالها. إنها لم تضحك من قلبها طوال الفيلم، وحتى حين مارست الجنس
مع ابن البقال، لا يظهر على وجهها أي أثر للنشوة ولو عابرة. وعندما تثور
وتغضب، لا تجد أمامها سوى مرآة، تعكس وجهها، فتبصق عليه وتمسك بعلبة صلبة،
تقذفها لتهشم المرآة، وكأنها تريد تحطيم حقيقتها كفتاة تعيسة “بلا مال ولا
جمال ولا أب”.
في مشهد النهاية، عقب خروجها من قسم الشرطة، حيث قبض عليها بتهمة
الدعارة، تسير خلف شقيقها، حسنين ضابط الجيش، مستسلمة، ذليلة، يكاد وجهها،
في لمسة إبداعية بارعة، أن يشفق عليه أكثر من قلقها على نفسها، وبإيعاز
منه، ولأنها تدرك هوان شأنها، تلقي بجسدها في مياه النيل، من دون تردد.
جدير بالذكر، في ذات الفيلم، أن الممثلين عموماً، وصلوا إلى أفضل
مستوياتهم، خاصة فريد شوقي، الذي أدى دور ابن الأسرة الكبير الفاشل، حسن،
“ابن الشارع”، المهيأ للإجرام، المستعد للانحراف في كل السبل، ولكن نجيب
محفوظ، صاحب الخبرة العميقة بالبشر، يرى في أغوار “حسن” المظلمة، بصيصاً من
نور، يجسده الروائي في عشر كلمات: “كان حب أسرته العاطفة الشريفة الوحيدة
التي يخفق بها قلبه” وبهذه الجملة الموجزة، لم يعد فريد شوقي، في الفيلم،
مجرد بلطجي، أو قواد، أو تاجر مخدرات، فثمة بعد إنساني جعل للشخصية سحرها
الخاص، لا تتجسد فقط في الموقفين المؤثرين بين فريد شوقي وشقيقه الانتهازي
حسنين ضابط الجيش - بأداء عمر الشريف- حيث يمنح أولهما نقوداً للثاني،
كمصاريف لدخول الكلية، ثم، بعد تخرجه، يطالب شقيقه الكبير، بترك العالم
السفلي. تعمد صلاح أبو سيف ألا يجعلهما في مواجهة بعضهما، أو بجانب بعضهما،
فكل منهما يقف في مفترق، عمر الشريف يطالعنا بجانب وجهه الأيمن، وفريد شوقي
في مواجهة الكاميرا، ويتجلى إبداع الممثل في نظرة فريد شوقي التي تدرك ما
تنطوي عليه أعماق شقيقه من عفن، فيضعه في اختبار صعب، يوافق على شرط أن
يخلع بذلته العسكرية، ويبدأان حياة جديدة، وبلا تردد، يرفض عمر الشريف.
هنا، تخلو نظرة فريد شوقي من الغضب والكراهية، فقط درجة ما من الأسى،
ممتزجة بخبرة عميقة بالحياة، فهو يدرك ما الذي سيختاره هذا الشقيق. لكن
الموقف الأهم، وربما الأعمق تأثيرا، فإنه يأتي قرب النهاية. فبعد أن تضيق
بفريد شوقي كل السبل، وتتعقبه الشرطة، ويتربص به خصومه، يلجأ جريحاً مشجوج
الرأس، مرتدياً جلباباً، إلى أسرته، وها هو، على الفراش، ينظر لوالدته
الحانية، كما لو أنه طفل يطلب الحماية.
بعد عامين من “بداية ونهاية” الذي اعتبر من عيون السينما المصرية، عرض
“اللص والكلاب” لكمال الشيخ، الذي رشح شكري سرحان، قبل التنفيذ، كي يجسد
شخصية سعيد مهران. لم يكن شكري سرحان قرأ الرواية من قبل. ذهب إلى المكتبة
واشترى الرواية، وأثناء عودته إلى البيت، طالع صفحاتها الأولى. اتصل بكمال
الشيخ ليخطره، بحماس، للقيام بالدور. وعندما استفسر المخرج عن سر موافقته
السريعة، قبل أن يكمل الرواية، أجابه شكري سرحان بجملة “آن للغضب أن ينفجر
وأن يحرق” جعلت الشخصية، بأغوارها، تتراءى أمامه وأنه أدرك أن بطل الفيلم
الذي غادر السجن توا “خرج وفي جوفه نار”. وأردف: “إني ممتلئ بهذا الشعور”.
طوال الفيلم، حافظ شكري سرحان على جذوة النار التي تعتمل في داخله،
سواء في صمته حيث يبدو وجهه مفعماً برغبة حارقة في الثأر، أو في أحاديثه،
حين تخرج الكلمات من فمه، حتى بصوت منخفض، وكأنها طلقات مسدس مكتوم الصوت.
كذلك الحال في مواقفه المختلفة، بما في ذلك المواقف الرومانسية. إنه يحب
نور ( شادية) ويتواصل معها، لكن ذلك التواصل المتقطع بفعل الألم الذي يحسه،
والذي يزداد كلما تكالبت الظروف عليه، وكلما ازداد إدراكه لعجزه، فعندما،
تعود “نور” ليلا ممزقه الملابس، آثار الكدمات على وجهها، عقب تعرضها
لاعتداء شباب أقرب للكلاب، يشعرنا شكري سرحان أن ألسنة اللهب تتصاعد بداخله.
أما نور، فإنها اسم على مسمى، فتاة ليل نعم، ولكن تضيئ شيئاً من عتمة
أيام سعيد مهران، وبهذا الفهم، أدت شادية دورها، بالصرامة التي يتسم بها
أسلوب كمال الشيخ، ذلك أنه يتحاشى تماماً أن يستدرج إلى إغراء تتبع مهنتها
أو تجسيد جانب منها، ولكنه حدد بدقة، مستواها، بالملابس البسيطة التي
ترتديها، والمكياج الفج الذي وضعه بمهارة الماكيير رمضان إمام، حيث أبرزها
كامرأة فقيرة، من الناحية المالية والمادية، ولكن، بأداء شادية، بدت على
قدر كبير من الثراء الروحي، تمنح سعيد مهران، بسخاء، فيضانا من الرحمة.
علاقتها به ليست حسية، فهي، بالنسبة له، أقرب إلى الأم، تحنو عليه، تترقرق
في عينيها محبة خالصة، تؤويه في شقتها المتواضعة بالقرب من منطقة المقابر.
تخرج، لعملها، وتعود، متعجلة، كي تطمئن عليه، ويتعمد كمال الشيخ أن يبقى
بطله في العتمة، وحين تدخل بطلته الحجرة المظلمة، تضيئ النور. إنها “نور”
فعلاً. وبينما تنطلق رصاصات الشرطة لتردي سعيد مهران قتيلا، في النهاية،
تعبر شادية، بتقلص وجهها الماً، عن الإحساس أن هذه الرصاصات، إنما تصيبها
هي.
