اشتهرت «سويسرا» بصناعة شوكولاتة من أجود الأصناف، وبصناعات دقيقة مثل
صناعة الساعات وأنواع من السلاح الصغير. لكن أهم من ذلك اشتهرت بأنها بلد
البنوك، تتدفق إليها الأموال من مختلف أنحاء العالم، يُودعها فيها
الرأسماليون أصحاب الشركات المتعددة الجنسية، أو حكام نهبوا شعوبهم أثناء
سني الحكم، أو رؤساء عصابات يُتاجرون في الجنس، أو المخدرات، أو السلاح، أو
الرهونات حرصوا على تبييض أموالهم، أو مدخرون يخشون من تقلب الأحوال في
بلادهم.
تدفقت هذه الأموال على «سويسرا» لسببين: الأول هو وجود تشريع فيديرالي
يُحافظ على سرية الحسابات في البنوك، ما يسمح للمودعين بالهروب من أشياء
مختلفة يتهربون منها، أما الثاني فهو الحياد السياسي الذي يُحافظ عليه
النظام السويسري حتى يظل بعيداً من المنازعات التي يُمكن أن تؤثر في إيداع
الأموال في البنوك وتداولها. فمن المعروف مثلاً أنه أثناء الحرب العالمية
الثانية ظلت تجرى بعض المعاملات المالية من طريق البنوك السويسرية بين
الأطراف المتحاربة، بين ألمانيا النازية من ناحية وإنكلترا وفرنسا وبلاد
أخرى من ناحية ثانية. وقد ترتب على هذا الوضع أن ظلت «سويسرا» من أغنى بلاد
العالم، في مستوى المعيشة، ما جعلهم يتمتعون برغد العيش في بلد طبيعتها
الجبلية خلابة، ويسودها الاستقرار حتى إن هزته أحياناً بعض الاضطرابات
المحدودة.
لذلك تأصلت في سويسرا روح محافظة، وتقاليد جامدة، وعلاقات اجتماعية
وأسرية راسخة حافظت عليها، ودعمتها أحزاب وتيارات سياسية يمينية، وسطوة
الكنائس والمؤسسات والأفكار الدينية على حياة الغالبية من السكان المقيمين
في «كانتوناتها»، أي في مقاطعاتها الأربع: الألمانية والفرنسية والإيطالية
والرومانية.
الزهور قد تتفتح متأخرة
هذه هي الخلفية وراء أحداث فيلم «لايت بلومرز» الذي افتتح به أسبوع
السينما السويسرية في القاهرة، والذي نظمته شركة «أفلام مصر العالمية»
بالتعاون مع المؤسسة الثقافية السويسرية في القاهرة (بروهلفتسيا) ومؤسسة
«سويس فيلمز». تدور قصة الفيلم في قرية اسمها «تروب» في إقليم «إيمينتال».
هذه القرية، كما هي الحال في «سويسرا» عموماً مسرح لتغيرات وصراعات أدت إلى
قدر من التفكك في الجمود الذي كان سائداً. ربما أرادت «بيتينا أوبرلي»
المخرجة، وكاتبة السيناريو أن تصور جانباً من التغيير الذي يحدث من طريق
هذا الفيلم، لكن الأهم أنها قدّمت عملاً فنياً يتسم بروح الفكاهة، والسخرية
والمواقف المتناقضة المضحكة التي جعلتنا نستمتع، ونضحك للمفارقات التي
جسدتها، وخففت من ثقل الظروف التي نعيشها. قدمت ساعة ونصف ساعة من التسلية
الراقية، وفي الوقت نفسه من النقد والتعرية لسخافات، ونفاق وجمود المجتمع
الرأسمالي، الذكوري العقائدي السويسري، لتُثبت أن الفن والسخرية والضحك
أسلحة يُمكن أن تكون ماضية في نقد المجتمع، وبالتالي في تطويره.
«مارتا جوست» في الفيلم امرأة في السابعة والثمانين من العمر. تُطل
عيناها الزرقاوان من بين غضون وجهها بصفاء وذكاء مبهرين. مات زوجها قبل
تسعة أشهر، وترك لها محل بقالة صغيراً، لكنها لا تُجيد إدارته، ولا تُحب
العمل فيه (قامت بدورها الممثلة «ستيفاني غليزر» بمقدرة وحيوية نادرتين في
هذه السن). ابن «مارتا» المدعو «والتر»، القسيس القائم على شؤون الكنيسة في
القرية، والواعظ لسكانها ينصحها بالبحث عن عمل آخر تقتات منه.
