ما حدث يتجاوز خيال «سام باكمباه» و«أشرف فهمى».. الاسم الأول لمخرج
أمريكى يطلق عليه النقاد وصف «سام المجنون»، وذلك بسبب ما تتضمنه أفلامه من
مشاهد شديدة العنف، تتجلى فى «الصحبة المتوحشة» و«كلاب من قش» و«احضر لى
رأس فريدو»، حيث تندلع المعارك البدنية، تستخدم فيها قبضات الأيدى والأسلحة
البيضاء والمسدسات وشعلات النار.
وبينما اتجه «باكمباه» إلى ما يسمى جماليات العنف، فيتعمد، بالتصوير
البطىء، طيران جسم إثر صدمة عربة، أو استخدام موسيقى «الدانوب الأزرق»
لشتراوس مع تسابق الشاحنات وصراعها، فإن أشرف فهمى، فى أفلامه مثل «اغتيال
مدرسة» و«سعد اليتيم» و«الشيطان يعظ»، تأتى مذبحة النهاية كرد فعل لسلسلة
من الظلم، مارسها طرف متجبر ضد طرف ضعيف، مسالم، يتعلم كيف يصفى حسابه،
ويغرق جلاده فى حمام دم.
هذه الأفلام، وغيرها من الأعمال الروائية، تبدو فى عنفها هزيلة هادئة
إذا قيست بالأشرطة الوثائقية، ذات الطابع الكابوسى الصاخب، التى رصدها
هواة، بواسطة هواتف نقالة، لما جرى فى جحيم «أبوالنمرس» البلدة التعيسة
بمعاناتها المرة قبل حفلة الدم بعدة أيام، حيث اختطف طفلان من أبنائها،
ولأن الأهالى لم يتمكنوا من تدبير الفدية، فإن الخاطفين، الأوغاد، قتلوا
الطفلين.
هاجت البلدة وماجت، خرجت وقطعت طريق «سقارة السياحى» ـ أسلوب المصريين
فى الاحتجاج ـ وبعد ساعات من المفاوضات، نجحت قيادات أمنية فى فتح الطريق،
ولكن لوعة القلوب الجريحة ظلت مشتعلة فى الأعماق.
قبل الحديث عن تفاصيل المشاهد، ثمة لقطة جديرة بالقراءة، فإلى جانب
جثة، تظهر مجموعة من الأقدام، إذا دققت النظر ستجد أنها تصلح كبطاقات هوية،
تبين بوضوح المستوى الاقتصادى والاجتماعى لأصحابها، فبعضهم يلبس إما شبشبا
قديما أو صندلا مهترئا، والبعض حافيا تماما، على مشط قدمه قطرات دم.. ومن
هذه الفئة الأخيرة أحدهم رفع قدمه ليضرب بها صدر الجثة العارى. هنا مجموعة
من الفقراء قست عليهم الحياة، وتحولوا إلى جلادين، الأمر الذى يثبت أن
الضعفاء اقتصادا ووعيا وأخلاقا من الممكن أن يصبحوا وحوشا جائعة.
لكن ليس كل المشاركين فى المذبحة من الحفاة، فأحد الأشرطة يتضمن
مجموعة من الشباب، يرتدون بناطيل وقمصانا تشى بأنهم من ميسورى الحال، جزء
منهم يقف فى الشارع يقذف بزجاجات بنزين إلى شرفة الدور الثانى فى بيت يقف
فوق سطحه مجموعة أخرى من الشباب، تلقى بقطع الخشب والقماش إلى أرضية الشرفة
كى يزداد اشتعال النيران.. وفى شريط آخر، نشهد عددا منهم، إما مشاركا فى
الجريمة، أو ينهمك فى تصوير عمليات القتل، محاولا اختيار أفضل زوايا
التصوير وأوضحها.
هنا تتسع أطراف القضية، فالجناة، ليس مجرد فقراء غاضبين، حسب التفسير
الكلاسيكى السهل، وبالتالى، لابد من البحث فى أسباب تحول هؤلاء «الأفندية»
إلى مجرمين، سواء بالممارسة أو التواطؤ أو الصمت الجبان. ربما تجد الإجابة
فى غياب
ثقافة التنوير.. مدينة «أبوالنمرس» التى يقال إنها تعنى فى اللغة
الهيروغليفية «مكان العشق والغرام» تخلو من دار عرض سينمائى، وليس بها فرقة
مسرحية، ولا تتزين لياليها بندوات أو أمسيات أدبية.
وبالضرورة امتلأت العقول الخاوية والمشاعر المتبلدة بأفكار خاطئة
وعواطف معطوبة، روجها أناس، أنت وأنا، نعرفهم تماما يرتدون الجلابيب
البيضاء، يطلقون اللحى، ينشرون أجواء الكراهية، يحرضون على المقت، يدعمون
البيئة الحاضنة لممارسة أشد الجرائم خسة، حيث يهجم الآلاف بعنف ونذالة على
عدة أشخاص.
فى الشرائط عند باب بيت الضحايا زحام وفوضى، ثلاثة رجال مطروحين أرضا
برءوسهم الدامية يرفعون منهكين أيديهم اتقاء لضربات الشوم والعصيان
المتوالية وأحدهم يحاول تلقى الضربات بدلا من الآخرين.. المجاميع تسحب
الرجال إلى الشارع تجرجرهم يشتد الزحام حولهم وثمة فى مرور عابر من
الكاميرا رجل يحمل موسى حلاقة من الذى يستخدمه الحلاق.
وسط الضوضاء، يمكنك أن تميز صوتين أحدهما يحمل نبلا يثبت أن النزعة
الإنسانية موجودة وإن كانت خافتة، تتجسد فى أحد الأهالى يقول «كفاية..
كفاية»، ولكن صوته يضيع وسط هدير الصوت الآخر الموحد الذى يردده، قاتلون
يقولون «الله أكبر.. الله أكبر».
منظر الجثث لم نر له مثيلا فى الأفلام الروائية فالخيال والمكياج من
الصعب أن يجعلا الوجوه الآدمية منتفخة إلى هذا الحد، وبينما عين أحد
الضحايا مختفية تحت كتلة زرقاء أميل للسواد، تبدو العين الثانية نصف مفتوحة
تطل على غياهب الموت.
تفاصيل الأشرطة المؤلمة لا يليق بنا أن نشيح بوجوهنا بعيدا عنها، فهى
وإن كانت وثيقة عار فإنها لنا وعنا، تقدم جانبا مظلما من أهالينا، ليس
الأوغاد الذين قاموا بالمذبحة فقط، ولا لذلك النذل الذى يجر جثة مربوطة من
عنقها بحبل، ولكن أيضا لذلك الموكب من الجبناء، الذين يسيرون بلا مبالاة
خلف جثة عارية.. تطلب الستر.
إبداع الأخذ والعطاء
كمال رمزي
نشر فى : الثلاثاء 25 يونيو 2013
ساقتنى الظروف لمعرفة الجراح الموهوب، الدكتور شريف عمر، وتعمقت
علاقتى به، والعكس غير صحيح، فأنا، بالنسبة له، عابر سبيل، من أهالى
المرضى، وهو، عندى، طوق نجاة، أنقذ، بفضل الله، أقرب الناس لقلبى، بل حررنى
من فوبيا الأورام، وجعلنى أنظر لهذا المرض، تماما مثل كل الأمراض، الشفاء
منه وارد بسخاء.. أيامها، منذ أكثر من عقدين، فكرت فى إعداد برنامج
تليفزيونى، تقدمه العزيزة سلمى الشماع، بعنوان «الإبداع»، فى شتى المهن،
التمثيل، المحاماة، التدريس، الرسم، النجارة، وكعادتى، لم أنفذ المشروع
الذى يتراءى لى الآن، مثل كل المشروعات التى لم نحققها، أهم وأجدى من أشياء
أخرى انغمسنا فيها.. وحين سألته عما إذا كان ثمة إبداع فى الجراحة، أجاب
بحماس، بعد صمت قليل: طبعا، بالتأكيد، وهو يتوقف على مدى قدرة الطبيب على
ملاحظة ما ينجزه الأساتذة والزملاء وحتى التلاميذ.. علقت بدهشة «حتى
التلاميذ؟».. استكمل: نعم، فمن الممكن أن ألاحظ جمال الغرزة التى حاكها هذا
التلميذ الذى يساعدنى فى إجراء العملية، وكيف أنها دقيقة، ومربوطة بفيونكة
لن تحتاج لجهد فى فكها وسحب الخيط، من دون أن يترك أثرا. طبعا، أستعير هذه
الغرزة، وقد أضيف إليها.. كذلك الحال بالنسبة للزملاء والأساتذة.
رؤية د.شريف عمر، تمتد إلى شتى جوانب الحياة، بما فى ذلك مهنة النقد،
فالنقاد، يأخذون من بعضهم بعضا، ملاحظة، أو طريقة صياغة جملة، وكثيرا ما
أجد ــ راضيا أو مغتاظا ــ إحدى متعلقاتى، فى سطور آخرين.. وبدورى، أنسج
أحيانا، بعض التعبيرات، على منوال أساتذتى، وزملائى أيضا، وأحاول أن تكون
معقولة. وقد أوفق أو أفشل. لكن، هى فى النهاية، نوع من الأخذ والعطاء.
