أنتج في
السنوات الأخيرة العديد من المشاريع السينمائية
العالمية، التي ساهمت بطريقة أو بأخرى في تكريس معادلة الصراع الثقافي بين
العالمين، الغربي والإسلامي، إذ ركزت بالخصوص على الجوانب السلبية للثقافة
الإسلامية، أو بعبارة أخرى حرفت هذه الثقافة وأفرغتها من حمولتها الثقافية
الايجابية، لتمنحها مفهوما آخر سلبيا قائما على الإهانة والازدراء. وقد
تتبعنا
كمشاهدين العديد من الأعمال السينمائية بأنواعها المختلفة، والتي نقلت هذه
النظرة
السطحية للآخر، وربطتها مباشرة بأحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، رغم
اجتهاد
بعض المخرجين في إخفائها، والعمل على تمريرها من تحت الطاولة. هذا وقد آثر
العالم
الآخر الانزواء وعدم الدخول في هذه المعركة السينمائية، مما شجع الآخرين
على
التمادي والتفنن في تصوير العربي المسلم كمتخلف إرهابي لا يصلح لشيء، سوى
للدمار،
والتخريب، والتعدي على المجتمعات المسالمة البريئة، إذ لا يفتتح موسم
سينمائي إلا
على مثل هذه المشاريع الاستهلاكية المحرضة على الحقد والكراهية. لكن في
المقابل
هناك بعض الأعمال النادرة التي تناقض هذا الطرح وتدفع بموضوعات حيادية أو
بأخرى
تفند الوجه السلبي للعملة الأمريكية.
الاستثناء
في فيلم 'الزائر':
(The Visitor)
فيلم
(الزائر) اقتحم هذه اللائحة، برؤية مخالفة لما ذكرناه آنفا،
إذ احتضن العربي كحالة إنسانية تستحق الاهتمام، وأحاط بثقافته، وظروف عيشه،
وصب في
قالب نقدي للسياسة الأمريكية اتجاهه، ووفق بالتالي في تمرير رسالة شديدة
اللهجة ضد
قانون غير إنساني. الفيلم رغم بساطته، وهذا راجع بالأساس إلى ضعف ميزانيته،
صمد في
المراتب العشر الأولى، من حيث المتابعة، رغم أن اللائحة تضمنت مشاريع
سينمائية
ضخمة.
لا يتطلب
الفيلم مجهودا استثنائيا لاستنباط رؤيته النقدية، فخطابه واضح
ومكتمل
المعالم، اعتمد على السلاسة في السرد، وكسر جمود اللقطات بالحوار البعيد عن
الركاكة، ووفق في طرح العديد من القراءات والتأويلات بعيدا عن المشاهد
المثيرة
المجانية، فرغم جنسيته الأمريكية، وقف في صف ضحايا بلاده، من الأبرياء، ذوي
الجنسيات المغضوب عليهم من طرف إدارته، و المتمثلة خصوصا في شخص طارق،
الشاب السوري
الجنسية،
الذي عانى الكثير، في أرض تدعي الديمقراطية والحرية. ولم يكن اختيار
نيويورك صدفة، إذ مثلت بضخامتها الوجه الآخر لأمريكا، الحبلى بالجنسيات
المتعددة،
والحاضنة لأعراق مختلفة، والأكثر من هذا، هي رمز للحرية، وتمثال واجهتها
يشهد على
ذلك.
تسلسل
الأحداث من خلال الشخصيات:
لعب
الممثل الأمريكي ريتشارد
جاكينز، الفائز بجائزة أفضل ممثل في مهرجان موسكو، دورا معقدا في الشريط،
تفنن في
صياغته وإبرازه باحترافية عالية، كما ساعد على توازن الأدوار، إذ لم يكتسح
باقي
الشخصيات الأخرى، بل وجدناه يتقمص شخصية الأستاذ الأكاديمي تارة، وتارة
أخرى ينتقل
بنجاح إلى
شخصية التلميذ الموسيقي الفاشل، لينقلنا معه إلى شخصية مغايرة تماما،
شخصية ثائرة على قوانين بلادها الظالمة، ليفتح لنا في الأخير جانبا من
شخصيته
العاطفية، المحبة للسلام والمرأة.
