عرفت الأفلام العالمية وتبعتها المصرية ظاهرة سينما المؤلف. وإن كان من الشائع والمعتاد أن المخرج هو غالبا سيد العمل إلا أن الاستويوهات الأمريكية عرفت نظاما لا يسمح للمخرج بالتدخل في عملية المونتاج الذي يتم تحت إشراف المنتج. من المعروف أيضا أن لمعظم النجوم شروطهم وتدخلاتهم في مختلف مراحل العمل الفني بدءا من كتابة السيناريو وحتي مراحل الدعاية بل والتغطية الإعلامية المصاحبة للفيلم. ويختلف هذا الأمر من نجم لآخر تبعا لدرجة نجوميته وطبقا لأسلوبه في العمل ولدرجة فهمه لمختلف فروع الفيلم السينمائي.يتصور البعض أن المنتج ما هو إلا ممول أو حقيبة نقود لا يتجاوز دوره حدود التعاقد مع فناني الفيلم ثم يتركهم يبدعون حتي يتسلم الشريط النهائي للفيلم ويبدأ في تسويقه وعرضه وجمع إيراداته. ولكن حقيقة الأمر غير ذلك علي الإطلاق. وقد صرح لي المنتج الكبير عادل حسني منذ زمن عندما اختلفت معه في الرأي أنه يصنع أفلامه ليعبر عن فكره هو. كان هذا التصريح هو ذريعتي للانسحاب من كتابة فيلم له وهو ما أعتبره حاليا ضمن قرارات حمقاء كثيرة اتخذتها في بداياتي. المنتج المؤلفهذه هي الأفكار التي تداعت إلي ذهني طوال مشاهدتي لفيلم مقلب حرامية لمؤلفه ومنتجه وائل عبد الله. فهناك صبغة مشتركة في الشكل والموضوع تربط بين هذا الفيلم و مجموعة الأفلام الأخيرة التي أنتجها مهما اختلف الأبطال أوالمخرجون سواء شارك وائل في تأليفها أو لا ومنها ملاكي إسكندريه الرهينه الشبح الدادة دودي. تشترك كل هذه الأفلام في أنها تتميز بالجو الغربي وتعتمد دائما علي حبكة بوليسية ولا تهتم كثيرا بمنطقية التفاصيل أو إضفاء لمحة مصرية عليها بل علي العكس إنها تتلمس كل مفردات الحياة الغربية في الشكل والديكورات والملابس وربما يبدو الاجتهاد في التمصير فقط في الحوار الذي يسعي للاستفادة من مفردات لغة الشباب اليوم. إضافة إلي كل هذا فهي تتشكل من تفاصيل من أفلام أجنبيه كثيرة بعينها منقولة بالشوت لذا يصعب أن تنسب اقتباسها إلي عمل واحد. والشيء الإيجابي في المسألة دائما هو الحرص علي تقديم صورة جمالية رائعة و لغة سينمائية متطورة جدا. إبهار الصورة في مقلب حرامية يبدو الاهتمام بالشكل واضحا فيلجأ الفيلم إلي توظيف تقنيات حديثة جدا في التصوير للعائد بقوة بعد غيبة هشام سري وأيضا في الربط والانتقالات للمونتيرة سولافه نور الدين وفي مؤثرات بصرية من أبرزها تقسيم الكادر إلي عدة لقطات وتحريك هذه اللقطات بإبداع رائع وبأحدث التقنيات وبطريقة تتناسب مع طبيعة المشهد وبترابط إيقاعي مذهل. هذا علاوة علي التضافر و الحس الجمالي بين الملابس للإستايلست شيريهان والديكورات لمحمد مراد لهذا فإن بصمة المنتج المؤلف علي العمل لا تنفي الجهد الرائع للمخرج سميح النقاش الذي أمكنه توجيه فريق عمله للوصول بالفيلم إلي هذا المستوي .الحركة والابهارينتمي فيلم مقلب حرامية لسينما الحركة والإبهار والفرجة والتسلية لهذا فإن تفاصيل الموضوع تبدو صعبة ومعقدة جدا كما هو الحال مع مثيلاتها في السينما الأمريكية وهذا علي العكس تماما مما تعلمه جيلي الذي تربي علي أن أفلام الجريمة يجب أن تكون مقدماتها وحبكتها واضحة مهما تضمنت من غموض ومفاجآت في الأحداث . يشكل مقلب حراميه حالة استثنائية في أعمال وائل عبد الله في جانب واحد فقط وهو أن مصدر حبكته يبدو واضحا جدا وهو الفيلم الأمريكي 11 وان كان اعتماده في الأحداث والتفاصيل الدرامية والبصرية علي مصادر يصعب حصرها..ولكن نقطة الانطلاق الدرامية في مقلب حرامية في الحقيقة مبهرة وجذابة وجديدة فالحكاية أن اللصوص لن يسرقوا النقود ولكنهم سيسرقون ورق البنكنوت قبل طبعه ويقومون هم بطباعته بأنفسهم ويتركون للدولة أن تقوم هي بطباعة البنكنوت المزور. فكرة رائعة وخلاقة وساخرة في دولة لم يعد ينقصها سوي أن يتبادل رجالها العملة مع اللصوص. حرية الرقابة والأغرب من هذا و الجديد علي الفيلم المصري أن العملية تنجح ويسافر اللصوص إلي خارج البلاد وينعمون بأموال حكومتنا الرشيدة دون أن يمسهم أي شر أو يتعرض لهم مخلوق. وهكذا ينتصر اللصوص وتنجح مهمتهم تماما علي نمط الأفلام الأمريكية بل وفي تجاوز لها حيث إنهم لا يتركون حتي أي خيط ولا يلوح في النهاية أي أمل ينبئ باحتمال القبض عليهم، وفي