إلى جانب نور، جسدت شادية ثلاثاً من بطلات نجيب محفوظ: حميدة في “زقاق
المدق” (1963) لحسن الإمام، كريمة في “الطريق” (1964) لحسام الدين مصطفى،
وزهرة في “ميرامار” (1969) لكمال الشيخ. نجحت في بعضها، عندما التزمت مع
صناع الأفلام، برؤية نجيب محفوظ الجوهرية لنماذجه وواقعه.. ولم توفق في
بعضها، بسبب عدم الالتفات، بما فيه الكفاية، لما جاء في أعمال نجيب محفوظ.
ظهرت “حميدة” مرتين على شاشة السينما، مرة في الفيلم المصري، وبعد
ثلاثة عقود تسطع في فيلم مكسيكي بعنوان “حارة المعجزات”، من إخراج خورخي
فونس، حيث أصبح اسمها “المينا” بأداء الممثلة التي أصبحت عالمية اللبنانية
الأصل سلمى حايك. وثمة مفارقة تستحق الانتباه: الفيلم المكسيكي أقرب لعالم
نجيب محفوظ وروايته من الفيلم المصري، وسلمى حايك تعبر عن “حميدة” على نحو
أعمق وأصدق من تجسيد شادية لها. خورخي فونس، كاتب السيناريو بيثنتي لينيرو،
وسلمى حايك، كل على حدة، أشار أكثر من مرة، إلى نفاذ بصيرة الروائي،
وإدراكه للقوانين التي تؤدي للظواهر، وتماثلها، برغم اختلاف المكان
والزمان. والواضح أن سلمى حايك تفهمت واستوعبت شخصية حميدة، بتكوينها
الداخلي، الذي يرصده نجيب محفوظ بقوله: “فتاة مقطوعة النسب معدمة اليد،
ولكنها لم تفقد قط روح الثقة والأمان والاطمئنان، ربما كان لحسنها الملحوظ
الفضل لبث هذه الروح القوية في طواياها، ولكن حسنها لم يكن صاحب الفضل
وحده، كانت بطبيعتها قوية لا يخذلها الشعور بالقوة لحظة في حياتها”. وفي
موضع آخر، يصف بجرأة وحسم، في ثلاث كلمات قاطعة، أحد أهم سماتها “كانت
عاهرة بالسليقة”.
تحركت سلمى حايك، طوال “حارة المعجزات”، على هدى ملاحظات نجيب محفوظ،
فبنظراتها، تلتهم ما تطمح له أو تطمع فيه، فإذا أطلت من نافذتها ورأت
حبيبها، فإنها ترسل له، بعيونها، رسائل مفعمة بالرغبة، وإذا وقفت أمام
“فاترينة” تعرض الملابس الداخلية، فإنها تعطى إحساساً باستعدادها لمد يدها
لتكسر الزجاج كي تأخذ ما تريد. تتحرك وتتلفت وتتكلم وتتشاجر وكأنها تقف على
أرض نفسية صلبة.. وبإرادتها، تذهب مع القواد إلى وكره، وتستجيب بلا مقاومة
لطلباته، وتندمج في حياة الليل، وتنتقل سريعاً، من فراش لفراش، وتغدو مدمنة
للمخدرات، وهي في هذا السقوط السريع، تعبر عما جاء في الرواية التي تقول
إنها “تنحدر إلى مصيرها المحتوم” لا يعوقها من وازع إلا ما يعوق المنحدر
إلى الهاوية من دقائق الحصى. رواية “زقاق المدق” منحت سلمى حايك دوراً
فريداً، وهي بدورها منحت شخصية “حميدة” حضوراً عالمياً.
اختلف الأمر، بالنسبة لشادية، ذلك أنها، في “زقاق المدق”، انتمت لحسن
الإمام أكثر من إرتباطها بالرواية، فهي هنا مجرد “دلوعة”، تمضغ اللادن
وتتمايل في مشيتها، تخرج الكلمات من فمها بميوعة مصطنعة، وتغني في
الكباريه، أيام الإحتلال، أغنيات تسخر من الإنجليز!.. إنها، مع كاتب
السيناريو المبتدئ، حينذاك، سعد الدين وهبة، والمخرج، لم يستفيدا من إضاءات
نجيب محفوظ.
حققت شادية نجاحاً حين قدمت “كريمة” في “الطريق”. الشخصية أصلاً في
الرواية من النوع الذي يمنح الممثل طاقة لا يستهان بها. إنها جامحة، مثيرة
للغرائز، ظروفها تبدو في عيني الذئب أقرب للفريسة، فهي امرأة ناضجة، جميلة،
متزوجة من صاحب فندق عجوز، لا تخلو من غموض، يرمقها نزيل الفندق، صابر
الرحيمي، بأداء رشدي أباظة، وبدورها ترسل له، بعيونها، رسائل مبهمة، وفي
العديد من المشاهد تحافظ شادية، بمهارة، على ذلك الغموض الأخلاقي، ما بين
رفضها الحاسم لإقامة علاقة مع النزيل، أو الاستجابة لما يرغبه، وبذكاء أقرب
للخبث، تذيقه طرفاً من حلاوتها، ثم تمتنع عنه، ثم تدفعه، بالإيحاء تارة
والتصريح تارة، إلى قتل زوجها العجوز. شادية هنا، لا تلجأ لكليشيهات
الإغراء المألوفة، المكررة، في السينما المصرية، لكن شباك الغواية عندها،
تنطلق من عيون مليئة بالوعود المترعة بالشهد.
تنوعت، بل تضاربت، نماذج النساء التي جسدتها شادية، اعتماداً على
روايات نجيب محفوظ: في نور “اللص والكلاب”، حيث تبدو وكأنها الرحمة تسير
على قدمين، وحميدة “زقاق المدق”، المتمردة على “زقاق العدم” حسب تعبيرها،
ثم الفتنة المدمرة في “الطريق”، وأخيراً زهرة “ميرامار”، وهي شخصية ثرية
بالمعاني والدلالات، حللها الكثير من نقاد الأدب. فهي عند فاطمة موسى
الشخصية الوحيدة التي تمثل المستقبل؛ وهي مصر التي صورها الفنانون في شكل
فلاحة منذ أيام مختار وتمثال نهضة مصر(2)؛ وعلى نحو مقارب، يراها محمود
أمين العالم “رمز مصر الباحثة عن سند، عن حب، عن استقرار، عن سعادة”(3).
زهرة، يتصارع عليها نزلاء “البنسيون” الخمسة، كل منهم يريدها لنفسه، على
طريقته ولكنها قوية، صعبة المنال، أذكى من أن تحول نفسها إلى مطفئة شهوات،
أو العوبة في يد الآخرين. حاولت شادية، بكل طاقتها، أن تحافظ على التوازن
بين وضعها المتواضع كعاملة في البنسيون من ناحية، وفي ذات الوقت كشابة ذات
كرامة من ناحية ثانية. وعلى الرغم من نجاح مسعاها في أن تبدو، في أدائها،
إنسانة جادة، قبل أن تكون مجرد أنثى، فإن الفيلم لم يسعفها في إبراز
إصرارها على استقلالها وحريتها، وجعلها تقترن ببائع الجرائد، كي تكون
النهاية سعيدة.
