يترقب النقاد والمعنيون بالشأن السينمائي العالمي المنجز الجديد
للمخرج الإيراني الكبير عباس كيارستمي على أحر من الجمر. فهو مُجدد بكل ما
تنطوي عليه هذه الكلمة من معنى. فلا غرابة أن يقترن اسمه بالتجريب والحداثة
وما بعد الحداثة أيضا. ففي كل فيلم من أفلامه ثمة شيء جديد غير مسبوق، هذا
ناهيك عن معالجاته الفنية الذكية، وقدرته على تجسيد رؤيته الإخراجية التي
تنتمي حصرا إلى «الموجة الإيرانية الجديدة» التي ظهرت إلى الوجود عام 1969،
وتحديدا منذ انطلاق فيلم «البقرة» للمخرج داريوش مهرجويي، و«قيصر» لمسعود
كيماوي، و«هدوء أمام الآخرين» لناصر تقوايي، وبعض المخرجين الإيرانيين
الذين يجمعهم هاجس التجديد أو المغايرة والاختلاف عن الأنماط السينمائية
التي كانت تنتمي إلى ما قبل تيار «الموجة الجديدة». ومن أبرز الرواد الذين
يجمعهم هذا القاسم المشترك فروغ فرخزاد، سوهراب شهيد ساليس، بهرام بيضائي،
برويز كيماوي، إضافة إلى الأسماء الثلاثة الشهيرة التي ورد ذكرها قبل قليل.
يتسم تيار الموجة الجديدة بسمات خاصة تميزه عن الأنماط الفنية السائدة شكلا
ومضمونا. ولعل أبرز هذه السمات هي استعمال اللغة الشعرية، والسرد القصصي
المجازي أو الاستعاري في التعاطي مع القضايا السياسية والفكرية. جدير
بالذكر أن هذه الموجة تألقت بأسماء من قبيل عباس كيارستمي، جعفر بناهي،
مجيد مجيدي، محسن مخملباف، سميرة مخملباف، أمير نادري وأبو الفضل جليلي.
وإذا كان كيارستمي وبناهي يمثلان الجيل الأول والثاني للموجة الجديدة
بالتتابع، فإن الجيل الثالث يشمل كلا من بهمن قباذي، مازيار ميري، أصغر
فرهادي، ماني حقيقي وبابك بيامي، إلى جانب مخرجين جدد من طراز كيارش أنوري،
مازيار بهاري، صدف فروغي، سامان سالور ومنى زاندي. وعلى الرغم من المقالات
والدراسات النقدية الكثيرة التي كُتبت عن أفلام كيارستمي التي جاوزت
الأربعين فيلما روائيا ووثائقيا طويلا وقصيرا، إلا أنها ظلت بعيدة عن
ملامسة تقنياته المختلفة واستغوار رؤيته الإخراجية المتفردة التي نالت
إعجاب مخرجين معروفين من طراز أكيرا كيراساو، غودار، ساتياجيت راي،
وسكورسيزي وغيرهم الكثير. تهدف هذه المقالة النقدية إلى دراسة وتحليل فيلم
«شيرين» تحديدا والتقنيات التي استعملها كيارستمي في إخراج هذه التحفة
الفنية، غير أن هذه التكريس لا يمنعنا من الإشارة إلى بعض أفلامه التجريبية
ذات الصلة بالموضوع. ومن الجدير بالذكر أن هذا الفيلم قد عُرض ثلاث مرات في
أثناء فعاليات الدورة الثامنة والثلاثين لمهرجان روتردام السينمائي الدولي
لهذا العام. وقد قوبل باستحسان النقاد والجمهور على حد سواء.