معارضة تامة للمبدأ الرقابي و الاخلاقي الشهير بأن الجريمة لا تفيد. فهل اتسع الهامش الرقابي وتحلي المسئولون بمرونة تتجاوز الخيال، أم ان الرقابة أدركت واقع مصر اليوم والتي أصبح الرأي العام لا يمثل فيها أي قيمة بعد أن انفضحت أكبر جريمة عرفتها مصر ببيع برميل البترول لإسرائيل بسعر يقارب اللتر الواحد دون أن يحاكم أحد ودون أي إمكانية في إيقاف هذا السيل المهدر من خير بلدنا وكرامتنا؟. أعتقد ان الرقابة علي السينما تعيش أزهي عصورها وتمارس عملها بمنتهي الاسترخاء ودون أي خوف أو قلق من أي جهاز أو مؤسسة في ظل غياب كامل لأي خطر من هذا الشعب الذي أصبح مستأنسا تماما بعد أن اختلت موازينه وانقلبت معتقداته وقيمه وتقاليده وأصبحت السرقة شيء عادي جدا بالنسبة لقطاعات عريضة منه لا تستلزم عقابا ولا حتي مجرد تأنيبا للضمير !! بطل الفيلم لواء سابق أحيل للمعاش المبكر كعقوبة علي خطأ ارتكبه فقرر الانتقام من النظام بالسخرية منه بسرقة بنكنوته الأصلي وهي فكرة طريفة فعلا ولكنها بعيدة عن المنطق خاصة وأننا لا نعرف من حياة هذا اللواء ومن شخصيته سوي ومضات. ولكن الشيء الأصعب في التصديق هو أن صلاح عبد الله هو الذي يقوم بهذا الدور والغريب أنه يقوم بدور لواء أيضا في فيلم الدادة دودي الذي مازال يعرض حاليا لنفس الشركة المنتجة.. فإذا كان صلاح عبد الله أصبح علي درجة لواء متقاعد في شركة أوسكار فتري من يقوم بدور الصول و المخبر والبواب..أخشي أن تمنح هذه الأدوار لعزت أبو عوف وحسن كامي و خالد زكي ؟..علي النقيض من صلاح عبد الله يأتي اختيار ماجد الكدواني موفقا جدا في دور اللص الساذج البريء طيب القلب..وقد تعايش ماجد مع الشخصية وأداها بإبداع رائع كما كشف تجاوب الجمهور بالضحك المستمر مع حركاته وإيماءاته وتلميحاته عن كاريزما رائعة لهذا الممثل الذي وصل إلي حالة من الهدوء والثقة في الأداء واجتاز أزمة النجومية والبطولة ليعود ممثلا أجمل من أي نجم بعيدا عن أي حسابات وتعقيدات خاصة ببورصة النجوم وأسهمهم القاتلة. حلم النجمأما الممثل محمود عبد المغني فهو الذي يراهن عليه الفيلم ويسعي لوضعه علي طريق النجومية من خلال هذه التجربة الجماعية.فهو يحمل شخصية الشاب الجدع الجريء القوي في الحق وهو أيضا الذي تقع الفتاة الجميلة - إيمان العاصي - ابنة شقيق اللواء في غرامه. والحقيقة أن الخط العاطفي هو أوضح خطوط الفيلم وأكثرها صدقا، فالفتاة التي تري عمها يلقيها في الخطر لابد أن تحب الشاب الذي يخاف عليها وبالتالي يبدو من المنطقي أن تنضم إليه وإلي زملائه حين يعهد إليها العم بمهمة تضليلهم تمهيدا لخيانتهم وقتلهم والاستيلاء علي البنكنوت. أجاد محمود عبد المغني أداء دوره وتمكن من التعبير عن الشخصية بقلقها وهواجسها وذكائها، تميزت حركته بالرشاقة وعكست نظراته قوة الشخصية ونزوعها للزعامة , كما كان انفعاله دائما محسوبا ومنضبطا ولا يعيب محمود سوي ماكياجه واختياره لملابسه واكسسواراته التي بدت في منتهي الشياكة و التي تتفق مع شخصية شاب ابن ذوات صاحب ذوق رفيع وليس مجرماً خارجاً لتوه من السجن بعد قضاء عقوبة. ولكن من الواضح أن محمود علي العكس تماما من ماجد الكدواني فمشروع النجم يشغله أكثر من مشروع الممثل. أما إيمان العاصي فهي تتقدم من دور لآخر وإن كانت في حاجة إلي التدريب علي تنمية أدواتها وتوسيع وقدراتها التعبيرية التي تكشف عن محدوديتها في المشاهد الدرامية الصعبة فهي بالفعل مشروع نجمة من طراز فريد ونادر بملامحها التي تجمع بين البساطة والجاذبية..تفاصيل ومغامراتمع مقلب حرامية هناك تفاصيل كثيرة يمكن أن نتغاضي عنها في فيلم مغامرت حقق لنا قدرا من المتعة والتسلية كما أثار انتباهنا وأطلعنا ببساطة لا أعتقد أنها مقصودة علي صورة واقعية جدا لدولة في حالة غياب كامل وغيبوبة واستهتار بكل شيء بما في ذلك بنكنوتها الذي لم نر في حراسته سوي أربعة موظفين غلابة وجعانين وهفتانين.. لا مانع بالطبع من أن تظهر سينما المنتج في مصر إذا كانت ستشكل نوعية معينة من الأفلام التجارية ولكن الخطر كل الخطر أن تستشري الظاهرة وأن يشعر باقي المنتجين بالغيرة وأن يقرروا تقليدها مهما كانت درجة وعيهم بالسينما أو فهمهم لها فيصنعوا أفلامهم بنفس الطريقة.

جريدة القاهرة في

17/02/2009