عندما
يصير الإنسان وحيدا ولا يجد
من
يؤنس وحدته أو يؤازره يشرع في الكتابة الى شخص معلوم أو مجهول يتصور أن
بيده
مفاتيح الابواب الموصودة أمامه وقد يكون المرسل إليه وزيرا أو أميرا أو
رئيس
جمهورية فالغاية هنا هي البحث عن منقذ، ولا يختلف الأمر كثيرا
إذا كان الباحث عن
العدل والحرية والمساواة طبيبا أو مهندسا أو عالما عبقريا، النتائج في
النهاية
واحدة، إحساس مقيت بالعجز يتحول إلى مرض يسمى بلغة العصر الحديث 'شيزوفرينيا'
أو
فصام في الشخصية لأن المريض يخلق لنفسه عالماً خاصاً به عندما
يفقد القدرة على
التكيف الطبيعي مع الواقع وينتابه إحساس بأنه أصبح عبئا على البشرية كلها
فيبادر
دائما بالاعتذار إذا ما صادفه موقف محرج أو تعرض لأزمة حتى وإن كان هو صاحب
الحق!
هذه
بالضبط حالة البطل 'حسن صلاح الدين' أو 'أحمد حلمي' في فيلم 'آسف على
الأزعاج' فهو شاب خجول منطو يعمل مهندساً بإحدى شركات الطيران
الكبرى، يعمل على
مشروع هندسي فريد يرغب في تنفيذه وإزاء ذلك يرسل برقيات إلى رئيس الجمهورية
راجيا
الدعم والمساندة وبرغم توالي الرسائل والمكاتبات لا يتلقى ردا على الإطلاق
فتتحول
الصيغة من طلب الدعم إلى شكوى دائمة من الإضطهاد والسخرية وعدم
الحصول على الحقوق
الطبيعية والمشروعة، مع تأكيد البطل المستمر على حسن سيره وسلوكه وأهدافه
النبيلة
من
وراء الاختراع الذي يحلم بتنفيذه، وبين الشكوى والرجاء ينتقل بنا البطل الى
مستوى آخر من علاقاته المضطربة داخل المنزل فهو شديد الارتباط
بوالدته 'دلال
عبدالعزيز' وصديق لوالدة 'محمود حميدة' الذي يتفكه معه ويشاطره أحلامه
ومغامراته
الرومانسية، على العكس من الأم التي تخشى عليه من مغامرات غير محسوبة
لعلمها بأنه
طيب وخجول ورومانسي وقليل الحيلة، ومن الخوف والتحذير الى
الانبساط والتدليل يتأرجح
الشاب بين فقدان التوازن والحديث مع نفسه ومع الآخرين عن أشياء وهمية لا
وجـــود
لها، يتخيلها ويعيش فيها ويصدقها في كثير من الأحيان، فهو يصنع نموذجا
لفتاة 'منة
شلبي' بمواصفات خاصة جدا ويقيم معها علاقة عاطفية لتعويض الشيء
الذي يفتقده، ربما
في
أمه أو في نفسه أو في كل المحيطين به 'الحنان' وذلك الاهتمام الباحث عنه في
عيون
أصدقاء المقهى المحدودين وزملاء العمل دون جدوى، فلا أحد يعترف بعبقريته
التكنولوجية في مجال تخصصه، حتى حبيبته الوهمية تنصرف دائما
الى اهتمام مختلفة لا
تناسبه وإن مثلت له قيمة كبرى كأنثى يراها جميلة ومُرضية لرغباته وتمتلك سر
سعادته،
البطل يشرد كثيرا فيما يطمح إليه ولا يصغي لنصائح والدته ويهرب عادة لأبيه
كلما
واجهته أزمة أو رغب في البوح، يهوى ركوب الموتوسيكل لأنه أقرب
الوسائل للطيران،
باعتباره يعاني أيضا من المفارقة بين طبيعة عمله كمهندس متخصص في ميكانيكا
الطائرات
وثباته الدائم على أرض الواقع غير قادر على تجاوز كل ما أحيط به من عوائق
ومشكلات،
وهذه هي العقدة الرئيسية في حياته، كما هي ذاتها العقدة التي
بني عليها السيناريست
أيمن بهجت قمر فكرته الدرامية النفسية المركبة وحاول أن يجسدها المخرج خالد