هذا الكلام أقوله لأبرر استعادتى ــ المعترف بها ــ لنظرية الصديق
العزيز، الناقد المهم، طارق الشناوى، المتعلقة بتعفف على بابا وشراهة أخيه
قاسم.. الشناوى، مع كل مدخل رمضان، ينصح المشاهدين بتتبع عدة مسلسلات وليس
كلها، وإلا لن تتحمل طاقتهم استمرار الاستيعاب، وسيصبحون، مثل قاسم،
الطماع، الذى زاغت نظراته داخل المغارة، واندفع فى جمع كل ما يراه، حتى إنه
نسى كلمة السر، وجاءت نهايته وخيمة. نزعة الاكتفاء عند على بابا، والرغبة
الرعناء فى الاستحواذ عند قاسم، تمتد فى مقالات طارق الشناوى، وتغدو من
المعايير التى يقيس بها مدى اندفاع البعض فى بلع ما لا يمكن هضمه، سواء
مالا أو جاها.
فى العام الأخير، آلت السلطة لمن خلت قريحتها من الإبداع، لأنها لم
تلتفت لضرورة «الأخذ والعطاء». انساقت وراء أفكارها البائسة المتسترة وراء
شعارات فضفاضة، رافضة استيعاب أى أفكار أو رؤى من الممكن أن تمسى مفيدة..
والأدهى، أنها، تصرفت مثل «قاسم»، ما أن دخلت المغارة حتى سال لعابها،
وبينما أخذ «قاسم» يردد، بنشوة مجنونة «ذهب. ياقوت. مرجان»، كان حال السلطة
يردد «مجلس وزراء. مجلس شورى، محافظين»، وحاولت وضع هذه الحمولة فى زمبيل
واحد، أكبر وأثقل من طاقتها وقدرتها، وبالضرورة، وجدت نفسها فى مأزق وعر،
خاصة أنها نسيت كلمات السر «الآخرون، أصحاب المغارة الأصليون، الشعب»
وبالتالى، من المتوقع، أن يكون مصيرها مثل مصير قاسم.
طارق حبيب
كمال رمزي
الأحد 23 يونيو 2013
تقدم المخرج الشاب بشكوى من نسختين، واحدة لرئيس اتحاد الإذاعة
والتليفزيون، والثانية لوزير الإعلام آنذاك، اللواء أحمد أنيس، عددت الشكوى
أسباب رفض المخرج للاستمرار فى التعاون مع طارق حبيب «الفاشل» - حسب النص -
لأن برنامجه مثقل بالخمول والبطء الذى يصل لحد الجمود، مما يؤدى إلى الملل
الشديد.
لم يكن الخلاف بين المخرج والمذيع شخصيا، أو تناقضا أخلاقيا، أو
ماليا، ولكنه فى المحل الأول تباعد موضوعى بين عنصرين، وتوجهين ومدرستين..
طارق حبيب، سطعت صورته على الشاشة الصغيرة مع بداية السبعينيات، مدعما
بقدرات متميزة وفقا لمعايير تلك الأيام: ثقافة أدبية وفنية، طبيعة هادئة،
دمثة يعززها وجه على قدر كبير من الوداعة، بابتسامة مشرقة، دافئة لا تغادر
شفتيه، ودود، بسيط، رقيق، نظراته يمتزج فيها الاحترام مع المحبة، ينجح فى
إقامة جسور الاطمئنان مع ضيفه.. هذه السمات المتوافقة مع المزاج العام
حينذاك، لأسباب كثيرة، تلاشت أو كادت، فأصبح المذيع، على درجة ما من
الصرامة لا يسأل بقدر ما يجادل، لا يقيم وزنا للمجاملات، من الممكن أن
يتنازع فى الأفكار مع من أمامه، ولا يتردد فى كشف أخطاء أو خلل رؤية ضيقة..
لذا، تكررت ظاهرة مغادرة الضيف للاستوديو غاضبا مما يعتبره تجاوزا من
المذيع.
هذا الكلام لا يعنى تفضيل مدرسة عن أخرى، ولكن يهدف إلى بيان ملامح
الاختلاف بين مرحلة ومرحلة وإذا كان من أسبابها حالة الفوران السياسى الذى
نعشيه الآن، بما يحمله من أفكار تقف على طرفى نقيض فإن ما لا يمكن إغفاله
فى ظل ندرة القنوات منذ أربعة عقود، أن الضيوف عادة كانوا من ذوى القامات
الرفيعة العالية تتنافس البرامج على استضافتهم، واستطاع طارق حبيب بطاقته
العاطفية والفكرية تقديم أهم مبدعى وأعلام مصر: نجيب محفوظ، محمد عبدالوهاب،
عبدالحليم حافظ، أحمد رامى، الشيخ محمد متولى الشعراوى، البابا شنودة،
توفيق الحكيم.. وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
ربما كان «اثنين على الهواء» هو البرنامج الأهم فى قائمة برامج طارق
حبيب، يتبلور فيه أسلوبه واضحا ويظهر الفارق الواسع بينه وبرنامج مماثل
عنوانه «اثنين فى اثنين» قدمه منذ ثلاث سنوات كل من وائل الإبراشى ومجدى
الجلاد.. فكرة البرنامج سواء الأول أو الثانى تعتمد على لقاءين منفصلين مع
نجمين يعملان فى ذات المجال بينهما خلافات ما توجه لكل منهما أسئلة
وبالضرورة نتعرض للطرف الثانى فى الحوار ثم يتواجه الضيفان بعد سماع ما
قاله الآخر وغالبا ينتهى اللقاء بتوقير كل من الضيفين للآخر مهما كان بعد
الشقة بينهما حلقات البرنامج الإنسانى بامتياز جمعت بين يوسف وهبى وغريمه
زكى طلميات.. فريد الأطرش ومنافسه عبدالحليم حافظ.. ملك الترسو فريد شوقى
وخصمه الأبدى على الشاشة ملك الشر محمود المليجى.. تحية كاريوكا ومنازعتها
على عرش الرقص الشرقى سامية جمال.. شاركت منى جبر بذات الأسلوب الحميم
لطارق حبيب فى تقديم البرنامج.
على النقيض من روح المحبة التى سادت «اثنين على الهواء» الهادئ الناعم
يأتى «اثنين فى اثنين» وقد انتابته الرغبة العارمة فى التسخين وإحداث
صدامات واستدراج الضيوف للإدلاء باعترافات قاسية فبينما انتهت حلقة إيناس
الدغيدى وآثار الحكيم الملتهبة بالاتهامات والتجريحات بمقاضاة الممثلة
للمخرجة أحدثت أقوال صباح ومريم فخر الدين قدرا غير قليل من اللغط.
بأسلوبه الخاص بدت صورة من استضافهم مختلفة عن صورتهم فى البرامج
الأخرى أوضح وأصدق وأكثر تواضعا فحين سأل فريد شوقى عما أضافه لشخصية
«شحاتة أفندى» فى «السقا مات» لصلاح أبو سيف أجاب لم يكن أمامى أن أضيف
شيئا ذلك أن يوسف السباعى فى روايته المدهشة حدد ملامح الرجل الداخلية
والخارجية بكل دقة تتبع انفعالاته وأحلامه وأفكاره ورسم ملابسه بتفاصيلها
على نحو لم أعثر عليه إلا عند نجيب محفوظ فى شخصيته «حسن أبوالروس» أحد
أبطال «بداية ونهاية».. كان على فقط استيعاب الشخصيتين بروحهما وتصرفاتهما.
بلا ضغينة أو أى ميل أو هوى أنجز طارق حبيب عشرات الحلقات فى «ملفات
ثورة يوليو» التى تعتبر وثائق سياسية وإنسانية نرى فيها ونسمع أصحاب
الأسماء التى حفرت حضورها فى التاريخ وربما هى المرة الوحيدة التى نستمع
فيها لشهادة وصوت شمس بدران، الملكة ناريمان، عبد القادر حاتم، مدكور أبو
العز، والعشرات غيرهم.. وفى كلمات موجزة وصف مؤرخنا المنصف يونان لبيب رزق
هذا الإنجاز بقوله: استطاع صاحب هذا العمل من خلال حوارات غير تقليدية أن
يستخرج من سرائر من حاورهم كثيرا مما يمكن أن يرتقى لمستوى الأسرار.
دار الزمن دورة وأخرى ولأسباب صحية ومهنية انقطع طارق حبيب وعاد عدة
مرات.. ولكن فى المرة الأخيرة أصبح الصخب عاليا فى معظم القنوات وبدا أسلوب
طارق حبيب غريبا وبالتالى قدم المخرج المذكور شكواه وهو لا يدرك قيمة رجل
ترك لنا ميراثا غاليا سيأتى كما أتمنى من يحافظ عليه وينهل منه.
