انتهت
الدورة الواحدة والثلاثين لـ«المهرجان الدولي للأفلام القصيرة في كليرمون
فيران»، في السابع من شباط الجاري. نظّمت إدارة المهرجان
حفلتين اثنتين، بسبب الحشد
الجماهيري الكبير الراغب في متابعة وقائع توزيع الجوائز، ومشاهدة بعض
الأفلام
الفائزة التي لم يتسنّ لـ«كثيرين» مشاهدته. دامت كل حفلة منهما نحو ساعتين
اثنتين،
لأن عدد الجوائز كبير، والجميع يريد التعليق بكلمة أو بخطاب أو
بمأثرة، بالإضافة
إلى الترجمة الفورية من الإنكليزية (التي تحدّث بها البعض) إلى الفرنسية،
وقراءة
رسائل بعث بها فائزون لم يتمكّنوا من الحضور إلى المدينة الفرنسية البعيدة
عن باريس
نحو أربع ساعات بالقطار العاديّ. جوائز كثيرة، وكلام ما إن
يبدأ حتى يُخيّل للمرء
أن
لا نهاية له. واللازمة التي ردّدها أعضاء لجان التحكيم الأساسية والجانبية
(هناك
جوائز متفرّقة منحتها لجان تحكيم ألّفتها المؤسّسات المعنية بمنح الجوائز
هذه)،
واحدة لم يتغيّر فحواها الرئيس، وإن تشابهت كلماتها كلّها، في أحيان كثيرة:
«كان
الخيار صعباً، لأن أفلاماً كثيرة شاهدناها تستحقّ الفوز، لكن،
ما باليد حيلة، إذ
علينا أن نختار»؛ وذلك قبل أن «تكرّ سبحة» الكلمات المتقاطعة والمتداخلة
غالباً،
والنوعية في أحيان قليلة (البحث المختصر في مشكلات السينما الفرنسية، واقع
الحالة
الإنتاجية الآنية، موقع السينمائيين الشباب، دور المؤسّسات
والشركات المعنية
بالإنتاج السينمائي في الفترتين الحالية والمستقبلية، إلخ.).
مقاطعة
إسرائيل
إذا غاب
الفرد كابوسين عن حفلتي الختام، بعد حضوره اللافت للانتباه والمثير
لحماسة الجمهور في حفلتي الافتتاح في الثلاثين من كانون الثاني
الفائت؛ فإن فلسطين
لم
تغب عن الليلة الأخيرة تلك، وإن خارج «صالة جان كوكتو» في «بيت الثقافة».
فقد
وزّع ناشطون فرنسيون تابعون لحركة «فرنسا/ فلسطين: تضامن» بياناً جديداً
طالبوا فيه
بمقاطعة البضائع الإسرائيلية، ودعوة «تجمّع أبناء كليرمون من
أجل سلام عادل ودائم
بين
الفلسطينيين والإسرائيليين» للمُشاركة في لقاء شعبي يُقام في اليوم نفسه في
«ساحة
جود»، التي تبعد عن «بيت الثقافة» نحو عشر دقائق فقط سيراً على الأقدام،
تحت
شعار «غزّة: أوقفوا المجزرة بحقّ الشعب الفلسطيني». في بيان الدعوة إلى
«مقاطعة
البضائع الإسرائيلية ومنتوجات الشركات الداعمة للسياسة
الاستعمارية لإسرائيل»،
حُدّدت «عناوين» المقاطعة بما يلي: لا أشتري منتوجاً مُشاراً
إليه بـ«صُنع في
إسرائيل»، ومنتوجاً يحمل الرمز التجاري 729، وفواكه وخضاراً موسومة بـ«المصدر:
إسرائيل»، ودواءً مُصنّعاً في مختبرات «تيفا»، ومستحضرات تجميلية تحمل اسم
«لوريال»،
وملابس «دلتا غاليل» و«تيمبرلاند» و«سيليو»؛ لا أذهب إلى «ماكدونالدز»؛
ولا أشرب «كوكا كولا». ومقاطعة البضائع الإسرائيلية هذه من أجل «الحرية
لفلسطين».
