يمكن المخرج الأميركي كوينتن تارانتينو ان يروي كما يشاء حكاية ولادة
فيلمه الأخير «دجانغو طليقاً»، وكيف ان تلك الولادة انبثقت للمرة الأولى
على شكل فكرة واتته وهو في غرفة في فندق ياباني في طوكيو يشتغل على نصّ
يكتبه عن المخرج الإيطالي، المنسيّ تقريباً في ايامنا هذه، سرجيو كاربوتشي،
مستمعاً الى تسجيلات موسيقية تتعلق بألحان افلام هذا الأخير ولا سيما منها
أفلامه التي حققها في سنوات الستين عن رعاة البقر في الغرب الأميركي وأُطلق
عليها اسم «وسترن سباغيتي» لكونها ايطالية!
ويمكن تارانتينو ان يسهب في تلك الحكاية رابطاً إياها برغبة كانت
شديدة القدم لديه في تحقيق فيلم عن تحرير العبيد السود في اميركا النصف
الأول من القرن التاسع عشر... كل هذا ممكن ويملك صدقيته بخاصة ان صاحب «بولب
فيكشن» و «كيل بيل»، يعتبر هنا اكثر من شاهد - ملك طالما ان الحكي يتعلق به
وبسينماه. ومع هذا، إن حاول المرء ان يعود بذاكرته الى واحدة من أولى لقطات
فيلم تارانتينو السابق «أوغاد سيئون» ربما سيسأل نفسه كيف لم يخمّن منذ ذلك
الحين ان فيلماً مقبلاً لهذا المخرج سيكون بالتحديد فيلم رعاة بقر تدور
احداثه في «الغرب» الأميركي، ويشتغل عليه على الطريقة الإيطالية؟ في تلك
اللقطة التي شبهها كثر يومها بأسلوب سيرجيو ليوني – الإيطالي الآخر الذي
ابدع في صناعة افلام «الويسترن سباغيتي» – الذي بنى جزءاً من أمجاده الأولى
على هذا النوع السينمائي الذي كانت نقاوته الأميركية اشبه بالبديهة قبل
دخول الإيطاليين على الخط، لدينا امتداد في المكان الجبلي السهلي الأخضر
وحدّاد يطرق حدوة حصان – او شيئاً من هذا القبيل – قرب كوخه وزحام ما آتٍ
من بعيد، وكل هذا على خلفية موســـيقية مستقـــاة مباشرة من لحن لإينيو
موريكوني جدير بسينما ليوني. طبعاً، بعد ذلك تبين ان مكان الحدث ليس غرباً
أميركياً، بل يوجد في الجنوب الفرنسي ايام الحرب العالمية الثانية وأن
الزحام المقبل دوريـــة نازية وما الى ذلـــك. والحال ان تلــك اللقطة بات
يصحّ اليوم اعتبارها مؤشراً بل إرهاصاً بالفيلم التالي، وهي عادة يتبـــعها
تارانتيــنو منذ زمن حيث يرهـــص في فيلم يحققه بما قد يكـــون عليه فيلمه
التالي. لا أكثر ولا أقل.
التاريخ على مزاج المخرج
والآن إذا كان لنا ان نوجد تقارباً آخر بين فيلمي تارانتينو اللذين
نشير اليهما هنا، فإن التقارب سيكون في كونهما معاً ينتميان الى نوع
سينمائي لم يسبق للمخرج ان دنا منه، السينما التي تحاول ان تغوص في حدث
تاريخي ما... ولا نتحدث هنا طبعاً عن السينما التاريخية، لأن «التاريخ» في
سينما تارانتينو ليس تاريخاً بقدر ما هو «ديستوبيا» او تاريخاً افتراضياً
يعيد رواية حدث ما على افتراض انه انما دار في شكل مخالف لما كان عليه
التاريخ الحقيقي.
وهكذا، مثلاً، في فيلمه السابق «أوغاد سيئون»، يعيد تارانتينو رسم
تاريخ الحرب العالمية الثانية بحيث يدبّر عملية اغتيال لهتلر في صالة
سينمائية باريسية، وهو ما لم يحدث في الواقع كما نعرف. ومن دون ان نتوغل في
هذه العلاقة «الافتراضية» بين سينما تارانتينو والتاريخ، نود هنا ان نستقي
مما نشير اليه عبارة نعتقدها اساسية في اي بحث في سينما تارانتينو: العبارة
المتعلقة بكون هتلر يتم اغتياله داخل صالة سينما خلال حضوره عرض فيلم.
والحقيقة ان في هذه الصورة المفبركة واحداً من المفاتيح الأساس لفهم
سينما تارانتينو والتوغّل فيها. فالرجل الذي جعل من كل سينماه – على قلة
عدد الأفلام التي حققها حتى اليوم – إعادة نظر في الأنواع السينمائية
ومفاهيمها، إنما على طريقته الخاصة التي لا يملك اسرارها سواه، كان لا بد
له اخيراً من ان يصل الى سينما تعطي البطولة للسينما نفسها، ومن هنا إذا
كنا نراه في «أوغاد سيئون» يقتل هتلر وسط عرض سينمائي يأتي تتويجاً لحكايات
عدة مترابطة تملأ ساعتي الفيلم وتبدو كل واحدة منها مستقاة من نوع سينمائي
ما، فإننا في الفيلم الجديد نراه يحقق الفيلم كله وكأنه سيرورة عمل
سينمائي: كأن الفيلم كله كناية عن تحقيق فيلم، حتى وإن كانت الأحداث التي
يرويها تحصل قبل عقود طويلة من اختراع السينما، وسنوضح هذا بعد لحظات.
قبل ذلك، لا بد من ان نقول للقارئ شيئاً عما يحدث في الفيلم نفسه...
فهنا يعود بنا الفيلم الى ما قبل ظهور الرئيس الأميركي آبراهام لينكولن
وعمله على تحرير العبيد... ومع هذا لدينا محرّر لهم هو اميركي من اصل
ألماني يدعى دكتور كينغ شولتز. وهذا الرجل يذرع اقاصي الجنوب الأميركي حيث
اضطهاد السود والتعامل معهم كبهائم يصل الى ذروته... اما شولتز، فإنه في
خضم مساعيه لإطلاق هؤلاء والانتقام لهم، يعمل ايضاً تحت ستار طب الأسنان،
صياداً للجوائز. اي انه يلاحق المطلوبين الى العدالة الذين ترصد السلطات
القضائية جوائز لمن يقبض على الواحد منهم «حياً او ميتاً»، فيلقي القبض
عليهم – وهذا امر نادر – او يقتلهم – وهذا ما يفعله في اغلب الأحيان -.