اختزلت
أحداث الفيلم في أربعة شخصيات فقط، لكل
منها دور رئيسي فعال، والتر دكتور في الاقتصاد، وأستاذ أكاديمي، يعاني من
الوحدة
والكآبة بعد وفاة زوجته، حاول تخطي عزلته وروتين عمله بتعلم البيانو، لكنه
فشل فشلا
ذريعا، وفي هذا إشارة مبطنة إلى الفشل في الاندماج داخل محيطه الغربي، الذي
تمثله
هذه الآلة الموسيقية، بينما نراه في الجزء الآخر من الفيلم، ينجح في تخطي
هذا
الفشل، بتعلمه للطبلة الإفريقية، التي تحمل هنا زخما من الرموز والمعاني
العميقة،
إذ ترمز
للآخر، الغريب، كما ترمز للتضامن والتلاحم وعدم الشعور بالوحدة، فيكفي أن
تحمل آلتك هذه، لتشارك الآخرين أنغامهم، ببساطة متناهية كما تابعنا.
طارق رمز
للآخر، العربي المسالم، يقيم في أمريكا بصفة غير قانونية، وجد نفسه فجأة،
بين
براثين
قانون غير عادل، خضع للعديد من الإجراءات التعسفية، قبل ترحيله إلى بلده
الأصلي سورية. وهذه الشخصية، هي المحور الرئيسي الذي تدور في فلكه كل
الأحداث
المتراكمة، والمركز الذي تلتقي فيه كل الخيوط المتشابكة، بل يمكن اعتبارها
الحدث
بعينه. ارتباطه بزينب المرأة الإفريقية السنغالية، أعطى الفيلم، بعدا
جديدا، بعيدا
عن النمطية السلبية التي اتبعتها أفلام أخرى، والتي صورت الإنسان العربي
على أنه
عنصري، راديكالي في سلوكه، منطو على نفسه، غير قادر على التأقلم مع
المجتمعات
الأخرى.. فزينب في شريط (الزائر)، شخصية متداخلة ومكملة في نفس الوقت
لشخصية
طارق.
أم طارق
الإنسانة العربية العاطفية، رمز الأمومة الصادقة والشخصية القوية،
برزت بقوة
في حالة الاعتقال التي تعرض لها ابنها. أغرم بها والتر، وأغرمت به،
لتتلاحم بعد ذلك ثقافتان مختلفتان، إلا أن عاطفة الأمومة تغلبت في الأخير
على حبها،
لترحل وراء ابنها.
استحضر
الفيلم كذلك، سر هجرة طارق وأمه إلى الولايات المتحدة
الأمريكية، بكشفه عن خلفية غير مضاءة من الأحداث، وإبراز الزاوية المعكوسة،
وذلك
بالرجوع إلى الخلف عبر الحكي، في مشهد ساوى بين النظام العربي المتسلط،
ممثلا في
سورية - التي اعتقلت والد طارق، لسنوات عدة، إثر نشره لمقال سياسي- وبين
السياسة
الأمريكية ضد العرب .
إقحام
الشخصية اليهودية في الفيلم، منحه فضاء آخر، عزز
نظرة مخرج الفيلم توماس ماكارثي للسلم العالمي، فاليهودي المسالم، قادر
بالتأكيد
على التعايش مع المسلم المسالم، وهذا ما رمى إليه المشهد الذي تقاسم فيه
اليهودي
نفس المكان في السوق مع زينب المسلمة بعيدا عن هموم السياسة، والحروب
الكارثية.
رفض
المهاجرين
من خلال
المشاهد المتسلسلة في الفيلم،
نستنتج عدة قراءات تصب في إناء واحد، يظهر لنا العربي كشخص يعيش بين فكي
كماشة
ظالمة. كما أن (الزائر) لم يعبر بالضرورة عن حدث استثنائي مثير، أريد به
جذب
الجمهور،
أو تحقيق مكاسب مادية عالية، بل هو تصور دفعنا إلى الإيمان بالخطاب
الاستثنائي والإنساني للمخرج، ووعيه الكامل والعميق بالممارسات المشينة
التي
تنتهجها بلاده تجاه المهاجرين العرب، والفيلم دعوة صريحة لرفض وكبح هذه
الممارسات.
'
كاتب
مغربي مقيم بهولندا
s_zouirik@hotmail.com
القدس العربي
13/02/2009 |