لذا فإن الناقد هاشم النحاس يصل لنتيجة مؤداها “.. وبفقدان زهرة في
الفيلم لسماتها الأساسية الموجودة في الرواية، إلى جانب تحويل اتجاهاتها
وتبديل أهدافها فقدت أيضا أبعادها الرمزية وأصبحت زهرة في الفيلم شيئاً آخر
تماما لا يشترك مع زهرة الرواية إلا في الاسم فقط”(4).
أيا كان الأمر، فإن شادية، بفضل نجيب محفوظ، تألقت فنياً، في أدائها،
على الأقل في شخصيتين من بطلاته: “نور” في “اللص والكلاب” و”كريمة” في
“الطريق”. وامتدت عطايا نجيب محفوظ لأخريات من الفنانات، جسدن شخصياته على
نحو يستحق التحليل والتأمل.
سعاد حسني الموهوبة، دخلت عالم نجيب محفوظ من ستة أبواب: “الطريق”
(1964) لحسام الدين مصطفى، “القاهرة 30” (1960) لصلاح أبو سيف، “أميرة حبي
أنا” (1974)، “الكرنك” (1975)، “أهل القمة” (1981) و"الجوع" (1986) لعلي
بدرخان.
لم تلتقِ سعاد حسني مع شادية في “الطريق”. فعلاقة كل منهما كانت
مع “صابر الرحيمي”، وهما في طبيعتهما، على طرفي نقيض: شادية عاصفة، وسعاد
نسيم، “كريمة” شظية في الجحيم، و”إلهام” عصفور من الجنة. شادية، ذات أغوار
بعيدة، غامضة، متقلبة. سعاد بسيطة، وواضحة، شفافة. هنا تتجلى قدرات الروائي
الكبير على إبراز الفوارق الواسعة بين البشر. ولأن الشخصيات الشريرة، في
الأدب والفن، غالبا، تحظى بقوة تأثير أشد من الشخصيات الطيبة، فإن شادية،
في “الطريق” بدت أعمق حضوراً من سعاد حسني، الباهتة نوعاً ما، والتي وجدت
ضالتها، وفرصتها الكبيرة في “القاهرة 30”.
تجسد سعاد حسني شخصية “إحسان شحاته” ـ تأمل معنى الاسم ـ فتاة فقيرة
وجميلة، يشفع لها جمالها في الانتقال من حال لحال؛ ولكن بثمن باهظ، تدفعه
بجسدها الذي يعشقه قاسم بيك فهمي، بأداء أحمد مظهر. وتصبح إحسان خليلته،
بعد زواجها من محجوب عبد الدايم، الذي مثله باقتدار، في أول ظهور له، على
شاشة السينما، حمدي أحمد. وعلى طريقته، يلخص نجيب محفوظ معالم بطله بأربع
كلمات: “فتى فقير بلا خلق”، وهو في هذا يختلف عن إحسان شحاته، المساقة إلى
نمط منحط من الحياة، من دون حماس. الملفت في “القاهرة 30”، إلى جانب لمسات
صلاح أبو سيف البديعة، ذلك التجاوب الخلاق، في الأخذ والعطاء، بين سعاد
حسني وحمدي أحمد. فعلى سبيل المثال، حين يدخل الزوج حجرة النوم، بعد مغادرة
قاسم بيك الذي قضى وطره، يضيء النور، عندئذ تصرخ سعاد حسني طالبه منه إطفاء
النور، فالظلام عندها هو الستر. وربما من الممكن القول إن بصمة سعاد حسني
الخاصة، العفوية على الأرجح، أضفت بعداً إنسانياً لا يتوفر بوضوح في
الرواية، فعقب زفافها السريع لزوج تعلم تماماً أنه مجرد ستار لعلاقة البيك
بها، ترفع عينيها إلى وجه عريسها النذل، المتوتر، وقبل أن تنطق بكلمة تحس
في نظرتها المترعة بالشجن، شفقة غامرة تجاه الرجل فاقد الكرامة، والذي عليه
أن يقوم بدور الزوج والقواد في آن.
رحبت الصحافة الفنية بالوجه الجديد، حمدي أحمد، وأشادت بأداء سعاد
حسني، فكتب مصطفى محمود: “سعاد حسني مثلت دوراً صعباً، متلون المواقف
والعواطف، معقد التركيب.. تناقضات في التعبير لم تكن لتقدر عليها واحدة غير
سعاد حسني. عندها الموهبة على تلوين الصوت والصورة والوجه والتقاطيع في
كفاءة وإقناع وذوق مرهف”(5). وجاء في مقالة لرجاء النقاش “أما سعاد حسني
فقد كان دورها في هذا الفيلم من أبدع أدوارها وأكثرها عمقاً. إن سعاد ممثلة
موهوبة حقاً... وما أكثر ما تعطيه هذه الفنانة للسينما إذا وجدت إلى جانبها
مخرجاً له قيمة، وإذا وجدت لها دوراً حقيقياً مثل
هذا الدور...”(6).
سعاد حسني، تكاد تكون الفنانة الوحيدة التي لم تجسد بطلات نجيب محفوظ
بصدق ودقة فحسب، بل أضفت عليها رونقاً يتجاوز ما هي عليها في الأصول
الأدبية. دليلي على هذا دورها في “الكرنك”، الفيلم الذي أثار ضجة كبيرة عند
عرضه، وتحفظ الناقد سمير فريد على الكثير مما جاء به، ورفضه الناقد على أبو
شادي رفضاً مطلقاً لأنه “فتح الباب لسيل من الأفلام الهزيلة التي راحت
تتمسح في السلطة وتتملق العهد الجديد”(7). وبرغم هذه التحفظات وذاك الرفض،
فإن تقييم سعاد حسني حظي بتقدير رفيع.
كتب سمير فريد “.. ودور زينب بالنسبة لسعاد حسني يضاف إلى رصيدها
الكبير في السينما المصرية، فهي تتلون في الفيلم بين عدة أحوال متباينة
تماماً، من البراءة إلى السقوط مروراً بالمعاناة الهائلة بعد الاغتصاب، وفي
مشهد محاولة الانتحار، ثم ذهابها مع زين العابدين في سيارته تحت سفح
الأهرامات”(8).
