خلال لقاء بين الملك فاروق وليلي مراد في استراحة مصر الجديدة فوجئت به
يباغتها: "أنت تحبين عبدالوهاب". ردت: "يامولانا أنا أحب فنه". لكن فاروق
اعترض غاضبا: "لا.. أنا واثق بأنك تحبينه هو"، وأتي بحركة باترة من يده وهو
يكمل: "لهذا سوف أخلص عليه لأريح وأستريح". أبلغت ليلي مراد محمد عبدالوهاب
بما حدث فاستولي عليه الرعب، وهرع إلي صديقه عبدالحميد عبدالحق وزير الشئون
الاجتماعية، وروي له ما حدث، فبادره عبدالحق: "نهارك أسود. والله يعملها.
انزل حالا واركب سيارتي، وسأوصي السائق بتوصيلك إلي بلدنا أبو قرقاص،
وسأجعلهم يدبرون اختفاءك هناك، حتي ينساك الملك". جلس عبدالوهاب في السيارة
المتجهة إلي أبو قرقاص مذعورا، وأفكاره تجيبه وتوديه. "يخلص عليه مرة
واحدة". تغور كل نساء الأرض، بل وتغور الموسيقي نفسها. ما الذي ورطه في ذلك
كله؟! في رمضان كان يسمع الذكر والإنشاد الديني، لا في جامع "سيدي
الشعراني" وحده وإنما في كل زوايا الشوارع.. كانت بيوت الأثرياء تهتم
بالاحتفال، كل بيت يجلب شيخا من المشايخ، وكان هو الطفل الذي يعده أهله لأن
يكون شيخا، كأخيه الكبير، يمر علي بيوت الحي ليستمع إلي تلاوتهم واحدا وراء
الآخر. ومع تشجيع الأهل كان شيئا عاديا أن يري عبدالباسط عبد الصمد وأحمد
ندا ومنصور بدران و...، فأغرم بهم جميعا. ولد ونشأ في حارة برجوان التي
أسسها المملوك الفاطمي ذو النفوذ، المحب للشعر والموسيقي والغناء. وقاده
التجوال بين بيوت الناحية رويدا إلي أحياء الجمالية والحسين والأزهر، تحثه
تلاوة القرآن في المساجد والمآتم والمناسبات، وحلقات الإنشاد الديني، التي
جرت رجله إلي الألحان في سرادقات الأفراح، وكل ذلك إلي جوار اللوحة الشعبية
الناطقة بالزغاريد والعديد والصوات والآهات والنداءات و"عيل تايه يا أولاد
الحلال". دائرة واسعة، مثلها في حب الموسيقي والغناء مثل حي باب الشعرية..
حي المغاربة المهاجرين من الأندلس إلي القاهرة.. كان كل ذلك مما لفته رويدا
إلي قيمة الصوت الجميل، والشهرة التي يحظي بها آحاد المغنين، مقارنة بعشرات
المقرئين المغمورين الذين يستمع إليهم. كان نحيلا منزويا مهملا بين أقرانه،
يتوق إلي الظهور والبروز وسطهم.. تشجع مرة وراح يقرأ بعد انصراف شيخ
الكتاب، فتجمع حوله الكبار قبل الصغار، مذهولين باكتشافهم امتلاك النكرة
النحيل الجسد، الصامت دائما، ذلك الصوت الساحر. اتسع مجال النحيل المنزوي
في مملكة الصوت، وهكذا تعود أن يقف في الحارة المجاورة للبيت ينشد، ليتجمع
أقرانه الصغار وهم يتصايحون: "الله صوتك حلو يا محمد" فيشجعه كلامهم علي
الاسترسال، والانتقال من المدائح النبوية إلي أغاني الشيخ سلامة حجازي التي
بات يحفظها، ولا يمل من ترديدها لنفسه وللآخرين. وهكذا استمر الأمر لعب
عيال حتي وقعت الواقعة. خديجة تتضرع إليه كانت خديجة زوجة كاتب وقف مسجد
الشعراني تسكن بجوارهم.. سيدة عمرها 25 سنة (أربعة أمثال عمره).. طويلة
سمراء فاتنة عيناها واسعتان ابتسامتها حلوة، عندما تضحك يري نورا ينبعث من
بين شفتيها من شدة بياض أسنانها وجمالها. كانت فتحا في عالم النساء اللاتي
لم يعرف منهن إلا المبرقعات الكاسيات، أو بكثيره بنات البلد المكسمات
يتمخطران بالخلخال والملاية اللف، لا يري منهن إلا عيون كحيلة تبرق من تحت
البراقع علي جانبي عروسة الأنف الذهببية. ما إن يرتفع صوت المؤذن من جامع
الشعراني، صوفيا متماوجا خاشعا، حتي تناديه خديجة المكشوفة الوجه والصدر
والذراعين بصوت ناعم وتمازحه، وهو يتطلع سعيدا إلي وجهها المريح المضيء.
تغريه بالمثول علي حجرها، تداعب شعره برقة وهو غارس عينيه في وجهها المضيء
يشعر بالدفء والسعادة والظفر. تدعوه أن يغني ما يغني للأطفال في الشارع،
فهي تحب صوته مثلهم. يغني ما تعود أن يعجب الكبار من مدائح، فترجوه وهي
تضمه "لأ بلاش دي. غني دور الشيخ سلامة حجازي عذبيني فمهجتي في يديك". يغني
بينما تعصره في صدرها الطري وتنظر في عينيه نظرة ساحرة، فيذوب بين يديها
ويحس متعة وهناء غريبين. يكاد يدرك للمرة الأولي معاني الأغنية فيرتعش صوته
"عثبيني في مهجتي.. فمهجتي في يديك.. وأمريني فالقلب طوع يديك". لسبب لم
يفهمه ابن السنوات الست طرده زوج خديجة الكهل وحذره من أن يراه في البيت،
وكان يضربه بالفعل إذا لبي نداء خديجة وأدركه وهو مازال عندها.. وليته
اكتفي بزجره وضربه، فقد شكاه لأخيه الشيخ حسن، لينهال عليه هو الآخر لطما
وركلا، ويحظر عليه أن يعدي عتبة بيت الكاتب. لكن ماذا يمكن أن يفعل اللطم
والركل أمام ذراعي وصدر وعيون وحضن خديجة. لم يعد قادرا علي الشفاء منها.