مرعي
مدخرا لنا بعض المفاجآت ليصبح للسرد الطويل معنى ومغزى وهدف ولعله الشيء
الذي أفلح
فيه بالفعل هو والكاتب الذكي، حيث عملية النشاط الذهني التي
وضع فيها وتحت تأثيرها
المتلقي تستوجب لا شك أن تكون هناك تفاصيل غير عادية في مسيرة البطل 'حسن
صلاح
الدين' المغترب في العالم المادي، النازع الى النجاح والشهرة بحكم ما يتمتع
به من
ملكات وقدرات تفوق قدرات الشخص العادي، فيما يشده الواقع الى
أسفل فيصدم ويختار
الفصام حلا سلبيا لمحنته ويظل سابحا في آخيلة وعوالم نعرف بعد ذلك أنها
شملت والدة
ووالدته وحبيبته، فهؤلاء جميعا كانوا من صنعه هو فالأب متوف ولا وجود له
إلا في
ذاكرته التي تأبى الاعتراف بغيابه، كذلك الأم هي موجودة وغير
موجودة نراها في كل
الأحداث ولا نراها في الصورة التي التقطت لأسرة البطل الصغير - الابن
والزوجة، مما
يعني أنها كانت ايضا ذكرى حية في عقله ووجدانه يستدعيها كلما احتاج اليها،
كما أن
شخصية منة شلبي 'الحبيبة' تحولت الى واقع في حياة حسن صلاح
الدين بشكل مختلف بعد
استقرار حالته النفسـية ومثوله للشفاء، الأمر الذي يؤكد وجود حقـــــائق في
أوهامه
وخيالاته، أي أنه لم يكن منفصلا تمام الانفصال عن حياته الواقعية، ومهما ما
كانت
الملابسات والمسافات بين حياة الإنسان الفعلية وشطحاته
الخيالية أو أمراضه فإن هناك
ظلاً لحقيقة ما تعيش معه ولا تفارقه، وربما يكون هذا التفسير أو تلك
القراءة
للأحداث هي ما حاول المؤلف والمخرج أن يقتربا منها تحت مظلة علم النفس التي
رمز
إليها الدكتور المعالج 'سامي مغاوري' وإن كان الفيلم قد أضاف
أبعادا فلســـفية ليضع
النظريات العلمية نفسها تحت الضــــوء في محاولة لربطها بالأمراض
النفســــية التي
تصيب في أغلب الأحيان الاسوياء من الناس باضطرابات من فرط اختلافهم وتميزهم
عن
السواد الأعظم من البشر العاديين.
نخرج من
التحليل الدرامي - السيكولوجي إلى
الأداء التمثيلي لنقر بتفرد دور أحمد حلمي ودقة أدائه مع التسليم بالصعوبة
المتناهية في الانتقال من حالة إلى حالة لإعطاء إحساس صادق
وحقيقي بالمعنى وطبيعة
الشخصية، ايضا اداء محمود حميدة كان موزونا بالشعـــرة كأن الممثل القدير
يقف على
السراط كي يحافظ على الشخصــــية وعدم اختلالها، ولا تقل دلال عبدالعزيز
أهمية فقد
لعبت دورا جديدا ومختلفا، فلم تكن أماً بالمعنى الكلاسيكي
ولكنها اجتهدت في
حــــدود ما هو مكتوب لتخرج الشخصية منها بشكل تلقائي وطبيعي وغير مفتعل،
ولا يمكن
بالطبع إغفــال منة شلبي في سيمفونية التمـــيز الأدائي، حيث كانت مقنعة
الى حد
كبير في تجسيدها لشخصيتين مختلفتين في دور واحد، شخصية نسجها
أحمد حلمي من خياله
وشخصية قدمتها بشكلها الواقعي، يحسب للمخرج خالد مرعي قدرته وحرفيته، في
تحريك
الشخصيات الرئيسية والثانوية بمهارة دون أن تسرق واحدة الأضواء من الأخرى
وهو فضل
ينسب لصاحبه الاصلي أيمن بهجت قمر الصانع الحقيقي لها والقابض
على خيوطها - كقبض
السينما الإنسانية على الجمر في سوق مليء بأفلام تستحق الحرق.
القدس العربي
12/02/2009 |