أما عن البصمة الخاصة أو الإضافة الخلاقة لسعاد حسني، فإنها تتجلى في
أمرين، أولهما تلك الروح الرقيقة، الطيبة التي لا تخلو من صلابة داخلية،
والتي جعلتها قادرة على تحمل المحن والخطوب من ناحية، والحنو على جميع من
حولها، في الأسرة والأصدقاء، وتفهم ضعفهم وانكساراتهم من ناحية أخرى. لكن
الأهم من ذلك الإبداع الشخصي، العفوي في تقديري، الذي يمكنك أن تلمسه في
لحظات خاطفة، فعندما تختلي، لأول مرة، مع حبيبها المدمر “إسماعيل الشيخ” -
بأداء نور الشريف - يكتشف أنها ليست عذراء، فتعتمل في عينيها عدة انفعالات:
ألم معنوي، اعتذار، شفقة من أجله، علماً أنها اغتصبت في أحد أجهزة الدولة
بسبب علاقتها به. سعاد حسني هنا تقدم ما ليس موجوداً في الرواية. وهو
الإنجاز الذي تحققه، عادة في العديد من المواقف سواء هنا أو في أعمال أخرى،
فيصبح من أسباب إرتقاء الفيلم جملة وتفصيلا، فمثلا في “الجوع”، المأخوذ عن
قصة “سارق النعمة” من ملحمة “الحرافيش”، تطالعنا في دور “زبيدة”، بائعة
البطاطا، الفقيرة مثل بقية سكان الحارة، الخاضعين لفتوّات طغاة، وبرغم
قوتها وكرامتها، تتعرض للاغتصاب من أحد الفتوّات، وتتكور بطنها بجنين، وبلا
تردد، يقبل “جابر الجبالي” - بأداء متميز من عبد العزيز مخيون - الزواج
بها، ستراً لها ومنعاً للفضيحة. في ليلة الزواج، داخل حجرة رطبة مظلمة في
بدروم، يبدو “جابر”، القريب منها، منصرفا عنها. حينئذ، تتابعه بنظرات تفيض
بالمعاني: الخجل، الامتنان العميق والتقدير الرفيع، المحبة الصافية، والأهم
أنها تتمنى أن يقدم عليها، ليس بدافع من رغبتها، ولكن كنوع من رد الجميل،
في وقفتها أمام الحائط الكالح، بالانحناءة الخفيفة لرأسها، وتركيز بصرها
عليه، وبانكسار، توحي أنها على استعداد للركوع عند ركبتيه وتقبيل كفيه،
وطبعاً لا تفعل، إن كانت تعبر عن كل هذا بسلاسة ونعومة وبساطة.. سعاد حسني،
تجعلنا نكتشف مناطق ثرية في النفس الإنسانية.
مشهد النهاية في “خان الخليلي” (1966) الذي حققه أحد أساتذة المدرسة
المصرية في السينما، عاطف سالم، من المشاهد القوية التي لا تنسى على مر
السنوات: “عربة كارو تحمل عذّال أحمد عاكف- عماد حمدي- الذي يسير بجانب
والديه، عبد الوارث عسر وآمال زايد، والكاميرا ترصدهم من مكان مرتفع،
وبالتالي يبدو انسحاقهم واضحاً. إنهم يغادرون المكان عقب وفاة الابن الشاب،
أمل الأسرة في الانتقال من حال لحال.. على الجانبين، يقف بعض سكان “خان
الخليلي”، في صمت ووجوم، كأنهم يشيعون جنازة”.
عماد حمدي من أكثر نجومنا توافقاً مع قطاع من أبطال نجيب محفوظ، فمنذ
ظهوره لأول مرة، في “السوق السوداء” لكامل التلمساني عام 1945، قام بدور
الموظف المصري، ابن الطبقة الوسطى، عدة مرات، وعلى نحو ناجح ومقنع، فالواضح
أن قسمات العناء المرتسمة على وجهه، وطريقة حديثه المتمهلة، وصوته المنخفض،
ووقاره العفوي، كلها معالم هيأته لأداء هذه الشخصية التي صاغها نجيب محفوظ
في الكثير من رواياته، بخبرة ودراية، عن معرفة ومعايشة جسدها عماد حمدي،
بدقة وصدق وإبداع، من الصعب تخيل ممثل آخر، يحل محله.
“أحمد عاكف” موظف منسي، قضى سنوات طويلة على الدرجة الثامنة، لم يستكمل
تعليمه العالي لسببين، أولهما رعاية أسرته حيث فصل والده من خدمة الحكومة،
وكي يتيح لشقيقه رشدي (حسن يوسف) مواصلة دراسته، وهو في هذا يعكس إحدى قيم
الفداء والتضحية التي تتسم بها الطبقة الوسطى. في زاوية من قلب أحمد عاكف،
نوع من الإحساس بالمرارة. يحس أن قطار الزمن مرق سريعاً، لذا فإن في عيني
عماد حمدي، منذ المشهد الأول، سحابة أسى، يعوضها إيمانه بأنه “عبقرية
مضطهدة” حسب تعبير نجيب محفوظ، يعبر عنها عماد حمدي بنظرة استعلاء خجولة،
ودرجة ما من الانفصال بينه وبين الآخرين، حتى حين يقضي سهرات، ذات طابع
ماجن، في بيت الراقصة المعتزلة، تمنعه كرامته أن يحكي لها عن مشاكله،
فينسبها لصديق له. وباقتصاد في إظهار الفرح، وبشبح ابتسامة، مع وقفة أطول
أمام المرآة، يجسد عماد حمدي ضياء الامل الذي ينفتح في قلبه حين ينبض بالحب
تجاه ابنة جيرانه “نوال” (سميرة أحمد) ولكن شقيقه، العائد من أسيوط، يرتبط
بابنة الجيران، ويخطبها، وبرغم اعتراف أحمد عاكف بالألم، فإن عماد حمدي،
بلفتاته الوئيدة، وفتور حماسه، وصمته، وانسحابه داخل ذاته، يوحي بمدى الأسى
المعتمل في وجدانه.. لكن الضربة القاصمة، تأتيه بموت شقيقه، أمل الأسرة،
عقب فترة قصيرة من مرض السل.
يصف نجيب محفوظ، حياة أحمد عاكف، على لسان إحدى الشخصيات، وصفاً
فاجعاً حين يقول له “حياتك ليست بذي بال”. ويترجم الفيلم في هذه الجملة
التي استوعبها، في تقديري، عماد حمدي تماماً، عندما يدخل حجرة شقيقه
الراحل، يتأملها للحظة، ينكفئ على وجهه فوق السرير ويجهش ببكاء مر، كما لو
أنه لا يبكي على وفاة أمل الأسرة وحسب، بل على حياته كلها.
ماذا كان سيحدث لو أن أحمد عاكف استفاد من ثقافته وعمل بالصحافة؟.
أغلب الظن أنه سيصبح “عامر وجدي” في “ميرامار” (1969) لكمال الشيخ. هنا،
عماد حمدي، الأقدر على أداء هذا الدور، يطالعنا في البنسيون. جاء من
القاهرة ليستقر في الإسكندرية، مرفأ الأمان وملجأ المهزومين. انخرط في
الأيام الخوالي في حزب الوفد، حزب الأفندية، وتم الاستغناء عنه في مجال
الصحافة لأنه من أصحاب الأساليب العتيقة، وشأنه شأن “أحمد عاكف”، لم يتزوج
ولم يخلف ذرية، وأمسى وحيداً، منسياً، يكتفي بدور المشاهد، يعلق على
الأحداث ولا يشارك فيها، وإذا كان بعض النقاد، أيامها، أخذوا على عماد
حمدي، والمخرج أن صاحب ومؤدي هذه الشخصية “لم يكن له وجود يذكر في
الفيلم”(9) ودور عامر وجدي في الفيلم “يتقلص حتى يكاد يتلاشى تماماً”(10)
فإن الأمر، بعد أربعة عقود، يبدو مختلفاً، ذلك أن عامر وجدي، أصلاً من
نماذج نجيب محفوظ التي تعيش على الهامش، ضربها الوهن حتى النخاع، انسحبت من
الحياة بصراعاتها، بحلوها ومرها، وهذا ما جسده عماد حمدي الذي يبدو طوال
الفيلم وكأنه شبح من الماضي.