في أحد الأيام يلجأ إليها «فريتز بييري» رئيس فرع الحزب الحاكم
والشخصية المهمة في القرية لكي تُخيط له راية جديدة لفريق الإنشاد الديني
سعياً وراء تدعيم نفوذه. تذهب «مارتا» مع ثلاث من صديقاتها إلى مدينة «برن»
لشراء القماش اللازم لها. هناك، أثناء البحث تمر أمام معروضات من الملابس
النسائية الداخلية، وتشعر بالحنين إلى مهنتها السابقة، إذ كانت تعمل في
حياكة الملابس النسائية. عند العودة وبتشجيع من صديقاتها تتخلص من البضائع
الموجودة في محل البقالة لتعود إلى حياكة ملابس داخلية للنساء فيه وبيعها.
يترتب على تصرفها هذا ما يشبه الانقلاب. يُحاول ابنها «والتر» الحامي
لأخلاق القرية أن يمنعها بمختلف الوسائل التآمرية والعنيفة من مزاولة
عملها، لكنها تكتشف في ما بعد أنه على علاقة غير شرعية بابنة إحدى
صديقاتها. تُواجهه بهذه الحقيقة فيضطر إلى التراجع. رئيس فرع الحزب يتدخل
هو أيضاً للحيلولة بمختلف الوسائل دون استمرارها في مشروعها، ومنها أن يلقي
بروث مفرخته في محلها. يدور اللغط والإشاعات في القرية ويُقاطعها الكثيرون
من سكانها. امرأة في وضعها وسنها تقوم بحياكة وبيع ملابس النساء الداخلية،
وبعرضها في الواجهة الزجاجية لبيتها! تتراجع «مارتا» أحياناً وتتردد، لكن
بتشجيع من صديقاتها تُصر على الاستمرار. إحداهن أم رئيس الحزب في القرية.
إنه يسعى لطردها وطرد أبيه العجوز والعاجز عن رعاية نفسه من البيت الصغير
الذي يقطنون فيه ليقوم بتأجيره. تتحداه أمه وتبدأ في قيادة السيارات لحمل
البضاعة التي تُحيكها «مارتا» إلى أماكن البيع. صديقتها العجوز الأخرى
تتابع فصلاً لتعلم الإنترنت بتشجيع من رجل رقيق ومهذب كبير في السن لتقوم
بالدعاية لمنتجاتها. شاب يُدرب بعض المسنين في القرية على التطريز
ليُساعدوها على التوسع في منتجاتها. هكذا بالتدريج يجنح الناس في القرية
إلى التعاطف مع «مارتا»، إلى شراء منتجاتها، ومساندتها معنوياً ضد الذين
يقفون ضدها.
أجادت الممثلات الثلاث دورهن كصديقات مُسنات لـ «مارتا». قمن به على
نحو فيه تلقائية وخفة ظل. كذلك لعبت الحوارات الساخرة والذكية دوراً مهماً
في نجاح الفيلم. كان تصوير الشخصيات واللقطات التي تبرز الانفعالات
المختلفة على وجوههن، وعلى وجوه كبار السن المجتمعين في دروس التطريز، وعلى
البيوت والمناظر الطبيعية... لافتة. ساعد التشابك والتتابع الذكي للأحداث
على كشف زيف ونفاق رئيس فرع الحزب، والقسيس الذي كان يُخفي فساده خلف قناع
من العظات والأخلاقيات الدينية.
لذلك كله استحق الفيلم نجاحه الجماهيري في «سويسرا» حيث شاهده عند
عرضه وفي بلد عدد سكانه ثمانية ملايين ما يزيد عن ستمئة ألف مشاهد. اسم هذا
الفيلم «لايت بلومرز» ويعني هذا بالإنكليزية «زهور قد تتفتح متأخرة»، أما
كلمة «بلومرز» نفسها فهى تعني أيضاً «سراويل للنساء داخلية».
الحياة اللندنية في
13/03/2009 |