ونحن منذ مفتتح الفيلم، نجدنا في رفقة شولتز وهو يمارس «مهنته» حيث يبادر
الى «شراء» عبد هو دجانغو نفسه، تاركاً لرفاق هذا الأخير في العبودية من
افراد قافلة يقودها عدد من «الأشرار» البيض، تقرير مصير هؤلاء بعد التغلب
عليهم. ومنذ تلك اللحظة لا يعود شولتز وحيداً في عمله، إذ انه سيتخذ من
دجانغو رفيقاً ومساعداً وتلميذاً له، بعدما كان يريد منه اول الأمر ان
يكتفي بأن يدله إلى ثلاثة من تجار العبيد يريد التخلص منهم.
انسانية وسط شلالات الدم
على هذا النحو، إذاً، يبدأ الفيلم: فهو من الآن وصاعداً اشبه برحلة
بين المناطق المتباعدة والبلدات القذرة والمزارع الظالمة... وخلال الرحلة
يقتل الدكتور ومساعده من يريدان قتلهم من الأشرار سواء أكانوا من رجال
السلطة او من تجار العبيد او من اللصوص الصغار. ولئن كان هذا السياق سيبدو
عشوائياً اول الأمر، فإنه بعد ذلك سيتحول الى سياق محدد الهدف، لا سيما في
مرحلته الأخيرة، حيث ان الغاية تصبح هنا تحرير برونهيلده، زوجة دجانغو
الحسناء التي ضُمّت الى عبيد اسرة شرير ثري يعيش مَلكاً في مزرعته.
وهنا، كعادة تارانتينو في افلامه، نجدنا امام فصول مقسمة في شكل يكاد
يكون هندسياً، بحيث يوصلنا الفصل الأخير الى حكاية تخليص دجانغو ومعلمه
الدكتور، برونهيلده من أسرها... هنا في هذا الفصل المتشعب تدور اقسى
المعارك وكذلك تدور اطول المشاهد المُمَسرحة وتتوالى الأحداث بأسلوب يكاد
يكون شكسبيرياً ويعم الشر والخير الجميع، فلا السود طيبون كلياً ولا البيض
أشرار في طبعهم. هنا يوصل المخرج/الكاتب «انسانية» خطابه الى حدوده القصوى
إنما وسط مقتلة وخيانات وتقلبات مسرحية مدهشة ستنتهي بقتل الثري الأبيض
الشرير والدكتور شولتز ولكن كذلك بمقتل رئيس الخدم الأسود في بيت الثري وهو
يقدّم الينا اداة اضطهاد وقمع لأبناء جلدته...
وإذا كان هذا كله يدور هنا على الشاشة بلغة سينمائية أخّاذة تدين
للواقع بقدر ما تدين لأقصى درجات الخيال عبر ذلك المزج الذي يتقنه
تارانتينو بين شلالات الكلام وأنهار الدماء وصخب العنف الذي يبدو وكأن لا
نهاية له، ولكنه يبدو في الوقت عينه واصلاً الى حدود السخرية والمحاكاة
المضحكة لحكايات الأبطال الخارقين وقد تحول دجانغو ولا سيما بعد مقتل
استاذه، الى ما يشبه البطل الأسطوري زورو، نجدنا وكأننا قد صرنا وسط واحدة
من اوبرات ريتشارد فاغنر. والحال ان هذا القول لا يأتي هنا اعتباطياً،
وحسبنا للتدليل على هذا ان نذكر بأن تارانتينو الذي لا يترك لأية صدفة ان
تقود خطاه وهو يكتب اي فيلم من افلامه، استعار لزوجة دجانغو اسم حبيبة
زيغفريد في اوبرا «بارسيفال»، وجعلها تتقن الألمانية بحيث بدت قادرة على
التفاهم مع الدكتور شولتز خفية عن اسيادها.
المعلم ونجمه
ولئن كانت الأوبرا حاضرة على هذا النحو، كما جوهر المسرح الشكسبيري في
بعض اقوى لحظات الفيلم، فإن ما لا يمكن ان يفوت حضورُه احداً انما هو
السينما نفسها. بل يمكننا ان نقول من دون اي مواربة، ان «دجانغو طليقاً» هو
فيلم عن السينما بقدر ما هو فيلم «تاريخي» عن قضية العبيد السود، وبقدر ما
هو فيلم يحاول ان يعيد الاعتبار الى سينما الغرب الأميركي ولو على الطريقة
«الإيطالية»... فمنذ البداية يبدو لنا الدكتور شولتز وكأنه مخرج سينمائي
يبحث عن موضوعه وشخصيات فيلمه في ذلك المكان «السينمائي بامتياز من
العالم»... بل وبالتحديد قد لا يكون من الغريب ان نقارب هنا بين بحث شولتز
عن فيلمه وبطله، بين شيء مماثل يحدث في فيلم «رحلات ساليفان» لبريستون
ستارغز وإن كانت الأمور في هذا الفيلم الهوليوودي القديم اكثر وضوحاً وأقل
دموية وعنفاً ولؤماً. وانطلاقاً من هنا، قد يكون ممكناً القول في هذا
السياق، ان كل ما يلي مشاهد البداية في «دجانغو طليقاً» انما يبدو وكأنه
رحلة سينمائية... وكأنه ممارسة إخراجية يقوم بها الدكتور شولتز في فيلم
افتراضي يشمل دوره فيه العثور على الممثل وتحويله الى نجم (بما في ذلك
تحديد ملابسه في كل مشهد ومرحلة، وتعليمه فنّ إلقاء حواراته، والعثور له
على حبيبته) وبعد ذلك شدّ أزره كلما ابدى تراجعاً او يأساً، حتى لحظات
الانتصار الأخيرة... الانتصار الذي يمكن ان يعاش من دون المعلم الذي لن
يعود له دور بعد أن يقوم بمهمته ويخلق بطله انطلاقاً مما قد يشبه العدم.