نزعة التجريب: تتسم أغلب أفلام كيارستمي بالنزعة التجريبية، ونادرا ما
نجده يميل إلى التقليد أو محاكاة الأنماط السينمائية السابقة. فتارة نراه
يحيد القصة السينمائية، وتارة أخرى يحيد الشخصيات، وحينا يُسقِط أجزاء من
الترجمة «الصَبْتايتل» أو يلغيها بالكامل كنوع من التحدي لقدرة المشاهد على
متابعة الخطاب البصري فقط. ثمة شيء غير مسبوق في فيلم «شيرين». فهذه القصة،
كما هو معروف، وردت في العديد من المصادر القديمة من بينها «شاه نامة»
الفردوسي، و«الكنوز الخمسة» لنظامي كنجوي، و«غرر ملوك الفرس» للثعالبي،
و«المحاسن والأضداد» للجاحظ، إضافة إلى عشرات المصادر الأخرى، غير أن
كيارستمي قد اعتمد على النص الذي كتبته الصحفية والقاصة والباحثة فريدة
غُولباو (من مواليد طهران1940 ). وهذا النص الجديد مستوحى من قصة «خسرو
وشيرين» التي صاغها الشاعر الملحمي الرومانسي نظامي كنجوي. ومهما يكن شكل
النص وطبيعة صياغته فثمة أكثر من قصة حُب واحدة ونهاية تراجيدية للشخصيات
الرئيسية المؤسسة لمتن القصة التي لم نرَها قط طوال العرض السينمائي
لـ«شيرين» وإنما كنا نسمعها فقط وأعيننا معلقة على الترجمة الإنجليزية
«الصبتايتل» وعلى ردود أفعال الممثلات اللواتي جاوزنَ المائة باثنتي عشرة
ممثلة إيرانية، إضافة إلى الممثلة الفرنسية جولييت بينوش. إذاً، لقد حيد
كيارستمي القصة برمتها، أو أزاحها، على الأقل، من السياق البصري، ليركز
أنظارنا على أوجه الممثلات اللواتي يتأرجحنَ بين الفرح والحزن في آلية
مرهفة وذكية تعتمد على لعبة التماهي والذوبان في الأحبة الحقيقيين لهذا
العدد الكبير من النساء الحسناوات اللواتي يندر أن تراهن مجتمعات في مكان
واحد مثل صالة السينما التي احتضنتهن وهن يشاهدن قصة «خسرو وشيرين» فيفرحن
تارة، ويسقطن في الانفعال تارة أخرى. اعتمد كيارستمي على تقنية اللقطات
المقربة التي كشفت عن هذا القدر من التوتر والانفعال من جهة، والفرح
والاسترخاء من جهة أخرى، وكأن المتلقي أمام دراسة تفصيلية لمعالم هذه
الوجوه الجميلة التي استطاعت أن تتماهى في شخصية شيرين. هذا الفيلم يذكرنا
بذات التقنية التي استعملها كيارستمي في فيلم «أين حبيبي روميو؟» حيث ترتسم
الانفعالات على ملامح ست عشرة امرأة إيرانية، غير أن عدد النساء في فيلم
«شيرين» كان كبيرا، والمساحة المُتاحة لرصد تغيرات المشاعر والأحاسيس كانت
كبيرة أيضا. اللقطات المقربة التي أشرنا إليها سلفا قد تكشف شخصية إلى
اليمين أو إلى اليسار من الشخصية المركزية التي تُسلط عليها عين الكاميرا
في جوٍ رهيب من الصمت المطبق.
خسرو وشيرين: هذه الملحمة الشعرية عبارة عن قصة رومانسية انتهت نهاية
تراجيدية مفجعة. وتبدأ ببشرى خسرو الكسرى برويز بن هرمز الرابع، لحفيد
أنوشروان بأنه سوف يظفر بثلاثة أشياء مهمة جدا وهي مُغنٍ رخيم الصوت اسمه
باربد، وبجواد فريد يدعى شبديز، وحبيبة فاتنة الحسن والجمال اسمها شيرين.
