اكتشفت
صناعة السينما منذ بدايات اختراعها الأهمية القصوى للاستفادة من آلة
التصوير السينمائي في التوثيق لأحداث الزمن المعاصر والتعريف عن طريق الصور
الحية بمختلف أرجاء العالم، ولهذا سرعان ما نشأت وكالات الأنباء المصورة
التي أرسلت مصوريها إلى كل مكان استطاعته سواء من اجل تغطية ما فيه من
أحداث أو حتى لمجرد التعريف بالأماكن والمدن الشهيرة في العالم، وكان من
أول وأبرز وكالات الأنباء المصورة وكالة “غومون” الفرنسية (وهي ما زالت
مستمرة في زمننا الحاضر) والتي رفعت في حينه شعار “نرى ونسمع كل شيء”
(نلاحظ هنا أنه بالرغم من ما في هذا الشعار من غرابة بالنظر إلى أن السينما
في ذلك الوقت كانت صامتة إلا أنه يدل على رؤية تنبؤية بمستقبل تقنيات
السينما)، لكن على الرغم من القيمة الاستثنائية لقدرة السينما على توثيق
الوقائع بمختلف أنواعها وخاصة ما يتعلق منها بالأحداث المصيرية أو المفصلية
في التاريخ المتوازي مع نشوء وتطور وانتشار السينما، فقد اكتسب التوثيق
المرئي عبر الصور المتحركة للأحداث التي تحصل في العالم أهمية استثنائية مع
انتشار البث التلفزيوني الذي نقل التوثيق السينمائي من حالة التعامل مع فعل
مضى إلى حالة التعامل مع فيلم يحدث في اللحظة الراهنة، الآن وهنا، أي انه
نقل تأثير العلاقة مع الوثيقة من ذاكرة التاريخ إلى حالة التفاعل مع
الحاضر.
ابسط مثال
على ذلك ما حصل في المجتمع الأمريكي خلال التغطية التلفزيونية لحرب فيتنام،
فمن المعروف أن النقل التلفزيوني الحي للحرب في فيتنام ساهم إلى حد كبير في
فضح التورط الأمريكي في هذه الحرب وتوعية الشعب الأمريكي إلى أخطارها
وشرورها مما أدى إلى اندلاع موجات الاحتجاج على التورط الأمريكي في فيتنام
من قبل أوساط عديدة من الشعب الأمريكي، كما أن عدوى رفض هذه الحرب
وانعكاساتها المدمرة على مصائر الأمريكيين انتقلت من التلفزيون إلى صناعة
السينما الأمريكية التي أنتجت عددا كبيرا من الأفلام السينمائية المضادة
للتورط الأمريكي في فيتنام.
الآن، ومع
اندلاع العدوان “الاسرائيلي” الهمجي ضد الشعب الفلسطيني في غزة يجد العالم
نفسه أمام وضع مشابه، فلأول مرة في تاريخ الصراع العربي/ الفلسطيني مع
“إسرائيل” الذي تخللته الكثير من المجازر التي ارتكبتها “إسرائيل” بحق
الفلسطينيين المدنيين، يتسبب البث التلفزيوني الفضائي الحي والمباشر
للمجازر البشعة التي تحدثها آلة الدمار العسكرية “الإسرائيلية” للعمران
والسكان الأبرياء في غزة في استنهاض الغضب الجماهيري العارم ليس فقط في
فلسطين والدول العربية، بل في سائر أرجاء العالم وبخاصة في دول أوروبية
كانت شعوبها تتعامل بلا مبالاة، أو بحيادية، مع مثل هذه المجازر
“الإسرائيلية”، ولكنها الآن تخرج للشارع للتعبير عن عواطفها الغاضبة وعن
وعيها الجديد.
ومن
البديهي أن تأثير البث التلفزيوني لما يحدث في غزة من دمار وقتل، يدافع عنه
بكل صفاقة قادة الكيان الصهيوني، لم يقتصر على إثارة مشاعر الغضب بل أثر
بوضوح على الوعي السياسي لأوساط متنوعة من شعوب العالم.
على
المستوى الشخصي، إضافة إلى الانفعالات التي سيطرت على نتيجة مراقبتي لمشاهد
المجازر التي تحدث في غزة، عايشت صباح أحد أيام العدوان حالة خاصة من الرعب
والتوتر والقلق وأنا أراقب إحدى القنوات الفضائية وأستمع إلى الاتصال
الهاتفي الحي المباشر ما بين المذيع في القناة ومراسلها المتواجد على سطح
الزورق الذي كان متوجها من قبرص إلى غزة حاملا معونات إنسانية ومتضامنين مع
أهالي غزة والذي أحدثت في مقدمته البحرية “الإسرائيلية” خراباً جعله معرضا
لخطر الغرق. كنت أستمع إلى المحادثة وقلبي يخفق بشدة خوفا من أن تحصل
الكارثة في أي لحظة، استمع إلى المراسل الذي كان، رغم الخطر، يتحدث برباطة
جأش، يصف أحوال الزورق بحس مهني رفيع وعالي المسؤولية، ومع ذلك لم تهدأ
نفسي ولم يخف توتر أعصابي واضطراب خفقان قلبي الخائف على مصير المراسل.
نتيجة
ذلك، بقيت متسمراً أمام الشاشة، ولم أستطع الابتعاد عنها إلا بعد انقطاع
الاتصال الهاتفي حيث تذكرت أنه يجب علي الاتجاه نحو عملي ولا مفر من ذلك.
في الطريق تفكرت في المشاعر التي انتابتني وأثرت في نفسي بقوة لدرجة القلق
والخوف، حتى على مصيري الشخصي، وتوصلت إلى نتيجة مفادها أن هذا البث
التلفزيوني الحي لحادثة من هذا النوع وفي هذا الزمن بالذات، فاق في تأثيره
تأثير أكثر الأفلام الدرامية المأساوية.
الخليج الإماراتية في
17
يناير 2009 |