مواقف
كمال رمزي
الخميس 20 يونيو 2013
فى الستينيات، تبادل كل من ثروت عكاشة وعبدالقادر حاتم منصب وزير
الثقافة. الخلاف بينهما جاء واسعا، عميقا، ولكن يبدو لنا الآن مفيدا،
شريفا، مجديا.. سياسة عكاشة تؤمن بالكيف، بينما حاتم يرمى إلى الكم. الأول،
عمل على إنشاء معاهد فنية وتكوين فرق باليه وكونسرفتوار، والثانى أطلق
الكثير من الفرق المسرحية، مع زيادة ساعات الإرسال التليفزيونى، وكما جرت
العادة، حاول كل منهما إثبات صحة توجهاته.. وفى إحدى المرات، عقد ثروت
عكاشة اجتماعات موسعة، متوالية، مع السينمائيين والمسرحيين، والمثقفين،
وطبعا، لكل من الوزيرين رجاله.. وكان الناقد عبدالفتاح البارودى مقتنعا
تماما بسياسة الكم، ولأن مقالاته تتسم بطابعها المحافظ، الذى يجنح نحو
اليمين، فإننا اعتبرناه خصما على نحو ما.. وقف البارودى مهاجما، بشدة، من
تحدث عن «الهجوم التترى لفرق التليفزيون، وحاول الوزير العصبى المزاج،
إيقافه.. لكن البارودى، بإصرار، واصل دفاعه عن سياسة حاتم، الأمر الذى أثار
غضب قطاعات من الموجودين، وقال فيما قاله «وزير يأتى ووزير يرحل، ولا يبقى
على الساحة إلا صناع الثقافة. نحن.. عظم الثقافة» موقف البارودى الشجاع،
جعلنا ننظر له بعين الاحترام.
بعد عدة عقود، فى إحدى زيارات حسنى مبارك للتليفزيون المصرى، حلا
لكبار المسئولين أن يجتمع الرئيس بالفنانين. فى الصف الأول، جلس أصحاب
التاريخ الطويل، أمثال محمد توفيق وتحية كاريوكا. وفى نهاية اللقاء، الحمل
والمرهق، طلب مسئول من القاعدين، فى الصف الأول، أن يتقدموا، فردا فردا،
لمصافحة الرئيس.. فورا، بلهجة حاسمة، مهذبة، قالت تحية كاريوكا: نحن.. كبار
السن، فليتفضل الرئيس ليصافحنا.. انتاب المسئول حرجا شديدا، وفورا، قام
الرئيس مغادرا المنصة، نازلا السلالم، لمصافحة الفنانة.. موقف تحية
كاريوكا، بما يتضمنه من كرامة وكبرياء، يعطى أمثولة تستحق التأمل.
بعد عدة عقود، فى إحدى دورات المهرجان القومى للسينما المصرية، تقرر
تكريم الفنان الكبير، المثقف ثقافة رفيعة، محمود مرسى، وكان من حسن حظى أن
أكلف بوضع كتاب عنه، متضمنا حوارا معه.. وافق النجم النادر، بعد أخذ ورد
وعناء. ولكن. حين عرف أن التقاليد تقتضى صعوده إلى خشبة المسرح، لاستلام
تمثال التكريم، من الوزير، انزعج، ورفض بشدة وحزم، وقال: لا.. أنا لست
مغرورا، ولكن الفنان أهم من أى وزير.. أنا، ينادى على، وأصعد إلى خشبة
المسرح، مبتسما، متظاهرا بالسعادة، لأتسلم شهادة حسن عملى. الفنان أهم من
الوزير، وأطول بقاء منه، والتاريخ، تجاهل العديد من الوزراء، لكنه يذكر،
بمحبة وإنصاف، حسين رياض، وأمينة رزق وزكى رستم.. وفعلا، كان لمحمود مرسى
ما رآه.
الآن، موقف مثقفينا وفنانينا: بهاء طاهر، الغيطانى، مجدى أحمد على،
خالد يوسف، سميرة أحمد، القعيد، سكينة فؤاد، ناعوت، صلاح عنانى، محمد
سلماوى.. وبقية الأسماء التى لا يتسع المجال لذكرها، يثبت أن مصابيح مصر
ونجومها، لن ينطفئ ضياءها.. وأن التاريخ، حتما، سينسى كل من حاول إعتام
حياة المصريين.
هرج ومرج
كمال رمزي
الثلاثاء 18 يونيو 2013
عنوان الفيلم يعبر، بدقة، عن روحه، فهو يعنى «اختلاط وفتنة وتهويش
واضطراب وقلق».. المخرجة، نادين خان، فى عملها الروائى الأول، تبدو، صاحبة
أسلوب راسخ، واضح التميز، متماسك، تنظمه رؤية واضحة، تبدأ بجنازة، وتنتهى
بجنازة، وبينهما، تتوالى الوقائع، فى دورة زمنية تستغرق أسبوعا، وتجرى فى
مكان واحد..
لا تسند بطولة مطلقة لفرد أو فردين، فثمة كتلة بشرية، تعيش فى زمان
صعب ومكان ضنين، بلا إنجاز حقيقى أو آمال كبيرة، فقط فى انتظار عبثى لعربة
الماء، حيث تتزاحم النساء بأوعيتهن، للحصول على ما يسد ظمأ أسرهن. فى اليوم
الثانى، تأتى عربة أنابيب البوتاجاز، يتصارع الجميع حولها. فى اليوم الثالث
ما أن تهل عربة الخضار، حتى يتدافع الجميع نحوها.. هكذا، دورة خائبة، إثر
دورة بائسة. إنهم هامشيون نسيهم تاريخ متوقف، وضاعوا فى مكان متداعى
البيوت، تحيط به أكوام قمامة.
«هرج ومرج»، أقرب للعرضحال، لا يقدم قصة ذات بداية ووسط ونهاية، ويكاد
يخلو من الأحداث الكبيرة أو المحورية. وبرغم خشونة المادة التى يقدمها، فإن
الفيلم ينساب ناعما، هادئا، متأملا، فحركة كاميرا المصور الموهوب،
عبدالسلام موسى، تتحاشى الحركة السريعة، العنيفة، ولا تنقض على هذا الوجه
أو ذاك. تعتمد على اللقطات المتوسطة والبعيدة. وأحيانا، تظل الكاميرا فى
مكان مرتفع، لترصد، برهافة، حركة المجاميع المتدافعة، من أجل ما يبقيها على
قيد الحياة.. وتتعمد المونتيرة المتمكنة، دينا فاروق، استخدام المسح
التدريجى فى الانتقال من مشهد لآخر، ولا أقول من لقطة للقطة، فالمخرجة،
تتحاشى اللقطة القصيرة، وتهتم بالحركة البشرية المتدفقة، فى الساحة، وداخل
شقق صغيرة، حيث الكادرات الضيقة، التى توحى بالحصار والاختناق.
ولا يفوت واضع المؤثرات الصوتية، سيد هاشم، استخدام صوت نعيق الغربان
بين الحين والحين.
عن قصة لنادين خان، كتب محمد ناصر على السيناريو، متلمسا مسارات عدة
شخصيات، منها الفتاة الفائرة الأنوثة منال ــ بأداء ذات الوجه المصرى
الأصيل، أيتن عامر ــ التى تعطى ريقا حلوا، مراوغا، للشابين اللذين
يتنازعان عليها يؤدى دوريهما الواعدان: محمد فراج ورمزى لينر.. «منال»،
تعيش مع والدها، كبير المنطقة، الحاج سيد، بأداء المتمكن، صبرى عبدالمنعم..
وهو، صاحب بقالة نصف خاوية، له حكاية هامشية تقلقه أشد القلق، فلأنه أرمل
يقيم علاقة مع امرأة غلبانة، زوجها المفلس يدمن المخدرات، تجد فى رقة
الحاج، وعطاياه، ما يرطب حياتها.. ويفزع الحاج حين يفقد تليفونه المحمول،
وبدورها، تحاول المرأة الانتحار. والسبب، كما سنعرفه لاحقا، أن الحاج، حلا
له تصوير المرأة، بمحموله، على نحو فضائحى.. الفيلم، يجيد لعبة الإخفاء
والإظهار.
قرب النهاية، تقام مباراة كرة قدم، بين فريقى «زكى» و«منير». الخاسر
سيأتى بكمية كبيرة من اللحوم، توزع على نحو ما، فضلا على الزواج من
«منال».. إنها «لحمة»، أكثر من كونها كائنا إنسانيا.
لكن مهلا، فالرواية التى تقدمها نادين خان فى لوحتها البانورامية لم
تستطع أن تفتح أى نافذة للأمل تبدد شيئا من التعاسة الجاثمة على أناس تبدو
تعاساتهم كما لو أنها قدر لا فكاك منه.. هنا، لا أحد يرنو إلى النور أو
يساهم فى صنع مستقبل، إنهم، مجرد أفواه، يعيشون على نحو غرائزى، بلا وعى أو
إرادة، وهذا ما يتنافى مع المنطق الإنسانى وجعل الفيلم يبدو كما لو أنه قدم
لوحته بعيون نصف مغمضة، أو بعين واحدة.
مصر.. فى بيروت
كمال رمزي
الثلاثاء 11 يونيو 2013
المصرى الجالس على أحد مقاهى شارع الحمرا فى بيروت، لابد أن يلتقى
أصدقاء من هذا البلد العربى أو ذاك، وغالبا، بعد السلامات والقبلات، يبدأ
الحديث بآخر جملة قيلت فى اللقاء السابق، الذى مضى عليه عدة شهور..