تتحقق هذه البشائر أو الأمنيات الثلاث تباعا بمعونة صديقه ونديمه شابور
الذي يتنقل بين إيران وأرمينيا مُزوِدا خسرو بأخبار الحسن الآسر والجمال
الفتان الذي تتوفر عليه شيرين حفيدة الملكة الأرمينية مهين بانو. وما أن
يرتبط الاثنان بعلاقة حُب حتى يعرج خسرو في واحدة من رحلاته العديدة على
ملك الروم سائلا إياه العون والمؤازرة للقضاء على التمرد الذي وقع ضد
والده، لكنه يتزوج هناك من مريم ابنة القيصر. بينما تنشأ علاقة حُب أخرى
بين النحات والمعماري فرهاد وشيرين التي سمعت عن حبه الكثير. يتميز خسرو
غيظا من هذه العلاقة العاطفية وبمشورة أعوانه يقررون القضاء عليه بمكيدة
لئيمة. إذ أخبروه بأن شيرين قد ماتت بينما كان هو يشق الطريق الصخرية
الوعرة في بيستون غربي كرمانشاه، وينحت من صخورها تماثيل جميلة لشيرين. وقع
الخبر على فرهاد وقوع الصاعقة فألقى بنفسه من حافة الجبل الصخري ولاقى
مصيره المحتوم. حينما توفيت مريم زوجة خسرو أصبحت الطريق سالكة أمام شيرين
كي تتزوج من خسرو الذي يمنحها هو الآخر حبا جما قل نظيره. وبالفعل يقترن
بها، ويعيشان حياة ملؤها الحب والسعادة، غير أن هادم اللذات ومفرق الأحباب
كان يقف لهما بالمرصاد حيث تُدبر مكيدة أخرى للملك خسرو ويموت على يد ابنه
شيرويه من زوجته الرومية. وكنوع من الوفاء لزوجها تطعن شيرين نفسها بذات
الخنجر الذي طُعِن به زوجها خسرو، وتُدفَن معه في قبر واحد. الانعطافات
الدرامية: تتوفر ملحمة «خسرو وشيرين» على انعطافات درامية متعددة تشجع
المتلقي على التفاعل والاندماج مع طبيعة الأحداث، غير أن كيارستمي جعل
المتلقين، سواء النسوة اللواتي كن يشاهدن الفيلم أو المتلقين الآخرين الذين
كانوا يشاهدون الفيلم و«الفيلم داخل الفيلم» معا، يتماهون مع الملحمة
الشعرية وما تنطوي عليه من أحداث جسيمة تفضي إلى الفرح والسعادة نتيجة
لعلاقات الحب التي تتفتح وتزدهر بين خسرو وشيرين تارة، وبين فرهاد وشيرين
تارة أخرى. أو تلك الأحداث الفجائعية التي تقود إلى انتحار فرهاد أولا
ومقتل خسرو ثانيا وانتحار شيرين في خاتمة الملحمة. لقد لعب كيارستمي على
هذه الاسترخاءات والتوترات التي يغص بها النص الشعري ووصلت إلى المتلقي عن
طريق طرف ثالث وهو النسوة المتفرجات اللواتي كن يتوفرن على معالم جمالية
فيها قدر كبير من الإثارة والفتنة الآسرة المتمثلة في العيون الواسعة،
والأنوف الدقيقة، والشفاه المطلية بالأحمر الصارخ، وربما كانت جولييت بينوش
هي المرأة الأقل سحرا في غابة النسوة الجميلات اللواتي انتقاهن كيارستمي
المعروف بذائقته الفنية العالية، وحسه الجمالي المرهف. ومن بين الممثلات
الحسناوات اللواتي اشتركن في التمثيل، أو البطولة الجماعية، نذكر هدية
طهراني، نيكي كريمي، تارانه علي دوستي، فاطمة معتمد آريا، ليلى حاتمي،
كولشفته فرهاني، فيما بدت جولييت بينوش أقلهن جمالا ربما لأنها بلا ماكياج،
أو لأن بعض الإيرانيات الجميلات هن النساء الأكثر سحرا في العالم.
لعبة الخرق والانتهاك: منذ فيلمه الأول «الخبز والزقاق» 1970 الذي يعد
أنموذجا للواقعية الإيرانية الجديدة وحتى فيلمه الأخير «رخصة مصدقة» 2009
كان كيارستمي ولا يزال يمارس لعبة الخرق والانتهاك للتقاليد السينمائية
التي كانت متبعة في مرحلة ما قبل «الموجة الجديدة» التي رسخها هو وعدد غير
قليل من أقرانه المخرجين السينمائيين الذين ينزعون نحو المغايرة والتجديد.