طبعاً لا يمكننا هنا ان نقول ان هذه القراءة للفيلم هي اوضح ما فيه،
ولكن من المؤكد انها قراءة ممكنة سيكون من شأنها ان تضع فيلم تارانتينو
الجديد هذا في سياق سينمائيّته الطاغية وهو المعروف بأن ما يحركه دائماً
انما هو هواه السينمائي الذي يجعله لا يتوقف عن زيارة الأنواع (البوليسي
والفساد البوليسي، كما في «ريزرفار دوغ»، افلام العصابات، كما في «بولب
فيكشن» و «جاكي براون»، افلام فنون القتال الصينية، كما في ثنائي «كيل بيل»،
وسينما الحرب والتاريخ، كما في «اوغاد سيئون» وسينما العنف الخالص والطريق
وسباقات السيارات في «عصي على القتل» وسينما الغرب الأميركي اخيراً في «دجانغو
طليقاً»)... وفي الأحوال كافة، قد يكفي ان نراجع ما يقوله تارانتينو عن
فيلمه الأخير منذ بدء عروضه قبل شهور، لندرك اننا حقاً امام ما يشبه تاريخ
السينما في فيلم لا يخاف من غزو التاريخ نفسه على هواه.
الفقر والنساء والحرية ورائحة الجمبري القاتلة
الدار البيضاء – مبارك حسني
يعتبر «الحـــافة» من المــقاهي الأشهر في المغرب. وهو يوجد في مدينة
طنجة عند ملاذ ممتع قرب البحر، شعبي بما يقدمه وطبيعي بإطلالته على المحيط
والبحر، وبما يُدخن فيه خلسة وعلانية. لكن الحافة هنا في الشريط لغة، هي
الهاوية والانحدار الأكيد والسقوط.
والمخرجة المقيمة بين طنجة وباريس ليلى الكيلاني، أرادت على ما يبدو
من خلال فيلمها السردي الأول الحديث عبر استعارة الكلمة. أي بالمعنى الفني
المتجلي في الشريط، أن توثّق وتحكي. أي انها في آخر المطاف مثل كل مخرج
يبدأ مشواره الفني التخييلي، ارادت أن تشهد وتبدع.
والجوائز التي حصلت عليها لحد الساعة تدل إلى أن لجان التحكيم قد رأت
تحققاً فعلياً لهذين الهدفين. أبرز هذه الجوائز، الجائزة الكبرى للمهرجان
الوطني للفيلم في طنجة.
ولأن ليلى الكيلاني امرأة قبل كل شيء، فقد أخرجت فيلماً نسوياً
بامتياز، وليس نسوانياً، هو فيلم فيه نساء يمثلن ويشخصن أدوار نساء أخريات.
توخّت ليلى الكيلاني بذكاء تصوري خاص الولوج الى عالم العاملات اليدويات،
تلك الجحافل الممتدة من نساء من مختلف الأعمار اللواتي يشاهدن في الطريق
ملتحقات أو خارجات من المعامل الكثيرة التي تتوزع في ربوع الوطن الذي يشهد
تنامي الصناعات بكثرة.
هذا الجزء الكبير من جبل الجليد الصناعي الرأسمالي الذي توجد فيه
النـــساء كيد عاملة لا غير، في نسيان تام للكينونة والجسد النسوي بما هي
أهواء وطموحات، آمال في السعادة وقسوة العيش تجاه المجتمع المحافظ المورط
في مشاكله وتجاه الرجل الذكر.
حكايات ومصائر
في الشريط أربع نسوة وأربع حكايات متداخلة كأقدار ومصائر. بديعة،
إيمان، أسماء ونوال، أربع شابات في مقتبل العمر وفي عز الحيوية والعنفوان،
لكن من دون أشرعة حرة حقيقية للتحليق. يغادرن قراهن بحثاً عن الشغل، ليلاً
أو نهاراً، وفق إيقاع مدينة من الزمن المعاصر الخانق، في مجالين يحملان
رمزية عالية، سينمائياً وحكائياً، مصانع الجمبري ومصانع النسيج. فاكهة
البحر في آلاف الأيدي النسوية والخيوط اللانهائية للأثواب الرفيعة، رمزية
العنكبوت وســجن الأسلاك اللامرئية، لكن القادرة على السجن والسحق والقتل.
انها الحركة في حدها الأدنى وفق إيقاع متوتر ومتسارع لا يدع للعين
كفايتها من النظر، كأنما لمفاجأة المشاهد في كل مرة و «خنقه» كي يتأثر
بالمحتوى الصادم قبل الصورة الواقعية المقدمة. الشريط حكاية تدور ما بين
الفجر الباكر المفتوح على الشقاء، والمساء النازل بكثافة ظلامه وأسراره
المؤلمة. حكاية عبر لغة أقسى من الواقع ذاته، من دون تزويق ولا دوران ولا
فذلكة.
فحــين تتحدث البــطلة عن الهاوية أو السقوط، فهي توظف الكلمة الأكثر
انتشاراً في الشارع والمأخوذة من القاموس البغائي لتعني كل ما ليس جميلاً
ولا مواتياً ولا كما يرام، كارثياً كان أم فقط زلة عابـــرة في الكـــلام
كما في الفعل. تقول إن السقوط من العين، أي اندثار الاحترام والكرامة للذات
هو الأفظـــع والأكــبر. وهو ما يحاول الشريط تبيانه في غوصه العميق في
واقع أسود.
واقع تقول عنه البطلة في مرحلة ثانية في بوح مرافق لعدوٍ في الليل
هرباً، وفي لحظة الاعتقال في سيارة الشـــرطة، كما تظهره أشـــرطة
الــتقديم الموحية بمقدار كبير جداً: أنا لا أسرق بل أسترد قرضاً، أنا لا
أغوى التهريب بل أمارس التجارة، أنا لا أبيع جسدي بل أدعو نفسي طواعية
للممارسة الجنسية، أنا لا أكذب لأنني أعرف من سأكون، وأنا أبدو أسرع في
الوجود الصارخ كي أعرف وأعلن حقيقتي.
هذه الإرادة الواعية بسلوكها على رغم خروجها عن المألوف والمعبّر عنه،
ترافق هنا السرقة والتهريب والبغاء، بما هي أمور/ مواضيع تشكل عصب الشريط
ومرادفه المتعدد المرافق للفتيات الأربع في الحافة المنحدرة الزلقة التي
يجب الحياة فيها قسراً. وهي تتوزع الشـــريط من خلال وقائع صغيرة كثيرة
ومتنوعة مكاناً وزمناً ومضموناً، لكنها مضمخة باليومي والمعيش والممنوح
للجسد والعين. كأي رواية غنية بأحداثها.