وبرغم أن المجتمعين من المعنيين بالشأن الثقافى والإبداعى، نقادا،
شعراء، كتاب قصة، فإن السياسة تفرض نفسها فورا أو بعد قليل، وكيف لا؟ وأنت
تشاهد أمامك عربات تخرج من نوافذها أعلام سوريا ولبنان وحزب الله، احتفالا
بتحرير مدينة «القصير» الاستراتيجية من أيدى قوات مستترة الجنسيات، فإلى
جانب «الجيش الحر» ثمة «النصرة» العراقى، و«القاعدة» مع القادمين من
القوقاز وأفغانستان وتونس والجزائر، مع أتراك يشتبه فى عمالتهم لسلطة
أسطنبول، المتعلقة بأهداب حلف «الناتو»..
فى المقابل، على النقيض، يرى البعض أن «القصير»، المدمرة، الخاوية من
أهاليها، لم تتحرر، ولكن سقطت فى يد النظام الجريح، المترنح، الذى يخوض
معركته الأخيرة، الدامية.. وفى عنوانها الرئيسى، فى الصفحة الأولى، كتبت
إحدى كبريات الصحف «5 حزيران 2013: سقوط القصير». هكذا تربط الجريدة، بذكاء
أو بخبث إن شئت الدقة، بين ما حدث فى «القصير»، ونكسة 5 يونيو 1967.
الموقف من الوقائع يختلف حسب زاوية الرؤية، وحسب انتماء الشخص المبدئى،
وكالعادة، انتقلت المناقشات، التى تدخل فيها بعض رواد المقهى، من سوريا إلى
الربيع العربى، وإلى خريف أردوغان، ــ النجم الذى سقط قناعه وبدت ملامحه
متطابقة مع تقاطيع الرؤساء الفاشلين ــ إلى مصر، التى غدت، فورا، محور حديث
لم أشارك فيه بقدر ما استمعت، مستمتعا، بكيفية رؤية الآخرين لنا، وما يدور
عندنا.. وأول ما لاحظته، تلك البهجة التى انتشرت بين الجميع، خاصة حين أخذ
البعض يردد النكات السياسية المنتشرة فى مصر، والتعليقات الساخرة على
الشبكة الإلكترونية، والانفجار الإبداعى لفن الكاريكاتير.
قالت صحفية لبنانية، قادمة من مصر التى تحبها: لم أفهم لماذا ينقطع
النور فى بلد كان، منذ فترة قصيرة، يصدر الكهرباء لبلدان مجاورة. واصلت: لم
أقتنع بتلك الأسباب التى تتحدث عن نقص المازوت أو زيادة الاستهلاك أو عطب
محولات، وكلها مسائل لا يمكن أن تؤدى إلى هذه الحالة المزمنة، وأضافت:
«لمست حالة الاستحواذ المحموم التى يقوم بها الحزب الحاكم، ومحاولاته
المتوالية لأخونة مفاصل الدولة، وطمس أنوار مصر الثقافية».
مؤرخ، ناقد سينمائى، علق بخبرة وذكاء على كلام الصحفية: أتذكر دائما
أغنية «الشارع لنا» التى قدمها يوسف شاهين فى «عودة الابن الضال». إنها
أغنية الشعب العظيم.. حين أعلن رئيس الجمهورية حظر التجول فى مدن القناة،
نزل الناس إلى الشوارع، سهر طوال الليل ولعب شبابه كرة القدم، وانقلب السحر
على الساحر، وفرض حظر التجول على من أصدر القرار، ولم يعد الرئيس يستطيع
التجول فى المدن المذكورة، فضلا على الإسكندرية.. وحتى فى القاهرة، يتحرك
موكبه كما لو أنه يهرب من مطاردة. الشعب يملك الشارع.
أما مسألة الأخونة، ومفاصل الدولة، والثقافة، فإن ما يحدث يستحق
التأمل، فها هو وزير الثقافة المفروض، المرفوض من الشارع الثقافى. بملامح
وجه متكدر، مترع بالضيق والهم والغم، لا يستطيع أن يفتتح مهرجانا أو معرضا،
أو حتى يصل لمكتبه. المثقفون المصريون منعوه، والشعب المصرى يحاصر السلطة
ويلتهمها.
لقد أحببت صورة مصر.. فى عيون اللبنانيين.
عفارم
كمال رمزي
السبت 8 يونيو 2013
خالد أرجنش، بطل «القرن العظيم»، المسلسل المعروف عندنا بعنوان «حريم
السلطان» تخلى عن ملابسه التاريخية الفاخرة، المحلاة بخيوط ذهبية، ذات
الألوان الزاهية، وخلع خواتمه، المدججة بفصوص الألماس. غادر القصور
العثمانية العامرة بالجوارى والعبيد. نزل إلى الشارع، عند مجامع المتظاهرين
فى أحداث انتفاضة ضد النظام.
فى صوره التى تناقلتها وكالات الأنباء، لم يعد الآمر الناهى، الذى لا
يطرف له جفن، ولكن أصبح رجلا عاديا، وربما أجمل وأدفأ إنسانيا، فهنا، يرتدى
خالد فانلة، نصف كم، رمادية اللون، مشدودة حول الصدر، يلف ذراعيه حول ذراعى
من بجانبيه، فيما يشبه السلسلة، وهو الوضع الأمثل لمواجهة هجمات الشرطة..
وفى صورة أخرى، بجواره زوجته الممثلة، بير جوزار، ممسكا بزجاجة مياه، ويضع
كمامة على أنفه، تجنبا لاستنشاق الغاز المسيل للدموع.
لم يكن مؤدى شخصية «السلطان سليمان» هو الفنان الوحيد فى المظاهرة،
فثمة عدد لا يستهان به، من نجوم الشاشة، الكبيرة والصغيرة، اندمجوا مع
الغاضبين، سواء فى المصادمات المباشرة، أو بإثبات المواقف، لأن الظروف حالت
دون تواجدهم، فها هى ذات الرونق الهادئ الخلاب، هازال كايا، بطلة مسلسل «فريحة»،
المتواجدة فى لوس أنجلوس، حملت لافتات تقول «لست وحدك يا اسطنبول»، و«يعيش
ميدان تقسيم».
دوافع الفنانين لم تكن احتجاجا على قطع مئات الأشجار، أو بسبب منع بيع
الخمور من العاشرة مساء إلى العاشرة صباحا، حسب ادعاء بعض وكالات الأنباء
الحكومية، كما لم تكن المرة الوحيدة التى ينزل فيها النجوم إلى الشارع.
جاءت الانتفاضة التى امتدت من اسطنبول إلى أنقرة إلى أزمير إلى...
احتجاجا عنيفا ضد ممارسات سلطة، مشكوك فى نزاهتها، اقتصاديا وسياسيا
وثقافيا، برغم شعاراتها البراقة، المخادعة، فالعائد من الرواج التجارى الذى
تشهده تركيا، يصب فى جيوب المحيطين بحزب «العدالة والتنمية». وثمة إدراك،
واستنكار، لدور السلطات الحاكمة، كمخلب لحلف «الناتو»، تقوم بالتواطؤ
المريب ضد الدول المجاورة، وآخرها سوريا.
وبالإضافة لاعتقال وسجن أكثر من مائة صحفى وكاتب، تعمل الحكومة على
العودة إلى العثمانية، فالأصل فى حديقة «تقسيم»، أنها كانت، فيما مضى
«ثكنة» عثمانية، وشاء الحزب الحاكم، اصطياد عدة عصافير بفرمان واحد:
الاستيلاء على الحديقة، قطع أشجارها، إنشاء بناية على شكل الثكنة، تعيد
ملمحا عثمانيا، فضلا عن استغلاله كمركز تجارى، على طريقة المولات، حيث
تتولى شركات المقاولات، التابعة للنظام، ذات السمعة السيئة، بتحقيق المشروع
والاستفادة منه.
وما وضع بعض المتظاهرين أكاليل الزهور تحت تمثال كمال أتاتورك إلا
تعبيرا عن الصراع بين العثمانية والأتاتوركية.أيا كانت نتائج هذه
الانتفاضة، فإنها جولة، من جولات سابقة ولاحقة، يؤدى فيها الفنانون، ضمير
الوطن والناس، دورا نبيلا، يذكرنا بفنانى مصر الشرفاء، الأقوياء، الذين
يقفون ضد هدم وتشويه وجه مصر الثقافى.
منذ شهور قليلة، وفى نوبة من نوبات هجوم «العدالة والتنمية» على
المعالم الثقافية العصرية، المتحضرة، تقرر هدم أهم وأضخم دار سينما فى
اسطنبول.. سينما «إيميك»، العريقة، ذات الطابع المعمارى المشابه لسينما
«ريالتو» بالإسكندرية، والتى يتم هدمها الآن.. أسندت الحكومة التركية عملية
الهدم وإقامة «مول» مكانها، فى شارع الاستقلال، إلى شركة مقاولات مشكوك فى
نزاهتها.
وأمام دار العرض، التى يقام فيها مهرجان اسطنبول السينمائى الدولى،
اندلعت مظاهرة الفنانين الأتراك، ومن بينهم «سلمى أرجش»، التى قامت بدور
السلطانة خديجة فى «حريم السلطان» و«أوكان بالبيك»، الذى أدى دور «إبراهيم
باشا» فى ذات المسلسل، وهازال كايا، سالفة الذكر، وآخرون.. وطبعا، تعاملت
الشرطة مع المتظاهرين بأدواتها: خراطيم المياه، الساخنة هذه المرة،
والغازات الخانقة، والعصى.. الترسانة التى قد تفلح مرة، أو مرتين، ولكنها،
غالبا، فى النهاية، لا يكتب لها النصر.