أما بيان/ عريضة «غزّة: أوقفوا المجزرة بحقّ الشعب الفلسطيني»، فقال إن ما
حصل
ويحصل في
غزّة، بحقّ مليون ونصف مليون شخص محاصرين ومعرّضين للقصف منذ ثمانية عشر
شهراً، ويواجهون عدواناً ذا «عنف لا سابق له من قبل الجيش الإسرائيلي»،
يُعتبر
بمثابة «جريمة حرب»؛ مضيفاً أن الاتحاد الأوروبي أعطى الضوء
الأخضر لإسرائيل كي
ترتكب جريمتها هذه، وهو عازمٌ، بمبادرة من رئاسته الفرنسية وعلى نقيض
البرلمان
الأوروبي، على «رفع» (مستوى) العلاقات بينه وبين إسرائيل. وطالب البيان/
العريضة،
الذي وقّعه عددٌ من أبناء البلدة والجمعيات المتفرّقة فيها، بـ«وقف
المجزرة؛ والرفع
المباشر والكامل للحصار؛ وتعليق أي اتفاق تعاون بين الاتحاد الأوروبي
وإسرائيل، حتى
تطبيق قرارات «منظّمة الأمم المتحدّة» وخلق دولة فلسطينية قابلة للحياة
ومستقلّة
بالكامل»؛ كما طالب الموقّعون عليه «إنزال عقوبات فورية ضد
إسرائيل، وحماية
الغزّاويين والشعب الفلسطيني كلّه».
لم يكن
سهلاً على المرء «المتورّط» بهموم
الشرق الأوسط، والملتزم قضية الشعب الفلسطيني، كجزء من قضايا الشعوب
العربية
الرازحة تحت سطوة الأنظمة البوليسية أو النفطية أو
المخابراتية، والقابعة في ظلّ
التنامي المخيف للأصوليات الغيبية، على حساب المجتمع المدني والديموقراطية
والانفتاح؛ لم يكن سهلاً على هذا المرء التغاضي عن المنشور والبيان/
العريضة، وإن
كانت زيارته كليرمون فيران منصبّة على مهرجانها الأشهر في
العالم، والمعنيّ بصناعة
الأفلام القصيرة. فالنبرة عالية، والاهتمام ليس عابراً، والنشاط قائم بهدف
التعبير
عن
رأي، أو التحرّك الميداني من أجل مسألة إنسانية. ثم إن الجريمة الإسرائيلية
الجديدة أثارت ألماً وقلقاً في أوساط شعبية فرنسية، والنقمة
الفرنسية الداخلية على
السلطة الحاكمة في البلد حالياً، جزءٌ من برنامج تجمّعات يسارية متفرّقة،
في
مقارعتها السياسات الداخلية لنيكولا ساركوزي؛ وهي النقمة نفسها التي وجدت
في
الجريمة الإسرائيلية في غزّة سبباً إضافياً لإشعال مزيد من
المعارك ضد التجاهل
الأعمى للقيادات السياسية في فرنسا وأوروبا لما يحصل في «الشرق الأوسط
الجديد».
لا يُمكن
إدراك المغزى من اختيار هذه المؤسّسات وحدها لمقاطعة بضائعها. ولا
يُمكن فهم سبب إغفال الجانب الأكاديمي والثقافي/ الفني، مثلاً،
في عملية المقاطعة
نفسها هذه. لكن، لا يُمكن (في المقابل) تجاوز الاختبار الفرنسي الشعبي،
وعدم
الانتباه إلى التحرّك الميداني، الذي وإن لم يبلغ غاياته (التي لا تتناقض
والغايات
الفلسطينية والعربية الشعبية، على الأقلّ، بعيداً عن المهاترات
السياسية والمصالح
القائمة بين دول ومنظّمات وبرامج متفرّقة)، فهو أعلن موقفاً واضحاً، «قد»
يُستخدم
كحجّة لإراحة ضمير غربي معذّب، أو تلبية لنزعة إنسانية صرفة. والغايات، وإن
لم
تتحقّق في غرب مسرف في علاقاته القوية بدولة إسرائيل، إما
تغذية لمصلحته الصرفة،
وإما خضوعاً لضغط يهودي متطرّف، أو تلبية لحاجات وأهواء؛ تبقى عناوين
إنسانية بحتة،
أطلقها يساريون ملتزمون أو متحرّرون من أي تبعية عمياء لحزب أو لدولة أو
لحالة
سياسية/ إيديولوجية؛ أو أعلنها مواطنون يولون الشأن الإنساني
اهتماماً وأولوية في
برامج نشاطاتهم المتنوّعة.