وطنجة المدينة تمنح ذلك كله، مُلخصة مجتمعاً وبلداً حياً بمشاكله
ومصائر أناسه. ولا يهم أن تُلخص الحكاية أو تُعرف، فقد شُوهد مثلها كثيراً
في هذه السنوات الأخيرة سينمائياً في المغرب بعد تحرر قوي للإبداع
السينمائي. لكن ما يُشاهد هو العالم الفني الموازي الذي خلقته المخرجة
المثقفة ليلى الكيلاني، الصحافية والجامعية والتي سبق أن أخرجت فيلمين
وثائقيين لقيا صدى طيباً. عالم يأخذ من النوع الوثائقي مادته المُغلفة
الخلفية ومقاربته المرتكزة على اللقطات الكبرى، والمسح العام للمناظر، ومنح
الكلمة للشخوص كي «تتحدث»، والصوت الخلفي، ويأخذ من النوع الروائي التخييلي
سبل الــــسرد والتـــشويق انطلاقاً من قصة حدثت حقاً. وهذا التداخــل بين
النوعين تم صهره وفق تصور قَبْلي يتأسس على التسجيل والإثارة. أي أن
المخرجة وجرياً على عادة المخرجين المغاربة المؤلفين تحكي وتسجل في الوقت
ذاته. لكن الإضافة هنا أنها نجحت فعلاً وباقتدار في مسعاها عكس الآخرين.
كرم طنجة
ومن هنا لم يكن عبثاً أن يتم عرض فيلمها هذا في مهرجان «كان»
السينمائي قبل سنتين. فهي بهذا تقدم نموذجاً لما يجب أن تكون عليه السينما
مغربياً بعيداً من موجات التغريب أو الإثارة المتعمدة أو الجـــرأة
المجانـــية. سيـــنما تحــاور واقعاً بعمق ومن دون تدخل سافر متكلف بتوخي
حكي تحتل فيه الصورة المكانة الأبرز كمجال للإبداع.
ومن هنا يصعب نسيان حيوية الممثلة الجديدة صوفيا، وجهاً وجسداً وحركة،
والتي حملت كل الفيلم على عاتقها. هي كتابة حول فتاة تصدم الواقع ويصدمها،
فيلم كـ «معركة ملاكمة» وفق تعبير للمخرجة. هي الحرية مُعطاة في قدر معاصر
لا يرحم، انها سينما سوداء في الظاهر، لكنها الأجمل بإتقانها الأدوات
المستعملة، أي انها تعبير فني سينمائي موفق حول مغرب جديد فيه الانخراط
التام والقوي بإيجابياته وسلبياته. فأصل الحكاية فقر مدقع تقابله مظاهر
الثراء المتنامية، لكن في عالم النساء. والنساء هنا مضغوطات بالفقر والرغبة
في الحرية من أجل محاربة هذا الفقر، نساء يأخذن الأمور بأيديهن، أو يحاولن
على الأقل.
سعد نديم رائد السينما التسجيلية
القاهرة – هيام الدهبي
ضمن السلسلة الثقافية لكتاب اليوم، صدر كتاب «سيرة حياة رائد السينما
التسجيلية سعد نديم» للكاتب محمود سامي عطالله (160 صفحة من القطع الصغير).
وهو كتاب يسرد حياة ذلك الرائد ومساره المهني من خلال نشأته وإبداعاته.
ولد سعد نديم في 17 شباط (فبراير) من عام 1920 في حي بولاق وهو حي
شعبي عريق يقع على الضفة الشرقية لنهر النيل - في مواجهة حي الزمالك
المعروف بحي الأثرياء - وسُمّي على اسم زعيم الأمة سعد زغلول... عاش نديم
طفولته في هذا الحي ثم انتقلت الأسرة التي تتكون من عشرة أفراد (الأم والأب
وثمانية من الأولاد والبنات) في عام 1927 إلى حي حدائق القبة حيث تلقى سعد
تعليمه بمراحله المختلفة.
لم يستمر سعد في دراسة القانون في كلية الحقوق، فقد كانت مناقشاته
المستمرة مع ابن خالته صلاح أبو سيف عن السينما التسجيلية قد سيطرت على كل
حواسه فترك الحقوق في السنة الثانية والتحق للعمل في قسم المونتاج في
استديو مصر حيث كان أبو سيف رئيساً لهذا القسم وقتها.
وعلى رغم دخوله العمل السينمائي متأخراً في الأربعينات من القرن
الماضي، فقد كرس حياته العملية من أجل السينما التسجيلية وحدها، فتعددت
وتنوعت الموضوعات التي عالجها في أفلامه في شكل كبير بحيث ندر أن كان هناك
موضوع أغفله ولم يعالجه في أفلامه التي تنوعت ما بين أفلام عن الصناعات أو
المدن أو الأفلام الأثرية والنوبة وأفلام الفنون التشكيلية وأيضاً العسكرية.
بدأ سعد نديم العمل في قسم المونتاج مساعداً لصلاح أبو سيف، إلا أنه
اكتسب حرفية عالية جداً لدرجة أنه قام بمفرده بعمل مونتاج فيلم «دنيا»
للمخرج محمد كريم. وعندما تمكنت فكرة العمل في السينما التسجيلية من نديم
وفكره، قام عام 1946 بإخراج فيلم تسجيلي بعنوان «هل تعلم» عن انتشار
الهواتف في مصر، وقد كان فقرة ضمن جريدة مصر السينمائية.
وفي عام 1947 أخرج فيلم «الخيول العربية» عن تربية الخيول وكيفية
العناية بها وفيلم «مصر الحديثة» ويدور حول مصر البلد ذي التاريخ العريق،
وفي عام 1948 أخرج أيضاً فيلمين، الأول «صناعة السكر في مصر» والثاني
«مصانع كفر الزيات». وفي عام 1949 أخرج فيلم «مستشفى المواساة» وفيلم «يوم
في الريف» عن المزرعة النموذجية وفيلم «الأجنـــحة الملونة» عن عالم
الألوان، وفي عام 1950 فيلم «الاسكندرية» يحكي فيه تاريخ المدينة والميناء
وأهميتها من الناحية السياحية.