الحرامى والعبيط
كمال رمزي
الثلاثاء 4 يونيو 2013
منذ بداية الفيلم، مع المشاهد الأولى، يخطرنا خالد الصاوى، على نحو
إيحائى، أنه ليس مجرد بلطجى أو حرامى. لكن أكبر وأهم من هذا وذاك، فهو،
هنا، فى عالم القاع، السلطة المطلقة، صاحب اليد الطولى، أقرب لوزير
الداخلية، يحمى المنطقة ويرعى شئونها، حسب ادعائه الذى ندرك مدى زيفه، طوال
الفيلم، حيث يمارس، بلا ضمير أو تردد، أشد ألوان الوحشية والشراسة، بل لا
يتوانى فى بيع أعضاء جسد أقرب المقربين له: حبيبته ناهد ــ بأداء روبى ــ
بعد أن قام بالسطو على قرنية وكلية صديقه فتحى، الأهطل، الذى قام بدوره
خالد صالح.
قصة «الحرامى والعبيط» قد تبدو بسيطة، من الممكن أن تحكى فى عدة سطور:
الحرامى، المهيمن على منطقة عشوائية، يفقد إحدى عينيه فى معركة. خطيبته،
الممرضة، تعمل فى عيادة، طبيبها يتولى نقل الأعضاء. الحرامى يقرر استدراج
العبيط إلى التنازل عن عينه، وأن تتم سرقة كليته نظير مبلغ مالى كبير.
الحرامى يتعرف على عصابة، من النوع الحديث، تتاجر فى الأعضاء البشرية.
يتفق معها على بيع جسد الحرامى، بالجملة، دفعة واحدة، وبعد اكتشافه لألاعيب
خطيبته، يضع لها مخدرا فى العصير. يسلمها للعصابة كى تفككها. تنطلق رصاصة
عن طريق الخطأ، أثناء عبث العبيط، تصيب الحرامى وترديه قتيلا..
لكن السيناريو الذى كتبه اللامع، صاحب «ساعة ونصف» و«كباريه» و«فرح»،
أحمد عبدالله، كعادته، يتجاوز الحدوتة، بمغزاها الأخلاقى، ليوسع آفاق
رؤيته، ويعبر عما هو أبعد من المكان، وأن تعبر شخصياته عن قطاعات أشمل، بل
عن مجتمع قائم على ثنائية سادة متوحشين، ومواطنين مقهورين.
فحين يختفى فتحى ينشط الحرامى فى البحث عنه، ينتقل من مكان لآخر، وفى
كل مرة، يجد شبيها له. رجل مهلهل، ملبسا ونفسا، بلا وعى أو إرادة أو كرامة،
كأن الفيلم ينبهنا إلى أن المعتوه، الذى سيسلم قياده لمن لا يستحق الثقة،
متوفر بسخاء، وهو شرط من شروط وجود البلطجى أو المتسيد، المستبد، صاحب
السلطة المطلقة.. وفى مشهد آخر، أثناء احتفال الحرامى بالانتصار البشع على
خطيبته، يترنح الرجل منتشيا، فوق قمة تطل على شوارع القاهرة، كأن البلطجى
أصبح أمير المدينة.
لكن مشكلة الفيلم أن انفتاح رؤيته على دائرة أوسع، ظلت مكبلة بتلك
الواقعية الخشنة، شكلا وموضوعا، الأمر الذى أثر سلبا على العمل، فنيا
وفكريا. العبيط، أو الشرير، فتحى، الذى ينظف الحارة ولا ينظف نفسه، لا نكاد
نرى وجهه المغطى بلحية كثيفة، فظيعة، متربة، أهدرت إمكانات الموهوب، خالد
صالح، فى التعبير عن انفعالاته، بملامحه..
أضف إلى هذا، حكايته الهزيلة، التى يوردها الفيلم فى «فلاش باكات»
متقطعة، نعلم منها أنه، فيما مضى، كان سليما، عاقلا، ثم اهتز نفسيا حين ضبط
زوجته فى أحضان رجل، وطاش عقله إثر علقة موت من أقارب زوجته أو العشيق، وهى
كلها، أسباب تلفيقية، كان الفيلم فى غنى عنها، بالإضافة إلى أنها تسطح
دلالة هذه الشخصية، وتجعلها حالة فردية فى المحل الأول.. والأهم، أو
الأخطر، تلك النهاية الطوباوية، الأقرب إلى الصدفة، التى تثأر من البلطجى،
وتضع له ختاما داميا، بينما هو لا يزال يعيش بيننا.
محمد مصطفى، مخرج الفيلم، حقق نجاحا بتوزيعه الأدوار على ممثلين
نموذجيين: روبى، تؤدى شخصية الممرضة ناهد، بتفهم ومهارة، فإلى جانب طلتها
المصرية تماما، حافظت على تكوينها الداخلى كفتاة تعيش فى منتصف الأشياء.
نصف زوجة للحرامى، نصف فاسدة، نصف خائنة، نصف مجرمة، تريد أن تبقى على قيد
الحياة بأى ثمن، فيكون الموت هو الثمن.
إلى جانب الطبيب الذى يجرى عمليات نقل وسرقة الأعضاء البشرية، مجدى
بدر، الأقرب فى حركته والتفاتاته إلى الثعبان، ثمة مقاول الأجسام البشرية،
ضياء الميرغنى، الذى يستوحى، فى مشيته، بالضبع.. فضلا عن خال «ناهد»، سيد
رجب، مدمن الحشيش، المتمتع بأداء طبيعى..
أما خالد الصاوى، واسمه فى الفيلم صلاح روستى، فإن لمعان ذكائه يتجلى
حين يوحى للمتفرج، بنظرة عين، إلى أنه يعبر عما هو أبعد من كونه مجرد «حرامى»،
ويصل مع خالد صالح، إلى تفاهم عميق، وهما يمسكان بيد بعضيهما، ليهتفا،
بطريقة تنبه المتفرج إلى تآخيهما المستحيل «فتحى وصلاح عين واحدة»، وهو
الهتاف المضلل الذى يذكرنا باجتماع الأضداد «كذا.. وكذا.. إيد واحدة». «الحرامى
والعبيط»، ربما لا يحقق الطموح كاملا.. لكن، يستحق المناقشة.
وائل الإبراشى
كمال رمزي
الإثنين 3 يونيو 2013
أصبح المذيع نجما فوق العادة، لم يعد مجرد شخصية مرموقة كما كان من
قبل، أيام اقتصار دوره على سرد الأخبار، أو إجراء مقابلات، هادئة، مع
شخصيات شهيرة أو مغمورة، أو إدارة حوارات، أقرب للندوات، أطرافها يلتزمون
بعدم تجاوز ما هو مسموح به. المذيع، فيما سبق، لابد أن يكون محايدا، دمثا،
وربما ممسكا، معنويا، بصفارة الحكم.
الآن، بعد تدفق مياه كثيرة تحت الكبارى، تغير الأمر، خاصة بالنسبة
للمذيع صاحب الموقف والرأى، ذلك أنه غدا طرفا فى الصراع، يعبر، بفاعلية، عن
أحد التيارات المعتملة فى الواقع، باتجاهاتها المتنافرة. وأحيانا، يتضخم
دور المذيع إلى الحد الذى يبدو معه كما لو أنه حزب، أو مؤسسة لحقوق
الإنسان، وهذا لا يعنى أنه يمسك بعصا موسى، ولكن يشير بجلاء إلى وهن
الأحزاب وضعف جمعيات حقوق الإنسان، المحاصرة بشراسة، من قبل سلطات مهتزة.
وائل الإبراشى، المذيع النجم، ابن مدرسة روزاليوسف، التى تجمع بين
الإثارة والجرأة، جاء أصلا من «شربين»، المدينة الدقهلاوية، ذات التاريخ
المفعم بالسياسة، التى أفرزت تيارات تنتمى لأقصى اليسار وأقصى اليمين،
وتميز أهاليها بقوة الأبدان، والقدرة المتجددة على العمل.. وائل نفسه، طويل
القامة، كان من الممكن أن يكون لاعبا لكرة السلة، لكن وقاره يمنعه من الجرى
والقفز، وهو صاحب وجه بتقاطيع رومانية ــ من أين جاءت؟ حيث تبرز الأنف
المستقيم، متسق مع عينين غائرتين، يعلوهما حواجب كثيفة، فضلا عن شعر رأسى
فضى اللون، يوحى أن صاحبه، أو حلاقه، صبغه ورتبه شعرة شعرة.. مؤهلات كفيلة
بجعله يؤدى دورا سينمائيا فى فيلم تدور وقائعه فى قاعة وأروقة مجلس الشيوخ
الرومانى.