وعلى الرغم من أن كيارستمي كان يُسند أدوار البطولة في أفلامه الأولى إلى
أطفال مثل «الخبز والزقاق»، «حلان لقضية واحدة» و«المسافر» وغيرها من
الأفلام، فإن فيلم «أين بيت صديقي؟» يعد انعطافة حقيقية في خرق التقليد
السينمائي السائد، فقد كان هذا الفيلم شاعريا بدءا من عنوان الفيلم المأخوذ
أصلا من بيت شعري للشاعر سوهراب سبهري، وانتهاء بالثيمة الشعرية التي
عالجها كيارستمي ببساطة غير معهودة. وسوف تتكرر لاحقا اقتباسات كيارستمي من
قصائد شعراء آخرين. ففي فيلم «سوف تحملنا الريح» اقتبس المخرج هذا العنوان
من قصيدة للشاعرة المعروفة فروغ فرخزاد. أما الخرق الثاني لما هو مألوف فقد
حدث في فيلم «عشرة» 2002 الذي يصور عشرة مشاهد متتالية لامرأة تعمل سائقة
سيارة «مانيا أكبري» وهي تحاور عشر شخصيات من بينهم ابنها أمين ماهر، وأخت
السائقة، وعروس، وداعرة، وامرأة في طريقها إلى الصلاة، وطليق السائقة الذي
لم نره إلا بالكاد. لقد اعتمد هذا الفيلم على عنصر الارتجال مع بعض
الملاحظات العامة التي أبداها المخرج قبل مرحلة التصوير. أما فيلم «خمسة»
الشعري أيضا فهو يصور خمسة مشاهد طويلة للطبيعة خالية من القصة والشخصيات
إلا أن الفيلم يقول أشياء كثيرة، وقد قال عنه جيوف أندرو إنه «أكثر من مجرد
صور جميلة». المعروف أن كيارستمي قد دمج بين تقنية الفيلم الروائي
والوثائقي إلى الدرجة التي دفعت غودار لأن يقول «إن أفلام كيارستمي ليست
روائية وليست وثائقية تماما»!. أما فيلم «شيرين» فإنه أحالنا إلى تقنية
«الفيلم داخل الفيلم»، كما أبرز لنا أهمية البطولة الجماعية عبر المنحى
التعبيري، وذكرنا بأهمية الصمت بوصفه عنصرا فاعلا ومؤثرا في العملية
الإبداعية إذا ما أُحسن استعماله وتوظيفه بطريقة مدروسة. ورب سائل يسأل عن
السبب الذي يقف وراء نجاحات كيارستمي المتلاحقة. هل هو التجريب، أم
الشاعرية، أم الخرق والانتهاء، أم الإحالة الدائمة إلى اللعبة البصرية؟
والجواب طبعا هو في اجتماع هذه الخصائص والخصال التي يعول عليها المخرج
كيارستمي. وهو في الحقيقة ليس مخرجا فقط، وإنما هو سيناريست، ومونتير،
ومصور، ورسام، ورسام توضيحي، ومصمم غرافيكي، ومنتج، وشاعر. وفي الرسم
والتصوير أقام معارض مهمة. وفي الشعر أصدر أكثر من مجموعة شعرية. أما في
الإخراج فقد جاوزت أفلامه الوثائقية والروائية 40 فيلما من بينها «الخبز
والزقاق»، «التجربة»، «المسافر»، «حلان لمشكلة واحدة»، «الألوان» «بذلة
للزفاف»، «وتستمر الحياة»، «التقرير»، «الكورس»، «وجع الأسنان»، «تحت أشجار
الزيتون»، «طعم الكرز»، «ستحملنا الريح»، «أي بي سي أفريقيا»، «عشرة»،
«خمسة»، «تذاكر»، «طرق كيارستمي»، «شيرين» و«نسخة مصدقة». تجدر الإشارة إلى
أن كيارستمي هو واحد من قلة من المخرجين الإيرانيين الذين لم يغادروا إيران
بعد مجيء الخميني عام 1979 لأنه يعتقد جازما أن بقاءه في إيران قد عزز من
تجربته السينمائية، وأمده بزخم قوي من القدرة على التحدي واجتراح المعجزات
في ظل نظام لا يوفر هامشا كبيرا من الحرية لأبرز الأجناس الإبداعية وعلى
رأسها السينما. وقد صرح ذات مرة لصحيفة «الغارديان» اللندنية قائلا: «عندما
تأخذ شجرة متجذرة، وتنقلها من مكان إلى آخر فسوف تكف هذه الشجرة عن حمل
الفاكهة. وإذا حملت فلن تكون بنفس النوعية التي كانت تعطيها في مكانها
الأصلي. هذا هو قانون الطبيعة. أنا أعتقد لو أنني تركت بلدي فسوف أكون مثل
تلك الشجرة». لذلك قرر كيارستمي البقاء في بلده، حيث أنجز العديد من
الأفلام التي نالت جوائز عالمية مهمة، أهلته لأن يكون مخرج إيران الأول على
الصعيد التجريبي بلا منازع.
الشرق الأوسط في
13/03/2009 |