ويعد عام 1950 إحدى المحطات المهمة في حياة سعد نديم ومسيرته الفنية
حيث قرر استوديو مصر إرسال أربعة من الشباب لدراسة تقنيات الفن السابع في
إنكلترا، وهم سعد نديم وديد سري وجلال مصطفى ومحمد منير حسن، ولم يكن في
لندن في ذلك الوقت معهد متخصص للسينما حيث كان لا يزال يُنظر اليها على
أنها خبرة عملية لا دراسة نظرية، ولكن كانت الجامعات الإنكليزية تنظم دورات
عملية وتدريبية لهواة السينما والتحق نديم بإحداها وكان المحاضر بول روثا
الذي كان نديم يعرف الكثير عن فكره من قبل.
ثم التقى نديم بالأب الروحي للسينما التسجيلية العالمية جون غريرسون
الذي نظم له برنامجاً تدريبياً لمدة عام ونصف عام قام خلالها بالتعرف إلى
كل ما يخص السينما التسجيلية. ثم عاد إلى مصر عام 1954 بعد قيام ثورة تموز
(يوليو) بعامين وحيث كانت قد أُنشئت وحدة للسينما في وزارة الإرشاد القومي
فالتحق بها وكان هذا أول عمل له بعد عودته من البعثة الدراسية التي قضاها
في لندن حيث قدم فيلم «كشوفات أثرية» الذي عرض ضمن الاحتفالات بعيد الثورة
في ذلك العام، كما قامت مصلحة الاستعلامات في العام نفسه بإنشاء إدارة
للسينما التسجيلية قامت من خلالها بإنتاج عدد كبير من الأفلام التسجيلية
بعضها عن محادثات توقيع اتفاقية الجلاء وأيضاً عن انجازات الثورة وفيلم عن
«الشرطة العسكرية».
انجازات بالجملة
وفي عام 1955 قدم سعد نديم فيلم «القاهرة 1955» وفيلم «نحو البحر
الأحمر» عن هذه المنطقة التي تتمتع بسحر الطبيعة وفيلم «نحو حلوان»
باعتبارها مشتى سياحياً وفيلم «أسوان». وفي عام 1956 قدم «اعياد الجلاء» عن
الاحتفالات التي عمت مصر لمناسبة أعياد الجلاء، وفيلم «فليشهد العالم» عن
آثار العدوان الثلاثي الذي لحق ببورسعيد. وفي عام 1957 أنجز «سلام لا
استسلام».
وفي عام 1960 فيلم «الثقافة في طريق التطور» و«متحف الخطوط الحديدية»
و «متحف الثقافة» وفي عام 1965 «المولد» و «راغب عياد» أحد أشهر الفنانين
التشكيليين المصريين و «بلدي الجميلة» عام 1971 و«مياه الفيوم» و«حفائر
الفيوم» 1972 و «انقاذ معابد فيلة» 1973 و«6 أكتوبر» 1974 وفيلم عن تاريخ
كفاح المرأة المصرية منذ ثورة 1919 ودورها الاجتماعي «المصرية في 50 عاماً»
1975 وفيلم «قناة السويس» 1979.
في اختصار، قدم سعد نديم خلال مشواره السينمائي (1920-1980 ) 65
فيلماً تسجيلياً غالبتها عن الصناعات اليدوية والآثار المصرية ومدن مصر
الجميلة.
وهو نال الكثير من الجوائز، منها وسام الاستحقاق عام 1955 عن أفلامه
في خدمة الثورة وحصل على جائزة الإخراج والسيناريو عام 1964 عن فيلمه
«حكاية من النوبة» وعلى شهادة تقدير عن الفيلم نفسه من مهرجان ليبزغ، وفي
عام 1969 حصل على جائزة رابطة الصداقة بين الشعوب، وفي مسابقة وزارة
الثقافة عام 1970 حصل فيلمه «عدوان على الوطن العربي» على جائزة أحسن إخراج
ومنحته لجنة تحكيم مهرجان الأفلام التسجيلية شهادة تقدير لجهوده في صناعة
السينما التسجيلية.
وتوفي ســـعد نديم في آذار (مارس) 1980 بعد أن كرس حــياته في صناعة
الفيلم التسجيلي وقضاياه، وتعد أفلامه جزءاً مهماً من تراث السينما
التسجيلية المصرية وتاريخها.
«مهرجان
صنعاء» يفضح رقابة ما بعد الثورة
صنعاء - علي سالم
في البداية حرّك مهرجان صنعاء لأفلام حقوق الإنسان الآمال بإمكان
إحياء الاهتمام بالسينما وثقافتها في هذا البلد الذي كان يعتبر من أوائل
بلدان المنطقة اتصالاً بالسينما، قبل أن يتراجع خطوات كبيرة، إلى درجة
اندثرت معها صالات العرض بما هي ركيزة رئيسة لاستمرارية صلة الجمهور بالفن
السابع.
وعرضت في المهرجان، الذي نظمته أخيراً، المنظمة اليمنية لتعزيز
النزاهة
OPI
بالتعاون مع منظمة الكونجرس الإسلامي الأميركي (aic)
أفلاماً قصيرة من اليمن ومصر وسوريا وباكستان والهند والإمارات. فيما
منعت وزارة الثقافة عرض 3 أفلام هي «يوم واحد في قلب الثورة» و«مستغرقة»
و«يوم ثالث في قلب الثورة» للمخرج اليمني الشاب عمار الباشا.
كان هذا المهرجان، أول نشاط سينمائي تشهده البلاد منذ اندلاع
الانتفاضة الشعبية مطلع 2011 أما منع الأفلام الثلاثة فتم على رغم أن وزير
الثقافة كان احد الوزراء الذين حملتهم الانتفاضة الشعبية إلى السلطة!.
علماً أن اثنين من الأفلام يوثقان ليوميات الانتفاضة الشبابية الشعبية في
ساحات الاحتجاج. وأفيد بأن المنع سببه تضمّنها مشاهد تتناول الرئيس السابق
الذي يتقاسم حزبه السلطة مع أحزاب المعارضة السابقة التي أيدت الثورة.