في معقل
السينما
على الرغم
من أن المناسبة
سينمائية، متعلّقة بالأفلام القصيرة، إنتاجاً وتوزيعاً ومشاهدة ونقاشاً
نقدياً
واحتفالاً بفوز وجوائز؛ بدا توزيع البيان/ العريضة والمنشور، وإن بهدوء
تام،
واحترام كامل لمن حصل عليهما أو رفض الحصول عليهما، ومن دون
أدنى ضجيج أو غوغائية،
لحظة إنسانية جميلة أكّدت، للمرّة المليون، «جمالية» الديموقراطية ورحابة
صدرها،
وإن لم تكن، هنا، أكثر من تعبير شعبي صرف. ومع أن الليلة الأخيرة في
كليرمون فيران
مخصّصة بحضور إحدى حفلتي الختام، ولقاء أصدقاء ومعارف للحظات
أخيرة قبل عودة الجميع
إلى بلادهم ومشاغلهم، «نجحت» فلسطين، إلى حدّ ما، وبفضل ناشطين غربيين، في
تأكيد
المقولة الأهم في تاريخها: إنها حاضرة أبداً، كشعب أولاً وأساساً، وكأرض
وتاريخ
وثقافة وحياة أيضاً. وإذا عبّر سينمائيون ومشاهدون عرب وأجانب
عديدون عن استياء ما
من
التحرّك الميداني الشعبي الفرنسي هذا، لأسباب متفرّقة (اعتبار المناسبة
سينمائية
بحتة، رفض التعليق على وضع سياسي، تحميل مسؤولية ما جرى ولا
يزال يجري في غزّة، من
مآسٍ إنسانية للعدوان الإسرائيلي وسطوة «حماس» وتصرّفاتها في آن واحد،
إلخ)، إلاّ
أن
سينمائيين ومشاهدين عرباً وأجانب آخرين وجدوا في التحرّك مبادرة إنسانية
مهمّة،
وفي اغتنام فرصة إقامة المهرجان دليلَ وعي ثقافي وجماهيري، وفي
تخصيص لحظة بالتعبير
عن
موقف إنساني في مناخ سينمائي حالة طبيعية ومهمّة.
أما
السينما، فحاضرة
بقوّة: عروض، سوق سينمائية متكاملة، مناقشات حيوية، لقاءات تعارف وتواصل،
عمليات
شراء ومبيع بين منتجين وسينمائيين ومؤسّسات إنتاجية ومحطّات
تلفزيونية وإدارات
مهرجانات مختلفة. أما المواضيع الدرامية والأشكال البصرية وأساليب
المعالجة،
فمتنوّعة وكثيرة: حب، جسد، علاقات، حالات نفسية، واقع اجتماعي، مواقف
إنسانية،
حروب، سلطات، إلخ. وهذه كلّها مشغولة بأساليب دراماتيكية أو
كوميدية، وفي أشكال
سينمائية روائية أو وثائقية/روائية أو تحريك. أما النتائج، فمثيرة لبعض
الجدل،
كعادة النتائج الصادرة عن لجان التحكيم كلّها في كافة المهرجانات
السينمائية في
العالم، لأنها لا تلبي رغبات الجميع، ولا تُشفي غليل الجماعة
والأفراد. ذلك أن
فيلماً أوسترالياً بعنوان «الأرض تحت أقدامنا» لريني هرنانديز، مثلاً
(جائزة
«الوسائط
الإعلامية»، بالإضافة إلى تنويه خاص من لجنة التحكيم الشبابية، وتنويه خاص
ثان من لجنة تحكيم الصحافة)، لم ينل أي جائزة أساسية في
«المسابقة الدولية»، على
الرغم من جمالياته المتنوعة، وقدرته البصرية والفنية على تقديم صورة مختصرة
عن قسوة
الحياة وعنف العيش اليومي عند فئة المراهقين. لا يعني هذا، أن
بعض الأفلام الفائزة
لا
يستحق الفوز: فـ«الحكم» للإيطالي باولو زوكا (الجائزة الخاصّة بلجنة تحكيم
المسابقة الدولية) متماسك في سرده حكاية حكم المباراة في قرية إيطالية،
ونابضٌ
بحيوية اجتماعية وإنسانية، ومشغول بجمالية فنية مهمّة. أما
الفيليبّيني «آندونغ»
لرومل
ميلو تولنتينو (المسرف في كوميديته الحاضنة، في أعماقها، شيئاً من قسوة
الفقر
والبيئة المجتمعية والمأزق الإنساني)، فمشغولٌ بلغة سينمائية بسيطة، عن
شقيقين
صغيرين يبحثان عن طريقة لإقناع والدتهما بشراء جهاز تلفزيون.
وهو، إذ برع في تقديم
نصّه وإدارة ممثليه
(خصوصاً أحد الشقيقين)، نال جائزتي الجمهور والصحافة، مع أنه،
في مناح عدّة، تفوّق (إلى حدّ ما) على الفيلم الماليزي «كل
يوم، كل يوم» لشيو ميو
تان، الفائز بالجائزة الكبرى. من ناحية أفلام التحريك، نال «عتمة الغابات»
للأرجنتينيين خافيير لورنسو ومارتن خالفن جائزة المحطّة التلفزيونية
الفرنسية
«كانال
بلوس»، و«وفاء البحّار» (إنتاج نمساوي/ ألماني مشترك) لآنا كالوس جائزة
أفضل
فيلم تحريك: ارتكز الأول على ثنائية الدمى والتحريك، في سرد
حكاية المرأة العمياء،
المقيمة في داخل الغابة، والعاشقة حطّاباً يستغلّ ولعها بالجنس لسرقتها.