أما “أنيس زكي”، أو عمـاد حمـدي، في “ثرثـرة فـوق النيل” (1971) لحسين
كمال، فإنه شبيه، أو زميل، لكل من “أحمد عاكف” و”عامر وجدي”.. إنه موظف
منسي، مثل “أحمد عاكف”، وإذا كان بطل “خان الخليلي” يرى نفسه “عبقرية
مضطهدة” فإن بطل “ثرثرة فوق النيل” “نصف مجنون نصف ميت” حسب رؤية الصحافية
سمارة بهجت، التي تواصل “يمكن أن تصفه بأي شيء أو ألا تجد له صفة على
الإطلاق”. وبينما يعزل عامر وجدي نفسه داخل البنسيون، ينعزل أنيس زكي داخل
العوامة، وإذا خرج، نستمع إلى مونولوج داخلي، بصوت عماد حمدي طبعاً، يعلق
على ما يراه في الشوارع، وما يخطر على باله. المونولوج، في حد ذاته، يعني
أن مردده يعيش في وحدة، لا يجد من يحدثه أو يستمع له. إنه لم يتزوج، كما
الحال بالنسبة لبطلي “خان الخليلي” و”ميرامار”، والفارق بينهما وبينه، أنه،
على العكس منهما، وجد سلواه في المخدرات، وها هو عماد حمدي يخرج من صفحات
نجيب محفوظ، ليسير في الشوارع، في حاله هذيان. إنه يوفق تماماً، في تجسيد
إحدى الشخصيات المتكررة، المتباينة الأبعاد، في كتابات الروائي الكبير.
تجربة السينما المصرية مع الثلاثية مهمة وفريدة، مهمة لأنها تقدم
واحدة من أهم أعمال نجيب محفوظ وتعد من القطع الأدبية الثمينة في الثقافة
المصرية، فضلا عن كونها تغطي مساحة زمنية واسعة، تمتد من بدايات الحرب
العالمية الأولى، إلى أعقاب دوامة الحرب العالمية الثانية. وهي فريدة لأنها
تعتمد، في شخصياتها الأساسية، على ذات الممثلين: يحيي شاهين أو أحمد عبد
الجواد، في الأجزاء الثلاثة، كذلك الحال بالنسبة إلى عبد المنعم إبراهيم
الذي حظي بدور الابن الكبير ياسين. أما نور الشريف فكان من نصيبه كمال عبد
الجواد، في الجزء الثاني والثالث، وآمال زايد، أمينة، الأم، حيث ظهرت في
الفيلمين الأولين. الثلاثية، من إخراج حسن الإمـام، وهي، على التوالي: “بين
القصرين” (1964)، “قصر الشوق” (1967)، “السكرية”( 1973).
بعيداً من التقييمات النقدية للثلاثية على الشاشة، ما بين الترحيب
والرفض، يمكن القول، بعد مراجعة كتابات المعلقين، أن ثمة إشادة بأداء يحيى
شاهين، واقتناع عام بقوة وعمق معايشته لشخصية أحمد عبد الجواد في المراحل
الثلاث. مع عرض “بين القصرين”، نقرأ: “... يستهويك يحيى شاهين بصدقه غير
المفتعل في لحظات صرامته وفي لحظات لهوه”(11) و”... يحيى شاهين أنقذ نفسه
بعد عشر سنوات من أفلام كان يؤدي فيها شخصيات لا تتفق معه، واسترد في هذا
الدور التجاذب الواجب توافره مع الجمهور”(12). وعلى هذا النحو، استمرت
تقييمات النقاد ليحيى شاهين في “قصر الشوق” و”السكرية”.
في أكثر من مناسبة، قال يحيى شاهين أنه تعلم الكثير من فن التمثيل،
خلال إطلاعه على كتب الأدب، وروايات دوستويفسكي على نحو خاص، ولأنه أعاد
قراءة الثلاثية عدة مرات، فإنه تشبع تماماً بشخصية أحمد عبد الجواد، وأشار
إلى أن نجيب محفوظ، رسم ذلك الأب الصارم، اللاهي، من الخارج رسماً دقيقاً،
وفي ذات الوقت، توغل إلى أعماقه، وحلل عواطفه، وتابع برهافة، أثر الخطوب
والمحن في نفسه، وبين بجلاء أثر الزمن عليه. فالرواية تبدأ وأحمد عبد
الجواد في قمة شبابه، العنفوان والحيوية والثقة، وتنتهي به عجوزاً، طريح
الفراش، يحتاج لمن يؤنسه، ومن يساعده.
بنيان يحيى شاهين الضخم، وصوته الجهير، المتعدد الألوان والطبقات،
وشاربه الأنيق، والملابس البلدية الأنيقة الفاخرة التي صممها صلاح مرعي،
كلها عناصر ساعدت الممثل على معايشة الشخصية، لكن الأهم، فهمه لنوازعها
الداخلية، وقدرته على تبين الجوانب الثابتة والمتغيرة في شخصيته. في “بين
القصرين”، يهتز جميع أفراد أسرته لمقدمه أو مغادرته أو لمجرد سماع صوته.
الوحيد الذي يحظى بنظرات تفيض بالمحبة هو “كمال”، الطفل، آخر العنقود. وإذا
ذهب السيد أحمد عبد الجواد إلى عوامة المجون مع أصدقائه، فإنه، بأداء يحيى
شاهين، يبدو وكأنه أحد ملوك الملذات، عيونه تنطق بالفرح والمرح والشقاوة،
يمسك بالرق ويوغل في البهجة. إنه الإرادة والقوة تمشي على قدمين، يمسك
بيديه زمام الأمور، أو هكذا يخيل له، فالواقع والأقدار عند نجيب محفوظ
إجمالاً، لا تعطي لأحد، أيا كان، سلطة مطلقة. فها هو يحيى شاهين، بأوامر من
جنود الاحتلال، يحمل عبوات التراب، لردم حفرة حفرها الثوار، ثم تأتي
الفجيعة حين يعلم باستشهاد ابنه فهمي- صلاح قابيل- فتميد الأرض تحت قدميه.
يحيى شاهين، بصدق الأداء الداخلي، يشعرنا أنه يتداعى ويكاد، ببنائه القوي،
أن ينهار تماماً.
برغم استرداد أحمد عبد الجواد لقدر كبير من عنفوانه، فإن شيئاً ما قد
تغير. ربما سطوته على النساء الماجنات قد تضعضعت، خاصة مع أجيال جديدة
منهن، لا يكتفين بدورهن كمطفأة للشهوة. إن رغبته اتجهت نحو زنوبة - نادية
لطفي- صبية إحدى خليعاته، ويجزل لها العطاء، لكنها ترفض الإذعان له إلا
بشروط، منها الزواج. يحيى شاهين، في “قصر الشوق” تنتابه موجه عاتية من
الغضب، يقمعه بصعوبة، وإن بدا واضحاً، في عينيه، وحمولة الكدر في صوته. إنه
يحس بالهزيمة، ومن بقايا أحمد عبد الجواد “بين القصرين” يستجمع شيئاً من
قوته وإرادته وكرامته، ويغادر العوامة بلا عودة. هكذا، يدرك يحيى شاهين
الثابت والمتغير عند أحمد عبد الجواد.