بهذه السمات، دخل وائل عالم الشاشة الصغيرة. انتقل من برنامج لآخر
ليستقر فى «العاشرة مساء»، خلفا للمذيعة المرموقة منى الشاذلى، التى غالبا،
تتعمد اختيار ضيوفها من الذين يتوافقون معها، أو الذين لا يثيرون اختلافا
مع قطاعات واسعة من المشاهدين، مثل أحمد زويل، نصير شمة، عمر خيرت، محمد
أبوتريكة.. وهى أسماء لا يتحمس لها الإبراشى، الأميل لاستضافة النقائض، كأن
يجمع بين «أبوإسلام» و«أحمد دومة»، أو أحد المتحمسين للنظام القائم وآخر من
شباب «تمرد».
وطبعا، بعد قليل يتحول الاستوديو إلى ما يذكرنا بمعارك المجالدين، أو
المتصارعين حتى الموت، فى استادات الرومان قديما.. الإبراشى، يحاول أن يبدو
محايدا، الامبراطور، الحكم، لكن غالبا، ينتهى العرض إما بتأجيل النتيجة، أو
بنزول الحكم إلى حلبة الصراع.. وحينها يحاول أن يظل بوقاره.
فعندما استضاف رجلا عجيبا اسمه «مرجان»، يفتى بضرورة تحطيم التماثيل،
بما فى ذلك الأهرام وأبوالهول، اضطر، أمام خزعبلات الرجل، أن يقول له ساخرا
«ما تجبلناش جنان يا شيخ مرجان»، وهذا الرد يتنافى مع ما قد يحدث لمذيع
آخر، مثل جابر القرموطى، الذى كان من المتوقع أن يشد شعره ــ شعر رأسه وليس
شعر رأس ضيفه ــ والإبراشى فى هذا، يحقن المشاهد، ضد ضلالات الرجل.. وائل
الإبراشى، لون له جاذبيته، من ألوان قوس قزح المذيعين.
الشروق المصرية في
03/06/2013
عبر فيلم صامت يروي قصة زوجين تمنعهما الحرب والأولاد من
لحظات حميمة
طرزان وعرب أخوان توأمان ينقلان غزة إلى مهرجان كان
السينمائي
لميس فرحات
حمل شقيقان توأمان غزة إلى المحافل الفنية العالمية عبر فكرة بدأت
حلمًا، إذ تمكن الغزيان محمد وأحمد أبوناصر من إيصال فيلهما إلى فرنسا ليتم
ترشيحه في مهرجان كان، وانطلق فيلمهما الصامت من الواقع الفلسطيني عبر
زوجين تردعهما الحرب وصراخ أولادهما عن العثور على لحظة حميمة.
من المعروف أن غزة ليست المكان الأمثل لصناعة الأفلام، فهذه الأرض
الفلسطينية المحاصرة لا تفتقر فقط للتدريب والتعليم الرسمي لصنع الأفلام،
بل أيضًا إلى صالات السينما، التي أغلقت كلها في أواخر السبعينات وأوائل
الثمانينات، بعدما امتدت موجة من المحافظة الدينية على قطاع غزة.
هذه العقبات لم تمنع الأخوين محمد وأحمد أبوناصر من ملاحقة حلمهما،
فتمكن الشابان الملقبان بـ "طرزان وعرب" من صنع فيلم قصير مدته 14 دقيقة
بعنوان "كوندوم ليد"، وهو أول فيلم فلسطيني قصير يتم ترشيحه في مهرجان كان
السينمائي.
"لقد حاولنا زراعة الثقافة السينمائية في غزة على الرغم من
الصعاب الواضحة"، يقول طرزان لصحيفة الـ "إيكونوميست"، الذي غالبًا ما
يقاطعه شقيقه التوأم أو يكمل كلامه. ويتشارك معه التوأم أبو ناصر الشكل
الخارجي والذوق في اللباس أيضًا، مثل قلائد الخرز والأحذية الرياضية
المهرّبة من مصر إلى غزة عبر الأنفاق.
صمت الواقع
"كوندوم ليد"، الذي تم عرضه للمرة الأولى في القدس ورام الله في
وقت سابق من هذا الشهر، يستوحي اسمه من "كاست ليد"، أي (عملية الرصاص
المصبوب)، التي أطلقتها إسرائيل على هجومها على غزة في العام 2009.
الفيلم الصامت يحكي قصة زوج وزوجة يحاولان العثورعلى لحظة حميمة، وسط
القصف وصراخ أولادهما. ويتناول الفيلم الحرب من خلال مقاربة مغايرة لمشهد
الموت والقتل، ويصوّرها من خلال حميمية الزواج في ظل الحرب.
الفيلم خال من الحوار والموسيقى ويعتمد على الضوضاء والصور الخلفية
ليصف ما قد تؤول إليه مشاعر رجل وامرأة تحت الحرب. وجاء الفيلم تحت شعار
"حلم بالأمل والألفة والحب في عالم يسوده القسوة والانقسام".
أما لمن يعتقد أن الفيلم هو عبارة عن مشاهد جنسية أو إيروتيكية، فيقول
طرزان وعرب إن هدفهما مختلف كليًا، وهو التعبير عن التوق الأساسي إلى
الحماية والأمن والحب.
عرض الفيلم في رام الله في مركز القصبة للفنون الذي يعرض الأفلام
والعروض الراقصة والموسيقى والمسرحيات، كجزء من مهرجان الفيلم الفرنسي
العربي السنوي، بدعم من الحكومة الفرنسية.
يراعي الآداب العامة
الحضور كان مكتملًا في الصالة لحظة عرض الفيلم، على الرغم من أن البعض
قد فوجئ بموضوع الفيلم. لكن اتضح بعدها أن "كوندوم ليد" لا يحتوي على مشاهد
تخدش الحياء، إذ تتم الإشارة إلى العلاقة الحميمة للزوجين مع ضوضاء في
الخلفية (الصوت المستمر للطائرات) وبعض الصور الحية، مثل تلامس أصابع
القدمين، التي تعكس عاطفة وإحباط الزوجين تحت التهديد المستمر للحرب.
نظرًا إلى تمويله المحدود، عانى طرزان وعرب من مشاكل إنتاجية وعراقيل
عدة، ليس أقلها انقطاع التيار الكهربائي المستمر في غزة، والتحدي للحصول
على تصاريح من الحكومة التي تقودها حماس. وكان الارتجال هو الخيار الوحيد
لهما، إذ كانا يتوجّهان إلى مقاهي الانترنت عندما تنقطع الكهرباء في
منزلهما لاستكمال العمل على إخراج الفيلم.
في ظل الحصار المفروض على منطقتهم الساحلية المحتلة، حاول طرزان وعرب
جلب عالم السينما إليهم، فاعتادا مشاهدة الأفلام المقرصنة لمخرجين من روسيا
وفرنسا وآسيا، وتأثرًا بكل من برنارد وبير تولوتشي وأندريه تاركوفسكي
وإنغمار برغمان.
محاولتها الأولى لدخول عالم السينما كانت في العام 2010 عندماعملا على
تصميم سلسلة من الملصقات عن أفلام يحلمان بتصويرها لو كان بمقدورهما. وأطلق
الشابان على هذا المشروع اسم "غزة وود" أسوة بـ "هوليوود"، وكانت عناوين
الأفلام التي طبعت على الملصقات مستوحاة من الهجمات الإسرائيلية على قطاع
غزة، مثل "مطر الصيف"، "غيوم الخريف"، "الدرع الواقي" و"الرصاص المصبوب".
غزة وود
يقول عرب: "غزة وود كانت محاولة لكسر خوفنا من صناعة الأفلام التي
كانت بعيدة عنا. كان بإمكاننا أن نخدع أنفسنا بالملصقات ونرضى بها، لكن
الحقيقة هي أن هذه الملصقات كانت تروّج لأفلام لا وجود لها سوى في أحلامنا.
أردنا ما هو أكثر من ذلك".
الرغبة في المزيد هي التي دفعت الأخوين أبو ناصر إلى تحويل واحدة من
هذه الملصقات الساخرة إلى فيلم قصير حقيقي من سبع دقائق، بجهدهما الخاص في
الكتابة والتمثيل والتصوير والإخراج.
الفيلم كان بعنوان "رحلة ملونة"، وعرض في أربعين دولة، لكن عرب وطرزان
لم يتمكنا من حضور العرض الأول لفيلمهما في لندن، إذ لم يسمح لهما بمغادرة
غزة. لكن في عام 2011، تمكن الشابان من السفر خارج القطاع للمرة الأولى،
حيث حضرا العرض الخاص لفيلمهما في أوستن، تكساس. وأتيحت لهما الفرصة أيضًا
بالدخول إلى صالة سينما للمرة الأولى، ومشاهدة أحد أفلامهما المفضلة على
الشاشة الكبيرة، وهو فيلم "صرخات وهمسات" لبيرغمان.
"صنع في فلسطين"
وفي وقت سابق من هذا العام، شارك عرب وطرزان في تأسيس شركة إنتاج تدعى
"صنع في فلسطين" جنبًا إلى جنب مع راشد عبدالحميد، وهو منتج فلسطيني وممثل
أدى دور الزوج في فيلم "كوندوم ليد".
ونظرًا إلى الميزانية المحدودة، صوّر الثلاثي هذا الفيلم في يوم واحد
فقط، وعملوا على المونتاج والتقطيع لثلاثة أيام، ليقدموه قبل بضعة أيام فقط
من بدء فعاليات مهرجان كان.