بقي علي حبها يتطلع إليها حتي بعد أن فرقوا بينهما، وبات دور "عثبيني..."
الذي تطلبه أكثر ما يحب أن يغني، يتصور نفسه في حجرها ويشدو به أينما كان،
وبأحاسيس ومشاعر لم يعرفها حتي في حجرها. من حجر خديجة إلي المسرح لم يقتصر
الإعجاب علي جارتهم خديجة. اقترح جار آخر أن يصحبه إلي صاحب مسرح يدعي فوزي
الجزائرلي في الحسين. كأي طفل كان يود أن يعرف ماذا يدور في المسرح. فَرِح
وذهب معه. وحين سمعه الجزائرلي في كواليس المسرح يغني عذبيني فمهجتي..."
انبسط كثيرا وسأله: طيب تقدر تغني الأغنية التي غنيتها علي الناس اللي
بره.. إذا لم تخف سأعطيك خمسة قروش؟! كان المبلغ ثروة طائلة. فرد في
صبيانية نزقة فاقعة "طبعا أقدر".. دخل المسرح وغني، مما يخاف وقد سبق وأن
غناها عشرات المرات ليس في حجر خديجة فقط، وإنما للصبية الذين يحفظون
القرآن في كتاب الشيخ عاشور وللأطفال في الحارة. هكذا جعله الجزائرلي يغني
وهو مازال في العاشرة (عام 1907) بين فصول الروايات التمثيلية التي يقدمها،
أدوار (أغنيات) المطربين الكبار مثل سلامة حجازي وعبده الحامولي ولكن
الأسرة فرضت عليه، لما اكتشفت الأمر رقابة صارمة (علاوة علي العلقة
الساخنة)، ورأت شغل وقته وإبعاده عن هذه الترهات، بإلحاقه للعمل صبيا عند
أحد الترزية. لكن تصاريف القدر رتبت أن يكون هذا الترزي محبا للغناء، فعمل
علي فك حلقة الحصار المضروبة حوله، حتي تتنفس رغبته وتنمو. وكأن محمد يوسف-
الجار الذي يعمل مرددا في بطانات المغنين- كان له بالمرصاد: تحب تروح
السيرك؟ أين هذا السيرك؟ اقترح عليه الذهاب للغناء في سيرك دمنهور، ودبر له
وسيله الهرب من الأسرة بالقاهرة. ولم يكن أحد يدرك أن القدر يخبيء له بذلك
مفاجأة مذهلة، فهناك كان الشيخ سيد درويش يجلس بين الجمهور، واستمع لصوتي،
ولما انتهي من الغناء تقدم منه ورفعه من علي الأرض بين ذراعيه وقبله وقال
له "كويس يا شاطر". لم أكن أدرك ساعتها قيمة سيد درويش أو أعرف قيمة لقائي
به مصادفة، لكنني أحسست بأن شيئا جللا قد حدث حين رأيت ما نزل علي جارنا
محمد يوسف من فرح.. راح يتباهي باكتشافه للصبي الذي حرص سيد درويش شخصيا
علي مصافحته وتشجيعه، وعزز التباهي اهتزازه، هو الطفل الصغير، للقاء سيد
درويش. لم يكن أمام الأسرة في النهاية إلا الاعتراف بالأمر الواقع، فأقرت
بعدم ممانعتها في اشتغال الابن محمد بالفن والغناء، شريطة ألا يعمل إلا مع
الجوقات المحترمة، وأن يبتعد عن الفرق والحفلات المبتذلة، وهكذا انضم
عبدالوهاب إلي فرقة عبدالرحمن رشدي، الذي كان محاميا درس القانون. إلا أن
القدر كان يخبيء له مفاجأة مرة، فقد رآه أحمد شوقي (1912) وهو يغني فطلب من
الحكمدار الإنجليزي وقف مهزلة استغلال طفل في العمل إلي ساعة متأخرة من
ساعات الليل، بينما يقتضي الواجب أن يكون في فراشه. منديل زينب ونادي
الموسيقي المهم إنه عاد يغني للصبية في الحارة، بينما يستعيد في وحدته حجر
خديجة وصدرها ويغني "عذبيني عذبيني..."، إلي أن التقي زينب. كان أحد
أصدقائه يسكن في حي الحلمية. وكان الصحاب بجتمعون في بيته الفخم، ويطلبون
من عبدالوهاب أن يغني لهم. وسمعت زينب أخت صديقه غنائه من بعيد فأعجبت به،
ولما اقتربت ورآها هام غراما بها. التقاها مصادفة يوما في حوش البيت،
فتلفتت حولها في ارتباك قبل أن تتجه إليه، ولم يدر إلا ومنديلها بين يديه!
سافر أخاها في بعثة إلي لندن فلم يعد يراها، وصار المنديل سلوي تشده إلي
عالم الموسيقي والغناء. يسر له بعض المعجبين بموهبته تحصيل المعارف
الموسيقية، سواء في نادي الموسيقي الشرقي (معهد الموسيقي العربية فيما بعد)
أو في معهد برجيون الإيطالي (الموسيقي الأوربية)، ليكون بين أول العازفين
والمغنين الذين تعلموا في "نادي الموسيقي الشرقي" لا الغناء وعزف العود
وحدهما، بل إتقان القراءة والكتابة أيضا. ولم تكن الدراسة في النادي نظامية
بل كانت ندوات واجتماعات وحلقات، تمرس فيها وخرج منها بالكثير. ولإدراكه أن
العزف، مثلها، بين الأسلحة التي تحمي صوته من الضياع، أقبل عليهما بحماس
منقطع النظير، فملكا عليه أحاسيسه ومشاعره وأحلامه، وشغلاه عن كل ماعداهما.