في “السكرية” يجسد يحيى شاهين المحطات الأخيرة لرحيل أحمد عبد الجواد،
وإذا تذكرنا نظرات الحنو التي كان ينظر بها لآخر أبنائه في “بين القصرين”،
ندرك ما حل به وهو ينظر، كطفل، يطمئن لوجود والده، “كمال”، الابن، الذي
أصبح رجلاً. يحيى شاهين، كما في الرواية، لا ينطق اسم ابنه مجرداً، ولكن
يضع قبله كلمة “أستاذ”، الأمر الذي يزعج الإبن المستسلم لتبادل الأدوار.
الآن، أيا كانت الآراء متباينة في الثلاثية على الشاشة، فإن الاتفاق
على اعتبار أداء يحيى شاهين لأحمد عبد الجواد إحدى قمم الأداء التمثيلي في
السينما المصرية لا يختلف عليه أحد، حتى أن فناننا الكبير محمود مرسي، الذي
مثل هذه الشخصية، في مسلسل “بين القصرين” تليفزيونياً، قال، بنزاهته
المعهودة “بدون تواضع أو غرور، أقول أني خسرت هذه الجولة أمام يحيى شاهين
الذي يبدو كما لو أن نجيب محفوظ رسم هذه الشخصية خصيصاً ليتواءم معها يحيى
شاهين. لقد كنت أبحث عن أحمد عبد الجواد، بينما أحمد عبد الجواد يبحث عن
يحيى شاهين. لا أظن أن أحداً يمكنه أن يغدو أحمد عبد الجواد على نحو يفوق
يحيى شاهين لعدة أجيال قادمة”(13).
محمود مرسي مثل شخصيتين من أبطال روايات نجيب محفوظ: عيسى الدباغ في
“السمان والخريف” (1967) لحسام الدين مصطفى، وعمر الحمزاوي في “الشحات”
(1973) لحسام الدين مصطفى أيضاً، وثمة أواصر بين الشخصيتين. كل منهما يقع
في قبضتي اليأس والضياع، وهما من جيل واحد، انغمسا في العمل السياسي،
النضالي إن شئت، لفترة ليست قصيرة، فأولهما كان عضواً مهما في حزب “كلا ثم
كلا” الذي ناصب العداء للملك، ووقف موقفاً مبدئياً ضد الإحتلال، وضد
النظام، خاصة حين يكون الحزب خارج السلطة. لكن الفساد لم يغب عن الحزب، ولا
عن عيسى الدباغ نفسه، وتأتي ثورة يوليو 1952 لتحل الحزب، مع الأحزاب
الأخرى، ويجرى التحقيق مع عيسى الذي يفاجأ بوضعه كرجل بلا حاضر ولا مستقبل،
وإن كان عليه أن يعيش، ومثل الكثير من أبطال نجيب محفوظ المهزومين، يلجأ
إلى الإسكندرية. كذلك الحال، على نحو ما، بالنسبة لعمر الحمزاوي، كان عضواً
في خلية تخطط لاغتيال رجل سياسة أقرب للخونة، وعقب تشتت الخلية والزج
بصديقه “عثمان” (أحمد مظهر) في السجن، ينكفئ الشحاذ في مكتب المحاماة الذي
يملكه، لكن يدرك في لحظة تنوير أنه فقد حياة كان يتمناها، ويغدو نهبا للضيق
والاكتئاب والرغبة في التحرر من قضبان أيامه. ومثل شبيهه “عيسى” يتجه للثغر
السكندري، ينغمس في علاقات جنسية لا تشفيه.
“السمان والخريف” و”الشحات” يخلوان من الأحداث المحورية، ويتجهان إلى
الوقائع الصغيرة، بهدف تلمس أبعاد أزمة بطلين، ويهتمان بالدقائق النفسية
أكثر من الحركة الخارجية، وهذا الاتجاه يتطلب ممثلا مرهفاً، متفهماً، من
طراز محمود مرسي، وبرغم المآخذ، وما أكثرها، التي وجهت إلى حسام الدين
مصطفى، فإن الجميع أشاد بأداء الممثل، والواضح أن محمود مرسي قرأ الروايتين
قراءة معمقة، وسار في أدائه على هدى توجيهات نجيب محفوظ إن صح التعبير،
ولكن بأسلوبه الخاص، المعتمد على ثلاثة محاور: تفهم الانفعالات المركبة
تفهماً كاملاً، الصدق الداخلي، الاقتصاد في الحركة المادية، باليدين،
والسيطرة على ملامح الوجه الذي يكشف باللفتة والشفاه والعيون، عن ما يجيش
في صدر الشخصية، وعلاقاتها بالمكان والبشر.
يكتب نجيب محفوظ: “ما أشد انطواء الإسكندرية على نفسها.. حتى لتبدو
مغلقة الأبواب في وجه الغريب”. الغريب هنا هو عيسى الدباغ، أو محمود مرسي،
الجالس على رمال الشاطئ ليلاً. صحيح، البحر أمامه، لكنه يجلس بإهمال وكأنه
حبيس زنزانة، ينظر لداخله أكثر مما ينظر إلى الأفق الممتد. وفي صباح اليوم
التالي، يقع بصره على قدمي فتاة الليل التي باتت معه، فيجدهما متسختين،
فيفصح وجهه عن اشمئزاز منها، يمتزج بشعور بالهوان، بسبب ما آل له، سياسياً
وعاطفياً.
أحياناً، يبدو نجيب محفوظ كما لو أنه مخرج، يشرح لممثله دقائق الموقف،
ويوجهه إلى طريقة التعبير، فعندما يضيق عيسى الدباغ ذرعاً بفتاة الليل
“ريري” (المتميزة نادية لطفي) التي تقيم معه، يعاملها بغلظة فكيف يكون رد
فعلها؟ نجيب محفوظ يشرح ويوجه: “عند الإساءة ينقبض وجهها فيلحظ خفية الجهد
الذي تبذله لشكم غضبها والتنفيس عن استعدادها العدواني المكبوت المكتسب من
حياة الأرصفة بمعركة باطنية تفتضح آثارها في خديها وشفتيها وإنقلاب
سحنتها”... سارت “نادية لطفي” على هدى إرشادات نجيب محفوظ فحققت، عن جدارة،
نجاحاً مرموقاً.
أزمة “عيسى الدباغ” من خارجه، ترجع لقطار الثورة الذي داهمه وتركه
وحيداً، أما أزمة “عمر الحمزاوي” فتأتي من داخله، بسبب ذلك الفراغ الذي
يحسه برغم ازدحام حياته بأسرة وأصدقاء، لذا فإن محمود مرسي في “السمان
والخريف” يغضب، ويجهش بالبكاء، بينما في “الشحات” يزداد يأساً وتعاسة، ولعل
التنوير المنبعث في صفحات نجيب محفوظ هو الذي أضاء طريقة أداء محمود مرسي،
وانتقاله من تدهور إلى تدهور أشد وطأة. فإذا كان نجيب محفوظ يشير في
البدايات إلى أن بطله يعاني خمولا وضجراً في عمله وأسرته، فإن الرواية
تتابعه وهو يمضي في ارتياد الملاهي الليلية، متنقلا من امرأة لأخرى، ومع
ذلك تزداد غربته عن العالم يوماً بعد يوم، وبالتالي ينسحب نفسيا ويغرق داخل
ذاته، ويقترب شيئاً فشيئاً مما يشبه الهذيان والجنون. محمود مرسي يجعلنا
نتابع كيفية انسحاب رجل من الحياة.