"لقد حلمنا دائمًا بالذهاب إلى مهرجان كان"، يقول طرزان وعرب،
معربين عن سعادتهما بأن الأفلام من غزة لديها الآن مكانة على الساحة
السينمائية الدولية.
إيلاف في
29/06/2013
تعظـيم سـلام لجيش مصـر الوطـني
كتب: أحمد السماحى
من مهد الحضارة المصرية القديمة و الجيش المصري الوطني- يعتبر أقدم
وأقوي جيش عرفته البشرية- يلعب دورا كبيرا في الدفاع عن مصر ضد الغزاة,
وقدم الفكر العسكري المصري أرقي مفاهيم و تقاليد الجندية, وخاض الجيش
المصري معارك الشرف ضد جحافل الجيوش التي هاجمت مصر, أو جهزت
لمهاجمتها.
ومن المعارك الكبيرة الخالدة التي خاضها جيش مصر الوطني كانت معركة'
قادش' في عهد الملك رمسيس الثاني ضد' الحيثيين', و معركة' مجيدو' في عهد
تحتمس الثالث, كما خاض في العصور الوسطي معارك كثيرة مثل' حطين, عين جالوت,
المنصورة, فتح عكا, مرج الصفر' وغيرها من المعارك الضخمة ضد المغول
والصليبيين الذين كانوا من أقوي جيوش العالم آنداك, وكانت نتائجها بطولات
عظيمة سطرها التاريخ, وغيرت وجه العالم.
حصل الجيش المصري في العصر البطلمي علي لقب أقوي جيش في العالم,
والأسطول البحري المصري كان سيد البحر المتوسط من غير منازع, ورغم تغير
الملوك والرؤساء, لكن الجيش المصري ظل محتفظا بقوته, وحتي الآن يعتبر من
أقوي جيوش العالم عددا وعدة, لذا لم يكن غريبا أن تحل مصر في المركز الأول
بين الدول العربية في التصنيف السنوي الأخير لأقوي جيوش العالم في عام2013
بحسب موقع' جلوبل فاير باور'.
ولأن الفن انعكاس للواقع فقد مجدت كل الفنون سواء المسرح أوالسينما
أوالغناء الجيش المصري, وكانت البداية عام1905 علي يد الشيخ سلامة حجازي
عندما أنشأ فرقته الخاصة, وقدم مسرحيته الغنائية' صلاح الدين الأيوبي' حيث
لحن وغني أغنيته الخالدة' إن كنت في الجيش أدعي صاحب العلم' تأليف نجيب
حداد, وبعد نجاحها الكبير قامت منيرة المهدية بغنائها, وكذلك حامد مرسي,
كما تم تقديمها بعد سنوات طويلة وبالتحديد عام1942 في فيلم' الشريد' بطولة
آسيا وزكي رستم وحسين رياض.
أحسن جيوش الأمم
عندما هبت ثورة1919 كتب الشاعر بيرم التونسي مسرحيته الغنائية'
شهرزاد' لتأييد الثورة, وتحمس الشيخ سيد درويش لتقديمها لإثارة الحماس
الوطني عند المصريين, حيث تحكي قصة بطل يحب وصيفة إحدي الأميرات التركيات
وتسمي' شهرزاد' ويدفعه هذا الحب إلي أعمال البطولة في الحرب, كما تعجب
الأميرة بالبطل فترقيه إلي رتبة' باش سنجق دار' أي قائد الجنود, وتسير
المسرحية بالزجل الحماسي الوطني من خلال أغنياته التي تتطرق بذكاء إلي
تمجيد الجيش المصري والاعتزاز بالجنسية المصرية وصدق الانتماء إلي مصر مهما
كانت الضغوط التي يعانيها المصري في أي مكان والتي كان يعانيها من آثار
الاستعمار, كما عبر عنها البطل في ختام رحلته صارخا:' طول ما نهر النيل
بيجري, أنا لا أتذل عمري, وأن حكمت أي مصري, أحكمي ع المستحيل'.
أما أشهر أغنيات المسرحية التي تمجد الجيش المصري فهي:' اليوم يومك يا
جنود, ما تجعليش للروح تمن/ يوم المدافع والبارود, مالكيش غيره في الوطن,/
هيا أظهري عزم الأسود,/ في وجه أعداء الوطن,/ عار علي الجندي الجمود,/ إلا
إذا لفوا الكفن'.
وأيضا الأغنية الرائعة' أحسن جيوش في الأمم جيوشنا' التي يقول
مطلعها:' أحسن جيوش في الأمم جيوشنا/ وقت الشدائد تعالي شوفنا/ ساعة ما
نلمح جيش الأعادي/ نهجم ولا أي شيء يحوشنا/ مستقبل الأمة بين أيديكم/ بيقول
لكم احفظوا شرفنا/ ردوا آدي الشعب بيناديكم/ بيقولكم احفظوا شرفنا'.
واستطاع سيد درويش إلهاب حماس جمهور العشرينيات بأغنية' دقت طبول الحرب يا
خياله/ وآدي الساعه دي ساعة الرجاله/ انظروا لأهلكم نظرة وداع/ مره مافيش
بعدها إلا الدفاع'. ومن أجمل أغنيات الجيش في المسرحية أغنية' الجيش رجع م
الحرب' التي يقول مطلعها:' الجيش رجع م الحرب بالنصر المبين/ والدنيا هايصه
والأهالي فرحانين/ بعسكر الدولة اللي عادوا منصورين/ رافعين بنادقهم
وفاردين العلم'.
ولم يكتف سيد درويش بهذه المسرحية الغنائية, فقدم عام1923 مسرحية'
الهلال' من تأليف وكتابة أغاني عبدالحميد كامل وبها العديد من أغنيات الجيش
من أهمها أغنية' أحنا الجنود زي الأسود' التي يقول مطلعها:' إحنا الجنود زي
الأسود/ نموت ولا نبعش الوطن/ بالروح نجود بالسيف نسود/ علي العدا طول
الزمن'.
الجهادية
ولحث الشعب- خاصة الشباب- علي الذهاب إلي الجيش' الجهادية' يقدم
الموسيقار محمد عبدالوهاب عام1925 أغنيته الأولي عن الجيش بعنوان' علي يوم
ما خدوني الجهادية' كلمات محمد يونس القاضي, والتي يقول في مطلعها' علي يوم
ما خدوني الجهادية/ وقرايبي بيبكوا حواليه/ شافوني لابس بدلة جهيدي/
والبندقية شايلها فـ إيدي/ أبويا قال عجبك يا سيدي/ مارضتش تودي البدليه/
جابوا لي ابني بيرضع/ بصوا عليه وعيوني بتدمع/ وقلت له يا ابني اسمع/ وأوعي
تأثر فيك حنيه/ وأنا لسه بودع علي مهلي/ سمعت البوري بيندهلي/ نساني ابني
وبقية أهل/ وخدمة وطني واجبه عليه'.
28
يوم
وفي عام1926 لحن الشيخ زكريا أحمد المسرحية الغنائية'28 يوم' التي
قدمتها فرقة الفنان علي الكسار,
وتحكي عن عدد الأيام التي كان يجب علي كل فرد من أفراد القوات المسلحة
الاحتياطيين قضاءها لتجديد القدرات التدريبية العسكرية, وتتضمن العديد من
الأغنيات عن الجيش المصري لعل أشهرها أغنية' البروجي راح يزمر', التي قام
بغنائها حامد مرسي, وتقول في أحد أبياتها:' الجيوش العظام ركها ع النظام/
الجنود مفروض عليهم واجبات لابد منها/ والبلاد قدام عنيهم مستحيل واحد
يهينها/ في شرفهم في عهودهم همه أرباب الدراية/ ده وطنهم في وجودهم يستحيل
تنزل له رايه'.
الأميرة الهندية
سلطانة الطرب منيرة المهدية لم تكن هي الأخري بعيدة في مسرحها الغنائي
عن ساحة النضال ففي عام1927 قدمت مسرحيتها الغنائية' الأميرة الهندية'
تأليف حامد السيد وزكي إبراهيم وألحان زكريا أحمد الذي قدم في هذه المسرحية
حوالي11 لحنا منهم3 ألحان وطنية عن الجيش أهمها' مين يا عساكر جاي وفاكر/
يقدر يرتاح في لحظة تكليفه/ قاعد نايم صاحي نايم/ إيده تملي في قبضة سيفه/
جايز تطلع شمس عليه/ إن كان في الدنيا متاع/ وجايز ما يشوفهاش بعينه/
والليلة تكون هي وداع'.
وفي أغنية' الممالك يا أميرة يسمعوا بجيشك يخافوا' تقول الكلمات:' زي
جيشك ما تخلقش في الوجود/ يا مصر يا وش السعود/ برد ولا بحر مرفوع لك جنود/
الغزالة حضرتك وإحنا الأسود'.
البرنس الصغير
في نفس العام يعود زكريا أحمد مع فرقة علي الكسار ويقدمان مسرحيتهما
الغنائية' البرنس الصغير' التي تضمنت15 لحنا وكان من بينهم ثلاث أغنيات عن
الجيش أهمها لحن' الجيوش حالها كده' والذي قام بغنائه مطرب الفرقة حامد
مرسي, ويقول مطلعها' ساعة غلب وساعة راحة والجيوش حالها كده/ الأومرا جايه
راحه وإحنا اهه تحت الندا/ مستعدين للدفاع في الطوابي والقلاع إن ضرب صوت
النفير'.