ووفقاً للمنظمين يهدف المهرجان إلى تكريس وعي وثقافة حقوق الإنسان
وإذكاء روح التواصل والتعايش والإلهام وتبادل التجارب والخبرات بين
المهتمين من خلال الصورة في سياق الفيلم القصير. وتضمّن المهرجان مسابقة
«من العين إلى القلب» في نسختها الثانية والتي تنظمها منظمة الكونغرس
الإسلامي الأميركي حول الفيديو القصير والسيناريو.
ومن الأفلام اليمنية التي عرضت في المهرجان «طفل الكراتين» للمخرج
إسماعيل سليم، عن سيناريو وتصوير ياسر عبد الباقي. وهو يتناول قصة طفل يعمل
في تنظيف السيارات ويعيش في الشارع لكنه يفتقد كثيراً للعب.
وفيلم «كسر الصمت» وهو وثائقي يتناول حياة نساء الفئة المهمشة
المعروفة باسم (الأخدام)، وهو بدوره من إخراج عمار الباشا. ومن باكستان عرض
فيلم «حرية» للمخرج وحيد خان. ومن الإمارات فيلم «فقاعة» للمخرج فيصل
الهاشمي. فيما شاركت مصر بفيلمين هما :«بيجامة» إخراج ميسرة النجار، و»فتى
المدرعة» لفتحي عبد المصطفى.
ويأتي تنظيم المهرجان في وقت تخلو الساحة من أي نشاط سينمائي باستثناء
بعض الشرائط التي ينفذها هواة. وتعد مدينة عدن في الجنوب اليمني من أولى
المدن العربية التي عرفت مبكراً العروض السينمائية. غير أن المدينة باتت
خالية من صالات العرض باستثناء صالة واحدة فيما توقفت صالات العرض في بقية
المدن اليمنية.
ويأمل المخرج الشاب ياسر عبد الباقي بأن يفتح هذا المهرجان «نافذة
كبيرة» للمخرجين الهواة ما من شأنه إحياء الاهتمام العام بالسينما. وقال
عبد الباقي الذي أنجز بمجهود شخصي مجموعة من الأفلام القصيرة منها فيلم
الدقيقة الواحدة، أن معظم المخرجين الشبان أنجزوا أعمالهم من «مصروفهم
الشخصي» أو بمساعدة أصدقاء، مشيراً إلى أنه وزملاءه المخرجين لا يعولون على
مؤسسة السينما الرسمية خصوصاً في ظل الصمت الحكومي إزاء التدمير الذي تتعرض
له صالات العرض السينمائي في البلاد.
وكانت وزارة الثقافة اليمنية أعلنت قبل سنوات اعتزامها تنظيم مهرجان
صنعاء السينمائي وإقامة مدينة للسينما لكن المشروع لم ير النور بعد. ويشكو
المسؤولون عن السينما من غياب التمويل الكافي.
أفضل فيلم للتونسي «ما نموتش»
القاهرة - نيرمين سامي
تحت شعار»سحر السينما الأفريقية»، اختتمت فعاليات مهرجان الأقصر
للسينما الأفريقية الذي أقيم في الفترة من 15 حتى 24 آذار (مارس)، وفاز
الفيلم الروائي الطويل «ما نموتش» للتونسي نوري بوزيد بجائزة أفضل فيلم في
المهرجان.
وتدور أحداث الفيلم حول قضية ارتداء الحجاب في تونس وذلك انطلاقاً من
موقفين متناحرين لصديقتين، إحداهما لا ترتدي الحجاب ويحاول أهلها وخطيبها
إكراهها على ارتدائه، فيما ترتدي الأخرى الحجاب وتعيل أخوتها ويحاول رب
العمل إرغامها على خلعه. أما جائزة لجنة التحكيم الخاصة ففاز بها الفيلم
الكيني «نيروبي نصف حياة» للمخرج «توش جيتونجا»، في حين نال جائزة التميز
الفني الفيلم السنغالي «القارب» للمخرج موسى توريه. وسلمت جائرة للمخرج
المالى سليمان سيسيه على أعماله التي عرضت خلال فترة المهرجان.
ومنحت لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الروائية الطويلة شهادة تقدير خاصة
للفيلمين، المصري «الخروج للنهار» إخراج هالة لطفي والإثيوبي، «مدينة
العدائين» لجيري روثويل. فيما ذهبت الجائزة التي تحمل اسم الصحافي المصري
الحسيني أبو ضيف الذي قتل في أحداث قصر الاتحادية، للفيلم المصري «عيون
الحرية.. شارع الموت» من إخراج الأخوين أحمد ورمضان صلاح سوني.
وفي مسابقة الرسوم المتحركة، فاز الفيلم التونسي «المرايات» إخراج
نادية الريس بجائزة أفضل عمل، ومنحت لجنة التحكيم شهادة تقدير للفيلمين
المصري «الغابة» إخراج عادل البدراوي والإثيوبي «حساب» إخراج عزرا وبي.
ومنحت مؤسسة شباب الفنانين المستقلين جائزتها باسم المخرج الراحل
رضوان الكاشف لفيلم «كابوسي الجميل» للمخرج بريفي كاتجافيفي من ناميبيا.
وفي مسابقة الأفلام القصيرة، فاز الفيلم الجزائري «حابسين» إخراج صوفيا
داجاما بجائزة أفضل فيلم أما جائزة لجنة التحكيم الخاصة فذهبت إلى الفيلم
السوداني «ستوديو» إخراج أمجد أبو العلا.
وفاز بجائزة التميز الفني، التونسيان توفيق الباغي وإبراهيم زروق وهما
المشرفان على ديكور وملابس فيلم «9 أبريل». وحاز فيلم «ستوديو» إخراج أمجد
أبو العلا من السودان على جائزة لجنة التحكيم الخاصة.
كما منحت لجنة التحكيم جائزة التميز للفنان توفيق الباغي مناصفة مع
إبراهيم رزق عن ديكور وملابس الفيلم التونسي «9 أبريل».
جوائز دون مبالغها
وأشار رئيس المهرجان سيد فؤاد إلى أن المهرجان مر بضائقة مالية اضطرته
لإلغاء القيمة المالية لجوائز دورته الحالية «نظراً للظروف الاقتصادية
المتدهورة التي تمر بها مصر، وكانت لائحة المهرجان تنصّ أصلاً على أن قيمة
الجوائز الثلاث في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة 12 ألف دولار، بينما
تبلغ قيمة جوائز مسابقتي الأفلام القصيرة والرسوم المتحركة 7 آلاف دولار.