بعد عقدين من الزمان، عقب “بداية ونهاية”، يعود فريد شوقي إلى نجيب
محفوظ، في “الشيطان يعظ” (1981) بذات الجوهر ولكن بمظهر جديد، فالبلطجي
أصبح قوة. لم يعد يحمي ويفرض سطوته على بعض نساء حارة الفساد، ولكن غدا
مهيمناً على منطقة كاملة، وهو، في وضعه الجديد، يستخدم النبوت لتأديب من
يخرج عن طوعه، بعد أن كان يستخدم رأسه لينطح بها رأس خصمه، في ما يعرف بـ
“الروسية”، لذا أطلق عليه، في “بداية ونهاية” اسم “حسن أبو الروس”.
دخل نجيب محفوظ عالم الفتوّات من بوابة السينما، حين شارك المخرج
نيازي مصطفى في كتابة سيناريو “فتوّات الحسينية”( 1954). قبل ذلك، لم يظهر
الفتوّات في روايات نجيب محفوظ، وفي ما بعد بدأ تواجد الفتوّات في قصصه
القصيرة ليهيمنوا على أعمال كبيرة مثل “أولاد حارتنا” و”الحرافيش”. فالواضح
أن كاتبنا الكبير وجد إمكانات واسعة للتعبير عن عشرات القضايا من خلال
الفتوّات، ومعان أعمق مما جاء في “فتوّات الحسينية” الذي قام ببطولته فريد
شوقي أمام غريمه الدائم محمود المليجي.
في حوار مع فريد شوقي، قال: “... عشت في أحياء شعبية عندما كنت طفلاً،
شاهدت الفتوّات بملابسهم البلدية الأنيقة، ولمست مدى ثقة كل منهم بنفسه،
وكيف ينازل خصمه ويتعارك حتى الرمق الأخير. لا شك في أن هذه المعايشة
أمدتني بعشرات التفاصيل التي أبرزتها في “فتوّات الحسينية” و”الشيطان يعظ”
و”فتوّات بولاق” على سبيل المثال لا الحصر.. هنا، في مجال الفتوّات، لابد
أن أشير إلى ما أمدتني به كتابات نجيب محفوظ في هذا المجال، لا أظن أن
كاتباً آخر تبختر الفتوّات في رواياته وتقاتلوا واكتسبوا دلالات عميقة، كما
هي الحال عند نجيب محفوظ. إن كتاباته، بالنسبة لي كممثل، من أهم الينابيع
التي ارتشفت منها الكثير."(14).
أفلام الفتوّات، إجمالاً، تتضمن أحداثاً وشخصيات تشد انتباه
المشاهدين، فهنا، تندلع الخصومات، وتتصاعد التناقضات، وتتوالى المواجهات،
حاملة معها معظم ألوان الصراعات، المعنوية والمادية، وثمة معركة تصفية
الحساب الأخيرة، الدامية غالباً. لكن لا يمكن تجاهل أن هذه الأفلام تلبي
حاجة عند الجمهور، أشمل وأهم من مجرد كونها تنتمي إلى “سينما العنف” أو
“سينما المغامرات”، ذلك أنها في بعد من أبعادها، تعبر عن حلم العدالة.
فالفتوّة عادة هو رمز الطغيان، سلطة القمع، قوة الظلم والظلام، وفي
المقابل، أناس يعملون وينتجون ويذهب عرقهم لحملة النبابيت، وكلما انهار
فتوّة، يحل مكانه فتوّة آخر، ينعش الآمال قليلا، لكن سرعان ما تصبح سلطته
المطلقة، هي الفساد المطلق، ويتحول إلى غول لا يرحم.
بعد فريد شوقي، توالى ظهور الفتوّات، بأداء موفق من صلاح قابيل في
“شهد الملكة” (1985) لحسام الدين مصطفى، حيث يطالعنا بعين مفقوءة، بينما
العين الأخرى، تفيض بنوع صامت من الغدر. ثم مجدي وهبة في “المطارد” (1985)
لسمير سيف، الذي لا يعرف الرحمة، والذي لا يتوقف عن فرض المزيد من
الإتاوات. وفي “التوت والنبوت” (1986) لنيازي مصطفى، نشهد حمدي غيث وهو يذل
من يخرج عن طاعته، فيجبر الأم، أمينة رزق، على صفع ابنها عزت العلايلي، على
مرأى من أهالي الحارة. وهكذا، حسب وصف نجيب محفوظ للفتوّات بأنهم “يتبخترون
فوق صدورنا”، بما في ذلك محمود عبد العزيز الذي أعلن، وربما صادقاً في
“الجوع”، أنه لن يظلم أحداً، ولكن مع استمراء الحياة الناعمة، والسلطة
المطلقة، يصبح شرهاً، شريراً، مستبداً. إنها مجموعة من أفلام تعد احتجاجاً
متوالياً من أجل العدل.
المساحة الزمنية التي تعرضت لها روايات نجيب محفوظ طويلة، ومنذ أكثر
من نصف قرن اتجهت السينما المصرية إلى تلك الأعمال، وتلقف كل جيل من أجيال
المخرجين المتعاقبة الروايات التي تتعرض لفترات عاشوها، أو كانوا قريبين
منها: صلاح أبو سيف اختار “القاهرة 30” و”بداية ونهاية” اللتين تدور
أحداثهما في الأربعينيات؛ عاطف سالم فضل “خان الخليلي” التي تدور في دوامة
الحرب العالمية الثانية؛ حسن الإمام حقق الثلاثية التي تمتد من سنوات ما
قبل ثورة 1919 إلى مشارف الخمسينيات. أما الجيل التالي من المخرجين، فإنه
تعرض إلى ما يتوافق معه: حسام الدين مصطفى قدم “السمان والخريف” التي تتعرض
إلى ما جرى عقب ثورة 1952، وكانت “الحب تحت المطر” التي تعبر عن الندوب
الروحية التي أصابت أبطالها بسبب هزيمة 1967 من نصيب حسين كمال الذي قدم
أيضاً “ثرثرة فوق النيل” التي ترصد أجواء الإلهاء والطمأنينة الكاذبة التي
أدت للنكسة. ثم يأتي من جيل لاحق علي بدرخان ليراجع على نحو نقدي ممارسات
مخالب السلطة ضد أبناء الثورة في “الكرنك”، ويفضح قيم الانفتاح المنحطة في
“أهل القمة”، وتتوالى الأجيال لينظر عاطف الطيب، بغضب، إلى واقع
الثمانينيات من خلال “الحب فوق هضبة الهرم” (1986).