واظب علي تحصيل المعارف الموسيقية، ولم يقف عند ذلك بل مضي بجد وحمية مع
الزمن في تعلم وإجادة العزف علي الآلات. جامعة سيد درويش ومن خلال دراسته
توقف عبدالوهاب في إعجاب ودهشة أمام نتاج سيد درويش، وعندما راح يقلده ثار
عليه أساتذة نادي الموسيقي، لكنهم لم يتخذوا إجراء ضده لأنهم كانوا في حاجة
إليه. كان النادي يقدمه في حفلاته للسلطان علي أنه طالب بالنادي، الذي كان
يحصل علي إعانات من الدولة بسبب ذلك. وعندما انفصل جزء من النادي ليصبح
معهدا للموسيقي تابعا للحكومة، وبات النادي في غني عن الحفلات، لم يطق
القائمون عليه محاولة الفتي اقتفاء أثر سيد درويش في التجديد، واجتمع مجلس
إدارة النادي وقرر فصله. لكن الفتي فوجئ بسيد درويش نفسه يستدعيه- عام
1921- ليسند إليه دورًا في رواية "كليوباترا". كان عبء المرض يثقل رويدا
علي درويش، فأدي عبدالوهاب دور البطل- زعبله- بدلا منه، كما سافر عبدالوهاب
إلي فلسطين وسوريا ضمن فرقة نجيب الريحاني، وأدي الأدوار الغنائية الرئيسية
في المسرحيات التي عرضتها الفرقة من تلحين سيد درويش. وظل عبدالوهاب يغني
هذه الألحان ما يناهز العامين، اقترب خلالهما كثيرا من الشيخ سيد الذي كان
يقوم بتحفيظه الألحان، لأن أكثرها لم يكن مدونا. وفي عام 1923 توفي سيد
درويش دون أن يتم تلحينه لمسرحية "كليوباترا ومارك انطونيو". حجر شوقي أو
جامعة الفكر والمعرفة المهم أن عبدالوهاب وجد نفسه بعد وفاة سيد درويش، وقد
فقد المرشد والأستاذ، يعود القهقري مؤجرا صوته هنا وهناك، لولا أن ساقه
القدر للقاء أحمد شوقي من جديد. كان يغني في حفل عام، واستقبله شوقي بود
شديد، وهنأه علي جمال صوته البديع، بل واهتم بترضيته فأوضح له أن حرصه عليه
وعلي موهبته كان وراء بلاغه للحكمدار في المرة الأولي، حتي يعصمه من الغرق
في مستنقع استنزاف مواهبه الغضة الخضراء، علي نحو تجاري فظ. ومن يومها تبني
شوقي الفتي فنيا، أو تعهده بالتعليم والتثقيف والتربية، وعمل علي دفع رحلة
تكوينه إلي ذري ودروب جديدة. كان يصحبه إلي زيارة كبار الكتّاب والمفكرين:
طه حسين ومحمد حسين هيكل ولطفي السيد وتوفيق دياب وأنطون والمويلحي وداود
بركات، بل وكبار السياسيين مثل سعد زغلول وعدلي يكن وعبدالخالق ثروت وماهر
والنقراشي. ووعي الشاب الغض العود وصية شوقي بالإنصات المتمعن في هذه
المجالس، وكان قد تمرس علي ذلك في نادي الموسيقي، الذي كانت الدراسة فيه
ندوات واجتماعات وحلقات، فاستمع في حجر شوقي إلي أكثر المصريين ثقافة وخبرة
بأمور الحياة، فصاروا الجامعة التي درس فيها أرقي ألوان المعرفة. ومن هنا
تعلم الشاب أن ينصت- دوما- أكثر مما يتحدث، وصار مستمعا جيدا لديه أجهزة
التقاط حساسة، تمنحه القدرة علي استيعاب أفكار الآخرين، وكأنه صائغ موهوب
متميز يعرف كيف يتصيد الجواهر والأحجار الكريمة- بعد طرد ما هو غث من أفكار
هذا وأقوال ذاك- ويجيد اختزانها ويعيد صياغتها وتقديمها، حتي أفضل مما
ذكرها أصحابها. وكان من نتيجة معايشته للصفوة الشاعرة والناقدة والمتأدبة
أن عرف قيمة "الكلمة" وأن نقل الأغنية من مجلس الطرب (خدمة مجموعة من
الندامي الساهرين) إلي التعبير عن ذاته وأفكاره ورؤيته. ومن خلال نعومة
اللحن وصقل النغم والتجديد في الأداء استطاع أن يوصل الكثير مما يبدو صعبا
من مفردات الشعر، وصوره علي نحو يستطيع الناس استقباله بيسر، ليصبح الشعر
العربي عامة وشوقي خاصة مدينين له بالانتشار علي نطاق واسع بين الجمهور
العادي. سعي شوقي حتي كلفت منيرة المهدية الشاب، الذي شهد له سيد درويش قبل
وفاته، بإكمال تلحين مسرحية "كليوباترا ومارك انطونيو". ونقلته منيرة
المهدية نقلة هائلة إذ لم يظهر اسمه شريكا لسيد درويش في تلحين الرواية
فقط، لأن "فرقة منيرة المهدية" ساهمت أيضا في نقله من صالونات الأمراء إلي
مسارح الشعب التي غني فيها "ياجارة الوادي، بلبل الحيران، كلنا نحب القمر،
خايف أقول اللي في قلبي". ليتحول من مطرب الملوك والأمراء الذي يغني داخل
البيوت الكبيرة وفي الحفلات الخاصة، ويرتبط بعلاقة أقوي مع الجمهور الأكبر،
ويصبح مطرب الشعب. والذي لا يعرفه أحد أن منديل زينب ظل طوال هذه الرحلة
بين يديه.. بقي 15 سنة يشمه ليرتشف من عطره شذا الوجد. لقد أدمن تلحين
أغاني الحب وهذا المنديل بين يديه، يوحي إليه بالنغم! يري فيه صورتها ويشم
رائحتها ورائحة النشوة. وهكذا ظل المنديل ملهمه الأثير حتي. ابن رئيس
الوزراء خطف حبيبته يوما كان عائدا من الإسكندرية. والقطار في بنها سمع نبأ
وفاة شوقي. نزل من القطار في القاهرة وتوجه مباشرة إلي الكرمة فوجد الدنيا
مقلوبة وسرادق المأتم ينصب. دخل البيت من باب المطبخ، وما كاد يخطو خطوات
حتي وجد نفسه أمامها. كانت قريبة لشوقي شغف بحبها، حبا مجنونا. لكنهما لم
يتكلما أبدا إلا عبر نظرات متفرقات، فلم يجرؤ يوما أن يجلس بجوارها أو يلمس
يدها أو يقول لها أحبك. كانت هيبة أسرة شوقي تقف بينهما.. كان شوقي بالنسبة
له ملكا، فكيف يمكن أن يخطر ببال المملوك التفكير في الزواج من ابنة الملك؟
ما أن رأته يوم وفاة رب نعمته حتي اندفعت إليه وعانقته وقبلته. كانت مفاجأة
أذهلته، جعل يتلفت حوله ويرتجف وحاول أن يبتعد، لكنها ضمته أكثر وراحت
تصيح: "أتركني أقبلك فقد كان شوقي يحبك". هالته مفارقة أن تكون أول قبلة
لحبيبته في هذا اليوم. لكنه عاش شهورا يستوحي عطر قبلتها ويشدو. حتي فوجئ
برئيس الوزراء يدعوه للغناء في عرس ابنه، ولسخرية الأقدار من حبيبته ذاتها.