وفي الإطار نفسه، أوضح سيد فؤاد أن كثراً من الممثلين والمخرجين أتوا
إلى الأقصر على نفقتهم الشخصية «إسهاماً منهم في دعم المهرجان وتخفيفاً
للأعباء المادية». المهرجان الذي تنظمه مؤسسة شباب الفنانين المستقلين -
وهي غير ربحية وتعمل في مجال الفنون والثقافة منذ عام 2006 - يقام سنوياً
في مدينة الأقصر التاريخية جنوبي مصر.
وشارك في الدورة الثانية لفيف من الفنانين الأفارقة، والعرب، وسفــراء
دول إفريقية هي جنوب أفريقيا، والســـنــغال، وموزمبيق، والنيجر، وبوركينا
فاسو، وساحل العاج، والكونغو، ونيجيريا، وكينيا، ومالي، والجزائر.
المهرجان أهدى دورته الثانية لروحَي المخرج المصري الراحل عاطف الطيب
والناقد التونسي الراحل أيضاً، الطاهر شريعة الملقب بالأب الروحي للسينما
التونسية والأفريقية.
وكرّم المهرجان عميد النقاد السينمائيين سمير فريد والفنانة يسرا
والنيجيري مصطفى الحسن رائد أفلام التحريك في جنوب الصحراء، والمخرج المالي
سليمان سيسيه، وشويكار خليفة أحد رواد الرسوم المتحركة في مصر.
وشارك في المهرجان 100 فيلم من 35 دولة أفريقية من بينها 17 في
المسابقة الدولية للمهرجان من 15 دولة، وفي مسابقة الأفلام القصيرة شارك 29
عملاً روائياً وتسجيلياً من 15 دولة.
وأقيم على هامش المهرجان مجموعة من الورش السينمائية والفنية. حفل
الختام شهد عروضاً لأفلام الرسوم المتحركة للأطفال وعروض أفلام ورش العمل.
«لاس
هورديس» للويس بونويل:
جماليات الموت والحزن والألم
إبراهيم العريس
الفيلم، في الأصل، اسباني، صُوّر في اسبانيا عن موضوع يتعلق ببعض
البائسين المحرومين من أبنائها. والمخرج اسباني، كان في ذلك الحين في
بداياته، لكنه لاحقاً سيصبح واحداً من أكبر السينمائيين الاسبان، ومع هذا،
فإن الفيلم ظل ممنوعاً من العرض في وطنه الأم طوال فترة حكم فرانكو. وهو
إذا كان قد منع من العرض في فرنسا أيضاً خمس سنوات بعد تحقيقه، لأسباب
تختلف عن أسباب الاسبانيين، فإنه عاد وعرض في فرنسا عام 1937، أي مع اطلالة
حكم «الجبهة الشعبية» اليسارية فيها. وهو إذ عرض هناك في ذلك الحين، فإن
عرضه صوحب بضجة كبيرة واهتمام واسع، خصوصاً أن هذا العرض ركز على الجانب
السياسي من الأمر برمّته، وقدم على أساس أنه جزء من نشاط سياسي واسع لـ
«التضامن بين المعادين للفاشية، في شتى أنحاء العالم، المناهضين لحكم
فرانكو وحلفائه». ونعرف أن فرانكو هو الجنرال الفاشي الذي تغلب على
اليساريين والديموقراطيين في الحرب الأهلية الاسبانية، وحكم اسبانيا حكماً
مطلقاً حتى أواسط سنوات السبعين.
>
الفيلم الذي نتحدث عنه هو «لاس هورديس». ومخرجه هو لويس بونويل.
أما زمن تحقيق الفيلم فهو عام 1932، أي أنه ينتمي الى بدايات هذا المخرج
الذي سيرافق تاريخ الفن السابع حتى العقود الأخيرة من القرن العشرين،
وستتخذ أفلامه الكبيرة سمات تزداد غرابة وسوريالية مع الوقت، هو الذي كان
في بعض أول أعماله، مثل «العصر الذهبي» و «كلب
أندلسي» قد بدأ بدايات سوريالية في السينما. غير أن «لاس هورديس» ليس
سوريالياً على الاطلاق، بل هو فيلم اجتماعي مناضل، يستبق في الحقيقة، تلك
الأفلام الواقعية الكبيرة التي سينتجها الايطاليون الواقعيون الجدد، لاحقاً.
>
و «لاس هورديس» الإسبانية التي يتحدث عنها الفيلم منطقة جبلية
شبه جرداء ووعرة تقع في اسبانيا الى الشمال من منطقة تعرف باسم «استرامادورا».
وكان يقطن المنطقة في ذلك الحين شعب لا يتجاوز تعداده الثمانية آلاف نسمة،
يتميز بقسوته، المستمدة من قسوة الطبيعة، ويعاني بأساً رهيباً قد يصعب
العثور على ما يضاهيه إلا في سهوب آسيا... وكأن الطبيعة الجرداء لم تكتف
هناك بإلقاء ظلها على حياة السكان، فصاحبتها الأوبئة الدائمة وسوء التغذية
وتشوّه المواليد الجدد، وموت الأطفال المبكر... وكل أنواع تلك المساوئ التي
كان يمكن على أية حال القول ان الطبيعة لا يمكن أن تكون وحدها المسؤولة
عنها، في بلاد أوروبية كان من المفترض مبدئياً انها تعيش القرن العشرين بكل
زخمه وتقدّمه. وهذا كان، بالطبع، ما أراد لويس بونويل قوله من خلال هذا
الفيلم الذي أتى ذا طابع انثروبولوجي يحمل مقداراً كبيراً من الصدق
والمرارة الناتجة من ذلك الصدق. ذلك أن «لاس هورديس» لم يأت كبيان ضد
الطبيعة وظلمها، بل أتى على شكل منشور «دعائي» عنيف ضد الدولة الحديثة، كما
ضد الكنيسة الكاثوليكية، اللتين كانتا هما، في رأي المخرج، من يسمح بوجود
كل ذلك البؤس في قلب الحضارة.