أنشودة الجيش
ولم تكن السينما المصرية بعيدة عن المسرح الغنائي فقد اهتمت من
بدايتها بالجيش وتقديم أغنيات عنه, من أشهر هذه الأغنيات أغنية' أنشودة
الجيش' التي كتبها علي عزت صقر, وقام بتلحينها وغنائها حسن مختار صقر,
وقدمت في فيلم' الورشة' لعزيزة أمير عام1940, ويقول مطلعها:' الجيش ضمان
للحرية فخر14 مديرية/ الجيش أملنا في جهادنا/ الجيش عماد لاستقلالنا/ الجيش
حياتنا ووجودنا/ دا الجيش ضمان للحرية/ الجيش طول رقبتنا/ زان مصر وزين
سمعتنا'.
ليلي بنت الفقراء
قدم أنور وجدي عام1945 في فيلمه الشهير' ليلي بنت الفقراء' أوبريت
صغير عن الجيش بعنوان' عاش الملك' تأليف الشاعر الكبير أحمد رامي, وتلحين
الصاغ عبدالحميد عبدالرحمن, وفي هذا الأوبريت تحدث رامي عن كل أسلحة الجيش
بداية من المشاة, ثم الفرسان, والطيران, والمدفعية, والبحرية, ويقول عن
سلاح الفرسان' علي ظهور الخيل نجري كالرياح/ إلي سبيل النصر بين الفاتحين/
في كفنا سحر العوالي والرماح/ نهوي كالبرق في ساح المنون', والطريف أن هذا
الأوبريت تم حذفه من الفيلم الشهير بعد قيام ثورة1952 لأن كل كوبليه ينتهي
بقول' فاروق يا فخرالزمن تحيا لنا/ وعاش الملك'.
قلبي وسيفي
لا يمكن أن نتحدث عن أغنيات الجيش ولا نتحدث عن فيلم' قلبي وسيفي'
الذي قدم عام1947 والذي كان يتضمن أكثر من أغنية عن الجيش منها' نشيد
الجيش' كلمات الشاعر أحمد رامي, وتلحين وغناء محمد البكار والتي يمتدح فيها
الجيش المصري قائلا:' يا رجال الجيش يا روح الوطن/ مجدكم تاج علي رأس
الزمن/ رفرفت أعلامكم فوق الحمي/ خافقات بالأماني والمنن/ صفحة التاريخ
زانت ذكركم في الخالدين/ وربوع النيل صانت رسمكم في الفاتحين', ويحث الكبار
في نفس الفيلم الشباب علي الذهاب إلي الجهادية قائلا:' عالجاهدية عالجهادية
رمز الأخلاص والوطنية/ يا اللي بتهربوا من الجندية فين الهمة والرجولية'.
التضحية الكبري
تحيي المطربة شافية أحمد بكلمات الشاعر مصطفي عبدالرحمن وألحان
إبراهيم حسين الجيش في فيلم' التضحية الكبري' عام1947 قائلة:' أيا مصر نحن
جنود الفداء/ إذا ما دعوت نلبي النداء/ ونطوي الصعاب ونحمي العرين/ سلمتم
لمصر أسود العرين', ولنفس الشاعر وفي نفس العام تغني المطربة أحلام في
فيلم' المليونيرة الصغيرة' ومن ألحان رياض السنباطي' نشيد الطيران' التي
تقول في بدايته' للسماء يا نور الشرق هيا للغلب/ للفداء سوف نطوي الجو طيا
يا عرب'.
ولم يقتصر الغناء للجيش علي المطربين العاطفيين فقط فقدم الفنان محمود
شكوكو في فيلم' أمل ضائع' أغنية عن سلاح البحرية قائلا' إحنا البحرية يا
فندية/ أسطولنا راسي علي المينا/ نحمي البلاد المصرية/ ولا فيش خلافنا
يحمينا'.
فتاة من فلسطين
ويأتي عام1948 وتحتل فلسطين ويقدم صناع السينما العديد من الأفلام
التي تتحدث عن هذه النكبة وتحث الجيش علي النضال والمقاومة, لعل أشهرهذه
الأفلام فيلم' فتاة من فلسطين' الذي قدمت فيه سعاد محمد العديد من الأغنيات
الوطنية أبرزها' يا مجاهد في سبيل الله/ جه اليوم اللي بتستناه' من كلمات
بيرم التونسي, وألحان رياض السنباطي.
وفي فيلم' الواجب' يغني عبدالغني السيد من كلمات بديع خيري, وألحان
السنباطي' نشيد الخريجين' الذي يتحدث عن الجيش قائلا:' صاح يا مصر نداء
التضحيات/ فليكن كل لمصر ذاهبا/ ولنبادر للعلا أو للممات/ ليس فينا من يخون
الواجبا, جاهدوا ما استطعتم الجهادا/ أفتدوا بالدما هذي البلاد', ويلحن
ويغني زميله المطرب عبدالعزيز محمود عام1949 في فيلم' أرواح هائمة' أغنية'
الحرب' كلمات صلاح الشاذلي والتي يقول مطلعها' دقت طبول الحرب هيا هيا
للجهاد, نكتب بدم القلب نصر خالد للبلاد'.
الخمسينات وفي صباح23 يوليو1952 يفتح الشعب المصري عينيه علي نور
الحرية, ولأن المطربين جزء من الشعب فتلتهب حناجرهم بأغنيات تشيد بالجيش
المصري الذي قام بالثورة, ويتغير حال كل شيء في مصر, ويقدم الموسيقار محمد
عبدالوهاب أغنية' زود جيش أوطانك' كلمات مأمون الشناوي والتي يقول مطلعها:'
زود جيش أوطانك واتبرع لسلاحه/ علشاني وعشانك بيضحي بأرواحه', ويغني
عبدالحليم حافظ أغنيته الشهيرة' الله يا بلادنا' كلمات أنور عبدالله وألحان
محمد عبدالوهاب أيضا والتي يقول مطلعها:' الله يا بلادنا الله/ علي جيشك
والشعب معاه'.
أم كلثوم ونشيد الجيش
قبل أن تنتهي حقبة الخمسينات وبالتحديد يوم20 أكتوبر عام1959 تحيي أم
كلثوم الجيش المصري تحية خاصة من خلال' نشيد الجيش' الذي لم يسجل علي
اسطوانات حتي الآن ويقول مطلع النشيد الذي كتبه طاهر أبوفاشا, وقام بتلحينه
رياض السنباطي:' مشي المجد في يومه المرتقب/ وأشرق في عيده ما غرب/ فقم حي
جيشك جيش العرب/ حمي الزمام وجيش السلام/ سلام سلام/ بنيناه من مجدنا
الغابر/ وصغناه من دمنا الثائر'.
الجيل الصاعد
ويحيي الموسيقار محمد عبدالوهاب الجيش المصري ثانية عام1961 من خلال
نشيد' الجيل الصاعد' الذي قام بغنائه مجموعة من المطربين, وكتبه الشاعر
الكبير حسين السيد من خلال الكوبليه الخاص بالمطربة ورده الذي تقول فيه'
عاش الجندي يوم ما حطم شوكة الاستعمار/ كان عنوان النصر الثوري/ في كل بلد
أحرار'.
وفي العيد العاشر للثورة يغني عبدالحليم حافظ' مطالب شعب' كلمات أحمد
شفيق كامل وألحان كمال الطويل وفيها يحيي الجيش قائلا:' طريق الثورة طريق
النصر/ عاش الجيش وتعيش يا مصر/ من يوم ما انتصرت ثورتنا/ مع جيشنا وحارس
عروبتنا'.
السبعينات والثمانينات
وبعد انتصارنا في حرب أكتوبر1973 ركزت الأغنية الوطنية علي صانع قرار
العبور الزعيم الراحل محمد أنور السادات مثل' يا سادات يا قائدنا' و' عاش
اللي قال' و'حبيب الشعب' وغيرها, و قلت الأغنيات أو تلاشت التي تتحدث عن
الجيش إلي أن حدث إغتيال السادات.1980
ولكن بعد تولي الرئيس السابق حسني مبارك بدأت أغنيت الجيش تعود
تدريجيا وكانت البداية مع الموسيقار محمد عبدالوهاب الذي قدم عام1987 أغنية
للمطرب توفيق فريد بعنوان' عاش الجيش المصري' كلمات الشاعر عبدالوهاب محمد
والتي يقول في أحد أبياتها' عاش الجيش المصري العربي/ بقوة عظيمة تمام/
قولوا يارب ويخليه لينا/ دعوة خير وسلام/ عشت يا جيشنا يا جيش عروبتنا/
دايما علي مر الزمان', وتوالت أغنيات المطربيين ونظرا لضيق المساحة نكتفي
بذكر المطربين الذين غنوا للجيش المصري مثل هاني شاكر, وعلي الحجار, ومحمد
الحلو, ومحمد ثروت, ومدحت صالح, وإيمان الطوخي, ونادية مصطفي.
الأهرام اليوم في
29/06/2013 |