وهكذا راح ينزف ليزف حبيبته التي تمني أن تكون زوجته. كان قلبه يتمزق وهو
يحاول أن يتظاهر بالفرح في ليلة مصرعه، ويجاهر بالضحك وقلبه يبكي. أيام
تركته هذه الفتاة مفضلة ابن رئيس الوزراء لجأ إلي الشاعر سعيد عبده وطلب
منه كتابة أغنية "كان عهدي عهدك في الهوي، يا نعيش سوا يا نموت سوا، أحلام
وطارت في الهوا، تركت مريضي من غير دوا". لم يكن الغناء عبثا. كان يترجم
عذابه وشقائه وهوانه. كان دموعه وآهاته وشهقاته. إذا أراد أن يصرخ ويتأوه
غني لتضمد الألحان جراحه. لقد خفق قلبه بالموسيقي دوما. كلما أحب امرأة غني
لها وغني عنها. كل لحن من ألحانه هو قصة من قصص قلبه. كل كلمة من الأغاني
خيط في نسيج يروي خفقات ودقات فؤاده ودموعه وآهاته. كسرت زبيدة إحساسه
بالعجز ولم يكن له حيلة في الأمر حتي بعد الزواج من زبيدة الحكيم، السيدة
الثرية التي تكبره بعشرين عاما، ويؤم صالونها الوزراء وكبار رجال الدولة..
كانت قد رأته في حفل ساهر أقامته في عوامة تملكها، وأدهشها إعجاب السيدات
به، إذ كان "حزب عبدالوهاب" قد تشكل وكانت أغلبيته من النساء.. تمعنت
ملامحه الهائمة في دنيا الوجد، وحزمت أمرها وقالت "والله لاخده منهن كلهن".
ووجد فيها عوضا عن صدر خديجة ومنديل زينب، وربما كان الأهم أنها زلزلت
هيبته أسرة شوقي التي منعت أن يخطر ببال المملوك التفكير في الزواج من ابنة
الملك؟ لقد كسرت زبيدة إحساسه بالعجز ومكنته من نقل جو مليكه أمير الشعراء
إلي بيته. كانت ذواقة خبيرة بالحياة، وكانت تسافر كل عام إلي أوروبا فتصحبه
معها، وتعلمه كيف ينتقي ملابسه وكيف يفتح صالونا، وتتيح له معرفة أعظم
الناس في بيتهما- لا في بيت مليكه شوقي- كما أنها أنفقت علي أول أفلامه
"الوردة البيضاء".. ورغم مرور عامين علي واقعة حبيبته وابن الوزير فقد وضع
في الفيلم مواقف من قصتهما، وكانت أغنية "يالوعتي ياشقايا ياضني حالي"
تنطبق علي شقائه في هذا الهوي، كما كانت أغنية "ياوردة الحب الصافي"
مستوحاة من وقائع قصة حبه.. عندما كانت الفتاة تجيء وتنزع وردة وتقدمها له
وهو يجلس في حديقة الكرمة وتنصرف، دون أن تقول كلمة واحدة، لتصبح هذه
الوردة سلواه. يشمها ويقبلها وإلي أن تهديه وردة أخري. وكانت أغنية "ضحيت
غرامي علشان هناكي" تقرر واقع تنحيه حتي تسعد محبوبته مع ابن. كانت السيارة
قد قاربت مشارف أبي قرقاص وكان محصورا، وحين يفكر فيما قاله الملك لليلي
يكاد يفعلها علي نفسه.. بينما سائق عبدالحميد عبدالحق يرفع عليه مسدسه
مهددا، تنفيذا لتعليمات الوزير بعدم نزوله من السيارة حتي يسلمه في
أبوقرقاص. لم يكن ينقصها إلا هذا المغفل.. يخرب بيت الموسيقي وسيد درويش
وشوقي، ومنها لله عزيزة أمير التي جذبه فيلمها "ليلي" للسينما ودفعه إلي أن
يطلب من محمد كريم أن يصنعا معا أفلام جعلت فضيحته بجلاجل، ووطدت علاقته
بأمثال ليلي مراد، ليأتي صاحب الجلالة ويسعي إلي قتله.. أين كل هذا من أيام
كانت تعصره خديجة في صدرها الطري وتنظر في عينيه نظرة ساحرة، فيذوب بين
يديها ويحس متعة وهناء غريبين. يكاد يدرك للمرة الأولي معاني ما يرتعش به
صوته "عذبيني في مهجتي.. فمهجتي في يديك.. وأمريني فالقلب طوع يديك". يوم
أن قرر الملك فاروق قتل محمد عبدالوهاب خلال لقاء بين الملك فاروق وليلي
مراد في استراحة مصر الجديدة فوجئت به يباغتها: "أنت تحبين عبدالوهاب".