ويغرق
الثاني، المرسوم كلوحات تشكيلية غريبة الألوان والأشكال، في العشق السامي،
الذي
يجمع بحّاراً بامرأة معزولة على شاطئ البحر، قبل أن يبتلعها
الموت، فيذوب العاشق في
قهره وخيبته.
كلاكيت
تشي
نديم جرجورة
لم يكن
سهلاً على
مُشاهِد «تشي» للمخرج الأميركي ستيفن سودربيرغ، أن يفصل بين الواقع
والمتخيّل
السينمائي، إذ بدا واضحاً أن الارتباط بين المشهد السينمائي وحقائق المرحلة
الأهمّ
في التاريخ الحديث لدول أميركا اللاتينية وثيقٌ جداً. فالصورة
الإبداعية تخطّت
الحدّ الفاصل بين الشاشة الكبيرة والمساحة الأكبر للحياة، كي تصوغ من أدوات
الفن
حياة مستقلّة،
وكي تجعل
الوقائع نصّاً بصرياً يمزج التاريخ بالسرد الحكائي، ويذهب
بالشعر إلى تخوم الوجع والثبات والتمرّغ في أوحال الدنيا، لتنظيف الدنيا من
أدرانها. والتاريخ حاضرٌ، وإن لم يتجرّأ، أمام اللغة الفنية الجميلة، على
تحدّي
السينما، وهي تعيد رسم المعالم المتفرّقة لسيرة رجل نَبَذ
إغراءات السلطة، لأنه وجد
في
العمل الميداني مع رفاق السلاح طريقاً أفضل وأجمل وأهمّ إلى الحرية.
لم يكن
سهلاً على
مُشاهد الفيلم نفسه أن يفصل، أيضاً، بين الرجل الثوري (إرنستو تشي
غيفارا) والممثل (بينيتشيو دل تورو). فقدرة الثاني على احتراف التمثيل، إلى
لحظة
تغييب الذات في الشخصية الحقيقية، من دون تناسي أهمية الذات في
إدارة اللعبة وإظهار
حيويتها ومهنيتها؛ جعلت الأول، بالثقل التاريخي/ الإنساني الذي صنعه لسنين
طويلة،
نابضاً بالحياة أمام الكاميرا وبها. ولئن يستحيل التغاضي عن الدور الأساس
للمخرج في
صناعة اللحظة الجامعة بين ثقل الشخصية الحقيقية وحرفية الممثل،
فإن «تشي» قدّم
نموذجاً إضافياً عن معنى أن يكون «التشابه» بين الطرفين مجرّد شكل خارجي،
لا يقف
حائلاً دون إبراز تقنيات التمثيل في بثّ الحياة في جسد ميت، وإن حافظ الجسد
المذكور
على روح طيّبة ومثابرة في احتلال مكانتها الطبيعية في الذاكرة
الجماعية والوجدان
الفردي.
إذا مال
الجزء الأول (الأرجنتيني) من «تشي» إلى النوع السينمائي
المركّب والمعقّد، إلى حدّ ما، في بناء فضائه الدرامي، بالإمعان في التنقّل
بين
الأزمنة، من واقع الثورة في كوبا إلى السياسة والتواصل مع
الأميركيين والأمم
المتحدّة، بلغة سينمائية صرفة، تستعين بالأسود والأبيض كي تروي فصول
المغامرة
الغيفارية في الولايات المتحدّة الأميركية، وتجعل الألوان باهرة أثناء
مقارعة
الثوّار للوحش الرأسمالي في الجزيرة (باتيستا)؛ فإن الجزء
الثاني (حرب الغوار)،
الذي تابع مسيرة الثائر الأممي في صراعه الثوري ضد النظام
الديكتاتوري في بوليفيا،
بدا أكثر إنسانية ورهافة وحساسية، لأن مَشَاهد كثيرة تحوّلت، سريعاً، إلى
نصّ شعري
صامت، عن الأرض والعلاقات والتواصل والحروب الطالعة من وجع الناس ومخاوفهم
إلى قسوة
الخيانة والألم. وإذا شكّل «الأرجنتيني» مفتاحاً لفهم النسيج
الثقافي والاجتماعي
للثورة الكوبية، محافظاً على مصداقيته الصادمة في التعاطي مع الثوّار
والمسارب
المتشعّبة للحكاية كلّها؛ فإن «حرب الغوار» منحت الأدغال البوليفية
(بمعانيها
المختلفة) بهاءً ونضارة، لأنها بلورت موقفاً إنسانياً إزاء
الثوّار جميعهم، مقدّمة
إياهم بشراً مترفّعين عن قذارة الاعتداء على كرامات الناس، لأن الثورة
«نظيفة»،
ويجب أن تنتصر بنظافتها.
السفير اللبنانية
12/02/2009 |