>
من هنا، لم يكن من المصادفة أن يفتتح الفيلم مشاهده، على منظر
في منتهى الهمجية، يمثل قطع رأس ديك من الديكة العاديين، في زاوية من قرية
«البركة» الواقعة وسط تلك المنطقة. صحيح أن قطع رأس ديك لا يمكن اعتباره
أمراً إجرامياً في حد ذاته... ونعرف أن ملايين الديكة تقطع رؤوسها في
العالم المتمدن كل يوم. لكن الصورة أتت هنا من القوة التعبيرية، ما حمّلها
ألف رسالة ورسالة، خصوصاً ان السينمائي ينطلق بعدها، الى سبر أغوار الحياة
هناك في شكل يجعل الديك مجرد رمز وكناية عما يحدث للسكان، معنوياً على
الأقل. فالذي نكتشفه بعد مشهد الديك انما هو أرض تلك المنطقة: أرض جرداء
مملوءة بالحصى والصخور... ثم أكواخ مهترئة... فمجاري مياه تملأها الحشرات،
ومع هذا تشرب منها الحيوانات الأليفة، كما يسبح فيها الأطفال ويلهون غير
دارين بالأخطار المميتة التي تحيط بهم... ثم تتوالى الصور التي تبدو كل
واحدة منها، في حد ذاتها، وكأنها لقطة من مشهد سوريالي: جثة حمار ميت
يلتهمها النحل في احتفال وحشي مرعب، صورة رجل مطعون يهذي، صورة موكب من
أناس يبدو الجنون مهيمناً عليهم، صورة طفل ميت حُملت جثته فوق عربة تجتاز
الغابات... صورة امرأة عجوز تدور في حواري القرية وأزقتها وهي تتمتم بأن كل
شيء يزول إلا الموت الذي يحيط بنا ويبقى في رفقتنا الى الأبد.
>
فيلم «لاس هورديس» يتألف من عشرات المشاهد المشابهة... لكن
المخرج عرف كيف يمفصلها مع بعضها بعضاً بحيث ينتهي بها الأمر الى أن تتخذ
دلالة متكاملة... ولكن كقصيدة للبؤس. ولعل هذا ما كان عليه مأخذ بعض النقاد
المتقدمين على الفيلم في ذلك الحين، حيث إن لويس بونويل حقق - ومن دون أن
يدري على الأرجح - فيلماً أقل ما يقال فيه إنه يستنبط الجمال والشاعرية من
قلب الموت والحزن والألم والجوع. فهل كانت هذه هي - وفق أولئك النقاد -
الطريقة الفضلى لفضح ممارسات دولة تزعم الحداثة وتزعم الحضارة فيما تترك
جزءاً من مناطقها عرضة لكل هذا؟ والأدهى من هذا أن الفيلم، حتى بمشاهده
المرعبة، يمر من دون أي تعليق من المخرج: لقد أراد بونويل أن يجعل الصورة
تنطق باسم الصورة، إذ كان يرى أن أي تدخل من جانبه، تعليقاً أو ما شابه،
سيفقد جزءاً من الصورة دلالته وقوته. فهل كان محقاً في ذلك؟ بعض النقاد رد
بالسلب على هذا السؤال، ولكن كان هناك نقاد آخرون ردّوا بالايجاب. ومع هذا،
فإن السلطات الاسبانية، وحتى من قبل حكم فرانكو، رأت ان الفيلم قوي وعنيف -
من دون تعليق أو به - وأن من شأن عرضه أن يؤلب الناس، في الداخل وفي
الخارج، ضدها.
>
غير ان لويس بونويل نفسه لم يبال بذلك كله... بالنسبة اليه كان
ينقل ما يشاهد. وهو لئن كان قد واكب المشاهد كلها بمقاطع من السيمفونية
الرابعة ليوهان براهمز، فهو انما أراد من ذلك، أن تأتي روعة الموسيقى،
مناقضة لقسوة الواقع وفاضحة له. والنتيجة أن موسيقى براهمز هذه أتت
سوريالية الاستخدام هنا بدورها... أتت وكأنها من خارج الفيلم ومن خارج
مكانه... بل انها أتت لتحرك تلك المشاعر المزدوجة - وفق رأي الناقد الفرنسي
الراحل كلود
بيلي - بحيث إنها أثارت في علاقتها مع مشاهد الفيلم، لدى المتفرجين رعباً
وإعجاباً في الوقت نفسه، وتأملاً هادئاً وغضباً صارخاً في آن معاً.
>
وبالنسبة الى بونويل كان هذا كله أقرب الى أن يكون تمريناً
سينمائياً حقيقياً... إذ نعرف أنه سيستعيد شيئاً من أسلوبية هذا الفيلم، في
بعض أعمال له لاحقة، ومنها مثلاً فيلم «لوس اولفيدادوس» الذي سيحققه عام
1950، خلال سنوات منفاه المكسيكية... حيث في الفيلمين معاً نجدنا أمام
نتيجة واحدة، قد لا تكون على أية حال ذات طابع انثروبولوجي على الاطلاق:
ليس ثمة من يقين سوى الموت.
>
والحال أن هذا اليقين الذي يستنتج على ذلك النحو، سرعان ما
نجده يبعدنا عن الواقع الإسباني الاجتماعي، ليصلنا بالموت كحقيقة مطلقة
ووحيدة في فن لويس بونويل - كإرث من حضور الموت القوي في الفنون الاسبانية
قاطبة -. ولويس بونويل، الذي كان «لاس هورديس» واحداً من أول أفلامه
ومعاركه، عاش بين عامي 1900 و 1983... وهو بدأ حياته في مدريد صحافياً
وكاتباً ورساماً، قبل أن ينصرف الى السينما. وهو تعاون في فيلمه الأول «كلب
أندلسي» (1929) مع الرسام الذي كان صديقه في ذلك الحين، سلفادور دالي... ما
أعطى فنّه سمة سوريالية لم تفارقه أبداً، ولا سيما خلال النصف الثاني من
مسار سينمائي غني، حفل بأفلام حُققت في اسبانيا ثم المكسيك ففرنسا...
وإسبانيا أخيراً بعد رحيل فرانكو. ومن هذه الأفلام: «حسناء النهار» و «فيريديانا» و «تريستانا»
و «يوميات خادمة» و «إل»
و«شبح الحرية» و «سحر البورجوازية الخفي».
alariss@alhayat.com
الحياة اللندنية في
29/03/2013 |