ردت: "يامولانا أنا أحب فنه". لكن فاروق اعترض غاضبا: "لا.. أنا واثق بأنك
تحبينه هو"، وأتي بحركة باترة من يده وهو يكمل: "لهذا سوف أخلص عليه لأريح
وأستريح". أبلغت ليلي مراد محمد عبدالوهاب بما حدث فاستولي عليه الرعب،
وهرع إلي صديقه عبدالحميد عبدالحق وزير الشئون الاجتماعية، وروي له ما حدث،
فبادره عبدالحق: "نهارك أسود. والله يعملها. انزل حالا واركب سيارتي،
وسأوصي السائق بتوصيلك إلي بلدنا أبو قرقاص، وسأجعلهم يدبرون اختفاءك هناك،
حتي ينساك الملك". جلس عبدالوهاب في السيارة المتجهة إلي أبو قرقاص مذعورا،
وأفكاره تجيبه وتوديه. "يخلص عليه مرة واحدة". تغور كل نساء الأرض، بل
وتغور الموسيقي نفسها. ما الذي ورطه في ذلك كله؟! في رمضان كان يسمع الذكر
والإنشاد الديني، لا في جامع "سيدي الشعراني" وحده وإنما في كل زوايا
الشوارع.. كانت بيوت الأثرياء تهتم بالاحتفال، كل بيت يجلب شيخا من
المشايخ، وكان هو الطفل الذي يعده أهله لأن يكون شيخا، كأخيه الكبير، يمر
علي بيوت الحي ليستمع إلي تلاوتهم واحدا وراء الآخر. ومع تشجيع الأهل كان
شيئا عاديا أن يري عبدالباسط عبد الصمد وأحمد ندا ومنصور بدران و...، فأغرم
بهم جميعا. ولد ونشأ في حارة برجوان التي أسسها المملوك الفاطمي ذو النفوذ،
المحب للشعر والموسيقي والغناء. وقاده التجوال بين بيوت الناحية رويدا إلي
أحياء الجمالية والحسين والأزهر، تحثه تلاوة القرآن في المساجد والمآتم
والمناسبات، وحلقات الإنشاد الديني، التي جرت رجله إلي الألحان في سرادقات
الأفراح، وكل ذلك إلي جوار اللوحة الشعبية الناطقة بالزغاريد والعديد
والصوات والآهات والنداءات و"عيل تايه يا أولاد الحلال". دائرة واسعة،
مثلها في حب الموسيقي والغناء مثل حي باب الشعرية.. حي المغاربة المهاجرين
من الأندلس إلي القاهرة.. كان كل ذلك مما لفته رويدا إلي قيمة الصوت
الجميل، والشهرة التي يحظي بها آحاد المغنين، مقارنة بعشرات المقرئين
المغمورين الذين يستمع إليهم. كان نحيلا منزويا مهملا بين أقرانه، يتوق إلي
الظهور والبروز وسطهم.. تشجع مرة وراح يقرأ بعد انصراف شيخ الكتاب، فتجمع
حوله الكبار قبل الصغار، مذهولين باكتشافهم امتلاك النكرة النحيل الجسد،
الصامت دائما، ذلك الصوت الساحر. اتسع مجال النحيل المنزوي في مملكة الصوت،
وهكذا تعود أن يقف في الحارة المجاورة للبيت ينشد، ليتجمع أقرانه الصغار
وهم يتصايحون: "الله صوتك حلو يا محمد" فيشجعه كلامهم علي الاسترسال،
والانتقال من المدائح النبوية إلي أغاني الشيخ سلامة حجازي التي بات
يحفظها، ولا يمل من ترديدها لنفسه وللآخرين. وهكذا استمر الأمر لعب عيال
حتي وقعت الواقعة. خديجة تتضرع إليه كانت خديجة زوجة كاتب وقف مسجد
الشعراني تسكن بجوارهم.. سيدة عمرها 25 سنة (أربعة أمثال عمره).. طويلة
سمراء فاتنة عيناها واسعتان ابتسامتها حلوة، عندما تضحك يري نورا ينبعث من
بين شفتيها من شدة بياض أسنانها وجمالها. كانت فتحا في عالم النساء اللاتي
لم يعرف منهن إلا المبرقعات الكاسيات، أو بكثيره بنات البلد المكسمات
يتمخطران بالخلخال والملاية اللف، لا يري منهن إلا عيون كحيلة تبرق من تحت
البراقع علي جانبي عروسة الأنف الذهببية. ما إن يرتفع صوت المؤذن من جامع
الشعراني، صوفيا متماوجا خاشعا، حتي تناديه خديجة المكشوفة الوجه والصدر
والذراعين بصوت ناعم وتمازحه، وهو يتطلع سعيدا إلي وجهها المريح المضيء.
تغريه بالمثول علي حجرها، تداعب شعره برقة وهو غارس عينيه في وجهها المضيء
يشعر بالدفء والسعادة والظفر. تدعوه أن يغني ما يغني للأطفال في الشارع،
فهي تحب صوته مثلهم. يغني ما تعود أن يعجب الكبار من مدائح، فترجوه وهي
تضمه "لأ بلاش دي. غني دور الشيخ سلامة حجازي عذبيني فمهجتي في يديك". يغني
بينما تعصره في صدرها الطري وتنظر في عينيه نظرة ساحرة، فيذوب بين يديها
ويحس متعة وهناء غريبين. يكاد يدرك للمرة الأولي معاني الأغنية فيرتعش صوته
"عثبيني في مهجتي.. فمهجتي في يديك.. وأمريني فالقلب طوع يديك". لسبب لم
يفهمه ابن السنوات الست طرده زوج خديجة الكهل وحذره من أن يراه في البيت،
وكان يضربه بالفعل إذا لبي نداء خديجة وأدركه وهو مازال عندها.. وليته
اكتفي بزجره وضربه، فقد شكاه لأخيه الشيخ حسن، لينهال عليه هو الآخر لطما
وركلا، ويحظر عليه أن يعدي عتبة بيت الكاتب. لكن ماذا يمكن أن يفعل اللطم
والركل أمام ذراعي وصدر وعيون وحضن خديجة. لم يعد قادرا علي الشفاء منها.