وجد كل جيل ضالته في منجم نجيب محفوظ، ليس بالنسبة للمخرجين فحسب، بل
للممثلين في المحل الأول، وفي أكثر من لقاء، صرح نجيب محفوظ أن الممثل “هو
أفضل عنصر في السينما المصرية” ولنا أن نضيف: خاصة في الأفلام التي تعتمد
على رواياته، والتي جسدتها أجيال متعددة من الممثلين، الآباء والأمهات، عبد
الوارث عسر في “خان الخليلي” وأمينة رزق في “بداية ونهاية”، والملاحظ أن
الأمهات أوسع انتشاراً من الآباء، باستثناء الحضور الطاغي ليحيى شاهين في
الثلاثية، ربما لأن والد نجيب محفوظ رحل مبكراً. طابور الأمهات يضم آمال
زايد في “بين القصرين” و”قصر الشوق” و”خان الخليلي” وعقيلة راتب في
“السراب” (1970) لأنور الشناوي، وتحية كاريوكا في “الطريق” و”الكرنك” وهذا
على سبيل المثال لا الحصر. أما الجيل الثاني، فإنه يشمل في ما يشمل عماد
حمدي، رشدي أباظة، فريد شوقي، عمر الشريف، شادية، سميرة أحمد. ثم لحق بهم
حسن يوسف، صلاح قابيل، ماجدة الخطيب، سعاد حسني، سهير رمزي... هكذا حتى نصل
إلى أحمد زكي وآثار الحكيم في الفيلم المهم “الحب فوق هضبة الهرم” (1986)
وهو من واقعيات عاطف الطيب المتميزة. كتب قصته نجيب محفوظ على طريقة
المعالجات السينمائية التي تجدها في العديد من رواياته المتوسطة الطول أو
القصيرة، حيث عدم الالتزام بالبناء الصارم، واللجوء إلى التقرير بدلاً من
التجسيد، والتعليق على المواقف، والتعبير عن الفكرة بعبارات مباشرة، تأتي
على لسان المؤلف أو خلال إحدى الشخصيات، وهذه الكتابات وإن كانت تزعج، أو
على الأقل لا ترضي، نقاد الأدب، إلا أن كتاب السيناريو يتلقفونها كمادة
بالغة الثراء، لصياغة فيلم مكتمل، على الورق.
كاتب السيناريو مصطفى محرم، ترجم بالصورة عبارات نجيب محفوظ ترجمة
موفقة أزاد ألقها أحمد زكي وآثار الحكيم، بقيادة عاطف الطيب طبعاً. القصة
تُروى من خلال البطل وتبدأ بالجمل التالية: “أريد امرأة. أية امرأة.. إنها
صرخة مدوية. انبعثت أول ما انبعثت من جوانحي على هيئة همسات من الذهول،
همسات من الأنين. همسات من الغضب”.. هذه الحالة يحولها الفيلم، قبل ظهور
العناوين، إلى لقطات لـ “علي” أو “أحمد زكي”، يسير في شوارع المدينة
المزدحمة بالناس والعربات، سيارة فخمة تقودها امرأة جميلة تقف بجانبه.
المرأة تدعوه بإيماءة فيلبي النداء فوراً. المرأة تنطلق بعربتها إلى الخلاء
تنقض عليه مقبلة حاضنة وبينما هو في متعة الاستسلام، يسمع صوت والدته التي
توقظة من النوم، وجه أحمد زكي المتفصد عرقاً يعبر عن الضيق وبقايا نشوة
الحلم والإحباط. إنه أستاذ الإنفعالات المركبة. الفيلم، كما القصة، يتلمس،
بفهم، أزمة جيل الثمانينات، في العمل والسكن والمستوى الاقتصادي والحياة.
وفي نوبة من نوبات التحدي والجنون، يتفق الحبيبان “أحمد زكي” و”آثار
الحكيم” على الزواج سراً، من دون مشقة أو معرفة أسرتيهما. يذهبان إلى فندق،
أو قل “لوكاندة” متواضعة الحال مريبة، للاختلاء ببعضهما بعضاً. وفي موقف
تؤديه آثار الحكيم ببراعة، تلسعها نظرات موظف الاستقبال، وتنتابها حالة من
الرفض النفسي للمكان، خاصة حين ترى مشبوهات يسرن في الممرات مع طلاب متعة،
تتجمد تماماً ولا يبقى أمام زوجها، أحمد زكي، إلا الاستجابة لنفورها
الكامل. يخرجان معاً، وقد داهمهما ما يشبه الهزيمة التي تتجلى في أقسى
صورها، حين يزج بهما في صندوق عربة شرطة، لارتكابهما فعلا فاضحاً، فوق هضبة
الهرم. وها هما ينظران بيأس وغضب وانكسار من شبكة شباك عربة الشرطة إلى
شوارع العاصمة المزدحمة.
على خارطة شخصيات نجيب محفوظ، ستجد المرأة القوية، جالبة الضياع
والموت لكل من رغبها واقترب منها، مجسدة في “نادية الجندي” حين قدمت
“زهيرة” في “شهد الملكة” (1985) لحسام الدين مصطفى. كما سترى المهانة ومعنى
الإجحاف في وجه “نبيلة عبيد” حين اغتصبها الفتوّة الطاغية “عادل أدهم” في
“الشيطان يعظ” أمام زوجها نور الشريف.
نور الشريف، صاحب الحظ الأوفر في منجم نجيب محفوظ، دخل عالم الروائي
الكبير من بوابة “قصر الشوق” عندما أسند له حسن الإمام دور كمال عبد
الجواد، وهو أول دور له على شاشة السينما. وبعد أحد عشر عاماً، يمثل ذات
الشخصية في “السكرية” لحسن الإمام، حيث أصبح كمال عبد الجود في خريف العمر،
بعد أن تلاشت آماله، وفشل حبه، ولم يتزوج أو يحقق نجاحاً يذكر، وللحظة،
يخفق قلبه بحب شابة صغيرة تشبه “عايدة”، حبيبة الأيام الخوالي، ويدرك أنها
علاقة لا يمكن أن تنمو أو تستمر. وها هو يتأملها، أمام زجاج محل ملابس،
فتتجلى في عينيه نظرة كابية، تحمل معاني احتضار الأماني، وإدراك قسوة مرور
الزمن، ورثاء الذات. إنه، في هذه اللقطة، يختزل، ويعبر عن صفحات في الكتاب.
نور الشريف من أكثر، وأفضل الممثلين الذين جسدوا المهزومين والخاسرين
عند نجيب محفوظ: إنه “كامل لاظ رؤوبة”، المتلاشي في قوة شخصية والدته،
المنطوي على نفسه، الفاشل في تعليمه وعمله وزواجه، بطل “السراب” لأنور
الشناوي. وهو الذي سرق مرتبات الموظفين من أجل حبيبته “معالي زايد” كي يقضي
معها أياماً جميلة على شاطئ بعيد، ويكتشف أنها مخادعة، خائنة، وتبدأ رحلة
جنونه حين يقبض عليه. ويصل إلى مستوى رفيع من القدرة على الإقناع، في موقف
اغتصاب زوجته، أمامه، فتنطق رقبته، وملامح وجهه، بعروقه النافرة، وعيونه
الجاحظة، بكل ما في “الشيطان يعظ” في مقت للفتوّات، وكراهية لظلم الطغاة،
ورغبة في الثأر، وإحساس مر بالعجز. إنه أحد نجوم السينما المصرية ، وما
أكثرهم، الذين لمعوا في سفينة نجيب محفوظ.
أبوظبي السينمائي في
19/03/2012 |