بقي علي حبها يتطلع إليها حتي بعد أن فرقوا بينهما، وبات دور "عثبيني..."
الذي تطلبه أكثر ما يحب أن يغني، يتصور نفسه في حجرها ويشدو به أينما كان،
وبأحاسيس ومشاعر لم يعرفها حتي في حجرها. من حجر خديجة إلي المسرح لم يقتصر
الإعجاب علي جارتهم خديجة. اقترح جار آخر أن يصحبه إلي صاحب مسرح يدعي فوزي
الجزائرلي في الحسين. كأي طفل كان يود أن يعرف ماذا يدور في المسرح. فَرِح
وذهب معه. وحين سمعه الجزائرلي في كواليس المسرح يغني عذبيني فمهجتي..."
انبسط كثيرا وسأله: طيب تقدر تغني الأغنية التي غنيتها علي الناس اللي
بره.. إذا لم تخف سأعطيك خمسة قروش؟! كان المبلغ ثروة طائلة. فرد في
صبيانية نزقة فاقعة "طبعا أقدر".. دخل المسرح وغني، مما يخاف وقد سبق وأن
غناها عشرات المرات ليس في حجر خديجة فقط، وإنما للصبية الذين يحفظون
القرآن في كتاب الشيخ عاشور وللأطفال في الحارة. هكذا جعله الجزائرلي يغني
وهو مازال في العاشرة (عام 1907) بين فصول الروايات التمثيلية التي يقدمها،
أدوار (أغنيات) المطربين الكبار مثل سلامة حجازي وعبده الحامولي ولكن
الأسرة فرضت عليه، لما اكتشفت الأمر رقابة صارمة (علاوة علي العلقة
الساخنة)، ورأت شغل وقته وإبعاده عن هذه الترهات، بإلحاقه للعمل صبيا عند
أحد الترزية. لكن تصاريف القدر رتبت أن يكون هذا الترزي محبا للغناء، فعمل
علي فك حلقة الحصار المضروبة حوله، حتي تتنفس رغبته وتنمو. وكأن محمد يوسف-
الجار الذي يعمل مرددا في بطانات المغنين- كان له بالمرصاد: تحب تروح
السيرك؟ أين هذا السيرك؟ اقترح عليه الذهاب للغناء في سيرك دمنهور، ودبر له
وسيله الهرب من الأسرة بالقاهرة. ولم يكن أحد يدرك أن القدر يخبيء له بذلك
مفاجأة مذهلة، فهناك كان الشيخ سيد درويش يجلس بين الجمهور، واستمع لصوتي،
ولما انتهي من الغناء تقدم منه ورفعه من علي الأرض بين ذراعيه وقبله وقال
له "كويس يا شاطر". لم أكن أدرك ساعتها قيمة سيد درويش أو أعرف قيمة لقائي
به مصادفة، لكنني أحسست بأن شيئا جللا قد حدث حين رأيت ما نزل علي جارنا
محمد يوسف من فرح.. راح يتباهي باكتشافه للصبي الذي حرص سيد درويش شخصيا
علي مصافحته وتشجيعه، وعزز التباهي اهتزازه، هو الطفل الصغير، للقاء سيد
درويش. لم يكن أمام الأسرة في النهاية إلا الاعتراف بالأمر الواقع، فأقرت
بعدم ممانعتها في اشتغال الابن محمد بالفن والغناء، شريطة ألا يعمل إلا مع
الجوقات المحترمة، وأن يبتعد عن الفرق والحفلات المبتذلة، وهكذا انضم
عبدالوهاب إلي فرقة عبدالرحمن رشدي، الذي كان محاميا درس القانون. إلا أن
القدر كان يخبيء له مفاجأة مرة، فقد رآه أحمد شوقي (1912) وهو يغني فطلب من
الحكمدار الإنجليزي وقف مهزلة استغلال طفل في العمل إلي ساعة متأخرة من
ساعات الليل، بينما يقتضي الواجب أن يكون في فراشه. منديل زينب ونادي
الموسيقي المهم إنه عاد يغني للصبية في الحارة، بينما يستعيد في وحدته حجر
خديجة وصدرها ويغني "عذبيني عذبيني..."، إلي أن التقي زينب. كان أحد
أصدقائه يسكن في حي الحلمية. وكان الصحاب بجتمعون في بيته الفخم، ويطلبون
من عبدالوهاب أن يغني لهم. وسمعت زينب أخت صديقه غنائه من بعيد فأعجبت به،
ولما اقتربت ورآها هام غراما بها. التقاها مصادفة يوما في حوش البيت،
فتلفتت حولها في ارتباك قبل أن تتجه إليه، ولم يدر إلا ومنديلها بين يديه!
سافر أخاها في بعثة إلي لندن فلم يعد يراها، وصار المنديل سلوي تشده إلي
عالم الموسيقي والغناء. يسر له بعض المعجبين بموهبته تحصيل المعارف
الموسيقية، سواء في نادي الموسيقي الشرقي (معهد الموسيقي العربية فيما بعد)
أو في معهد برجيون الإيطالي (الموسيقي الأوربية)، ليكون بين أول العازفين
والمغنين الذين تعلموا في "نادي الموسيقي الشرقي" لا الغناء وعزف العود
وحدهما، بل إتقان القراءة والكتابة أيضا. ولم تكن الدراسة في النادي نظامية
بل كانت ندوات واجتماعات وحلقات، تمرس فيها وخرج منها بالكثير. ولإدراكه أن
العزف، مثلها، بين الأسلحة التي تحمي صوته من الضياع، أقبل عليهما بحماس
منقطع النظير، فملكا عليه أحاسيسه ومشاعره وأحلامه، وشغلاه عن كل ماعداهما.
واظب علي تحصيل المعارف الموسيقية، ولم يقف عند ذلك بل مضي بجد وحمية مع
الزمن في تعلم وإجادة العزف علي الآلات. جامعة سيد درويش ومن خلال دراسته
توقف عبدالوهاب في إعجاب ودهشة أمام نتاج سيد درويش، وعندما راح يقلده ثار
عليه أساتذة نادي الموسيقي، لكنهم لم يتخذوا إجراء ضده لأنهم كانوا في حاجة
إليه. كان النادي يقدمه في حفلاته للسلطان علي أنه طالب بالنادي، الذي كان
يحصل علي إعانات من الدولة بسبب ذلك. وعندما انفصل جزء من النادي ليصبح
معهدا للموسيقي تابعا للحكومة، وبات النادي في غني عن الحفلات، لم يطق
القائمون عليه محاولة الفتي اقتفاء أثر سيد درويش في التجديد، واجتمع مجلس
إدارة النادي وقرر فصله. لكن الفتي فوجئ بسيد درويش نفسه يستدعيه- عام
1921- ليسند إليه دورًا في رواية "كليوباترا". كان عبء المرض يثقل رويدا
علي درويش، فأدي عبدالوهاب دور البطل- زعبله- بدلا منه، كما سافر عبدالوهاب
إلي فلسطين وسوريا ضمن فرقة نجيب الريحاني، وأدي الأدوار الغنائية الرئيسية
في المسرحيات التي عرضتها الفرقة من تلحين سيد درويش. وظل عبدالوهاب يغني
هذه الألحان ما يناهز العامين، اقترب خلالهما كثيرا من الشيخ سيد الذي كان
يقوم بتحفيظه الألحان، لأن أكثرها لم يكن مدونا. وفي عام 1923 توفي سيد
درويش دون أن يتم تلحينه لمسرحية "كليوباترا ومارك انطونيو". حجر شوقي أو
جامعة الفكر والمعرفة المهم أن عبدالوهاب وجد نفسه بعد وفاة سيد درويش، وقد
فقد المرشد والأستاذ، يعود القهقري مؤجرا صوته هنا وهناك، لولا أن ساقه
القدر للقاء أحمد شوقي من جديد. كان يغني في حفل عام، واستقبله شوقي بود
شديد، وهنأه علي جمال صوته البديع، بل واهتم بترضيته فأوضح له أن حرصه عليه
وعلي موهبته كان وراء بلاغه للحكمدار في المرة الأولي، حتي يعصمه من الغرق
في مستنقع استنزاف مواهبه الغضة الخضراء، علي نحو تجاري فظ. ومن يومها تبني
شوقي الفتي فنيا، أو تعهده بالتعليم والتثقيف والتربية، وعمل علي دفع رحلة
تكوينه إلي ذري ودروب جديدة. كان يصحبه إلي زيارة كبار الكتّاب والمفكرين:
طه حسين ومحمد حسين هيكل ولطفي السيد وتوفيق دياب وأنطون والمويلحي وداود
بركات، بل وكبار السياسيين مثل سعد زغلول وعدلي يكن وعبدالخالق ثروت وماهر
والنقراشي. ووعي الشاب الغض العود وصية شوقي بالإنصات المتمعن في هذه
المجالس، وكان قد تمرس علي ذلك في نادي الموسيقي، الذي كانت الدراسة فيه
ندوات واجتماعات وحلقات، فاستمع في حجر شوقي إلي أكثر المصريين ثقافة وخبرة
بأمور الحياة، فصاروا الجامعة التي درس فيها أرقي ألوان المعرفة. ومن هنا
تعلم الشاب أن ينصت- دوما- أكثر مما يتحدث، وصار مستمعا جيدا لديه أجهزة
التقاط حساسة، تمنحه القدرة علي استيعاب أفكار الآخرين، وكأنه صائغ موهوب
متميز يعرف كيف يتصيد الجواهر والأحجار الكريمة- بعد طرد ما هو غث من أفكار
هذا وأقوال ذاك- ويجيد اختزانها ويعيد صياغتها وتقديمها، حتي أفضل مما
ذكرها أصحابها. وكان من نتيجة معايشته للصفوة الشاعرة والناقدة والمتأدبة
أن عرف قيمة "الكلمة" وأن نقل الأغنية من مجلس الطرب (خدمة مجموعة من
الندامي الساهرين) إلي التعبير عن ذاته وأفكاره ورؤيته. ومن خلال نعومة
اللحن وصقل النغم والتجديد في الأداء استطاع أن يوصل الكثير مما يبدو صعبا
من مفردات الشعر، وصوره علي نحو يستطيع الناس استقباله بيسر، ليصبح الشعر
العربي عامة وشوقي خاصة مدينين له بالانتشار علي نطاق واسع بين الجمهور
العادي. سعي شوقي حتي كلفت منيرة المهدية الشاب، الذي شهد له سيد درويش قبل
وفاته، بإكمال تلحين مسرحية "كليوباترا ومارك انطونيو". ونقلته منيرة
المهدية نقلة هائلة إذ لم يظهر اسمه شريكا لسيد درويش في تلحين الرواية
فقط، لأن "فرقة منيرة المهدية" ساهمت أيضا في نقله من صالونات الأمراء إلي
مسارح الشعب التي غني فيها "ياجارة الوادي، بلبل الحيران، كلنا نحب القمر،
خايف أقول اللي في قلبي". ليتحول من مطرب الملوك والأمراء الذي يغني داخل
البيوت الكبيرة وفي الحفلات الخاصة، ويرتبط بعلاقة أقوي مع الجمهور الأكبر،
ويصبح مطرب الشعب. والذي لا يعرفه أحد أن منديل زينب ظل طوال هذه الرحلة
بين يديه.. بقي 15 سنة يشمه ليرتشف من عطره شذا الوجد. لقد أدمن تلحين
أغاني الحب وهذا المنديل بين يديه، يوحي إليه بالنغم! يري فيه صورتها ويشم
رائحتها ورائحة النشوة. وهكذا ظل المنديل ملهمه الأثير حتي. ابن رئيس
الوزراء خطف حبيبته يوما كان عائدا من الإسكندرية. والقطار في بنها سمع نبأ
وفاة شوقي. نزل من القطار في القاهرة وتوجه مباشرة إلي الكرمة فوجد الدنيا
مقلوبة وسرادق المأتم ينصب. دخل البيت من باب المطبخ، وما كاد يخطو خطوات
حتي وجد نفسه أمامها. كانت قريبة لشوقي شغف بحبها، حبا مجنونا. لكنهما لم
يتكلما أبدا إلا عبر نظرات متفرقات، فلم يجرؤ يوما أن يجلس بجوارها أو يلمس
يدها أو يقول لها أحبك. كانت هيبة أسرة شوقي تقف بينهما.. كان شوقي بالنسبة
له ملكا، فكيف يمكن أن يخطر ببال المملوك التفكير في الزواج من ابنة الملك؟
ما أن رأته يوم وفاة رب نعمته حتي اندفعت إليه وعانقته وقبلته. كانت مفاجأة
أذهلته، جعل يتلفت حوله ويرتجف وحاول أن يبتعد، لكنها ضمته أكثر وراحت
تصيح: "أتركني أقبلك فقد كان شوقي يحبك". هالته مفارقة أن تكون أول قبلة
لحبيبته في هذا اليوم. لكنه عاش شهورا يستوحي عطر قبلتها ويشدو. حتي فوجئ
برئيس الوزراء يدعوه للغناء في عرس ابنه، ولسخرية الأقدار من حبيبته ذاتها.
وهكذا راح ينزف ليزف حبيبته التي تمني أن تكون زوجته. كان قلبه يتمزق وهو
يحاول أن يتظاهر بالفرح في ليلة مصرعه، ويجاهر بالضحك وقلبه يبكي. أيام
تركته هذه الفتاة مفضلة ابن رئيس الوزراء لجأ إلي الشاعر سعيد عبده وطلب
منه كتابة أغنية "كان عهدي عهدك في الهوي، يا نعيش سوا يا نموت سوا، أحلام
وطارت في الهوا، تركت مريضي من غير دوا". لم يكن الغناء عبثا. كان يترجم
عذابه وشقائه وهوانه. كان دموعه وآهاته وشهقاته. إذا أراد أن يصرخ ويتأوه
غني لتضمد الألحان جراحه. لقد خفق قلبه بالموسيقي دوما. كلما أحب امرأة غني
لها وغني عنها. كل لحن من ألحانه هو قصة من قصص قلبه. كل كلمة من الأغاني
خيط في نسيج يروي خفقات ودقات فؤاده ودموعه وآهاته. كسرت زبيدة إحساسه
بالعجز ولم يكن له حيلة في الأمر حتي بعد الزواج من زبيدة الحكيم، السيدة
الثرية التي تكبره بعشرين عاما، ويؤم صالونها الوزراء وكبار رجال الدولة..
كانت قد رأته في حفل ساهر أقامته في عوامة تملكها، وأدهشها إعجاب السيدات
به، إذ كان "حزب عبدالوهاب" قد تشكل وكانت أغلبيته من النساء.. تمعنت
ملامحه الهائمة في دنيا الوجد، وحزمت أمرها وقالت "والله لاخده منهن كلهن".
ووجد فيها عوضا عن صدر خديجة ومنديل زينب، وربما كان الأهم أنها زلزلت
هيبته أسرة شوقي التي منعت أن يخطر ببال المملوك التفكير في الزواج من ابنة
الملك؟ لقد كسرت زبيدة إحساسه بالعجز ومكنته من نقل جو مليكه أمير الشعراء
إلي بيته. كانت ذواقة خبيرة بالحياة، وكانت تسافر كل عام إلي أوروبا فتصحبه
معها، وتعلمه كيف ينتقي ملابسه وكيف يفتح صالونا، وتتيح له معرفة أعظم
الناس في بيتهما- لا في بيت مليكه شوقي- كما أنها أنفقت علي أول أفلامه
"الوردة البيضاء".. ورغم مرور عامين علي واقعة حبيبته وابن الوزير فقد وضع
في الفيلم مواقف من قصتهما، وكانت أغنية "يالوعتي ياشقايا ياضني حالي"
تنطبق علي شقائه في هذا الهوي، كما كانت أغنية "ياوردة الحب الصافي"
مستوحاة من وقائع قصة حبه.. عندما كانت الفتاة تجيء وتنزع وردة وتقدمها له
وهو يجلس في حديقة الكرمة وتنصرف، دون أن تقول كلمة واحدة، لتصبح هذه
الوردة سلواه. يشمها ويقبلها وإلي أن تهديه وردة أخري. وكانت أغنية "ضحيت
غرامي علشان هناكي" تقرر واقع تنحيه حتي تسعد محبوبته مع ابن. كانت السيارة
قد قاربت مشارف أبي قرقاص وكان محصورا، وحين يفكر فيما قاله الملك لليلي
يكاد يفعلها علي نفسه.. بينما سائق عبدالحميد عبدالحق يرفع عليه مسدسه
مهددا، تنفيذا لتعليمات الوزير بعدم نزوله من السيارة حتي يسلمه في
أبوقرقاص. لم يكن ينقصها إلا هذا المغفل.. يخرب بيت الموسيقي وسيد درويش
وشوقي، ومنها لله عزيزة أمير التي جذبه فيلمها "ليلي" للسينما ودفعه إلي أن
يطلب من محمد كريم أن يصنعا معا أفلام جعلت فضيحته بجلاجل، ووطدت علاقته
بأمثال ليلي مراد، ليأتي صاحب الجلالة ويسعي إلي قتله.. أين كل هذا من أيام
كانت تعصره خديجة في صدرها الطري وتنظر في عينيه نظرة ساحرة، فيذوب بين
يديها ويحس متعة وهناء غريبين. يكاد يدرك للمرة الأولي معاني ما يرتعش به
صوته "عذبيني في مهجتي.. فمهجتي في يديك.. وأمريني فالقلب طوع يديك".
جريدة القاهرة في
01/05/2012 |