ومضة العبقرية
«ومضة العبقرية» اكثر من فيلم، انه حقيقة، وكما كل الافلام الحقيقية التي
تدور حول وقائع حدثت فعلاً، هو يثير اهتماماً خاصا في اوساط المشاهدين. لكن
وراء نجاح الشريط اعتبارات اخرى لا ترقى الى مستوى العبقرية لكنها تواجهها
بنجاح.
يكتسب معظم الأفلام المنقولة عن قصص حقيقية، جرت أحداثها في الواقع، وعلم
الناس بها من قبل، مصداقية أكبر، وقبولاً أسهل لدى الجمهور من غيرها. لكنها
تحمل في طياتها، دوما، مخاطر سقوط كتاب سيناريوهاتها في فخ المباشرة والنقل
الحرفي للقصة الأصلية فتذهب أهميتها هباء. وفي الوقت ذاته، غالبا ما تصعب
هذه القصص من دور الممثل الذي يلعب بطولتها، لذهاب ذهن الناس، وبطريقة
عفوية، الى التشبيه بينه وبين الشخصية الأصلية المنقولة على الشاشة. لكن،
إذا ما راعى، مخرج أي فيلم يعتمد هذا النوع من القصص، خصوصياته، وأحسن
اختيار ممثليه فانه يكتب لفيلمه، على الأرجح، النجاح المطلوب.
هذا ما لمسناه خلال مشاهدتنا فيلم «ومضة العبقرية». باختياره، الممثل جريج
كينر، للعب دور بطولة فيلمه، تجاوز المخرج مارك أبراهام أول وأصعب العقبات
التي قد تعيق نهوض فيلمه الى المستوى الجيد الذي يريده. وفي الوقت نفسه
أكسب كاتب السيناريو فيليب رايسفالك القصة إطارا دراميا وهي تتناسب مع
الاهتمام والجدل اللذين اثارتهما في المجتمع الأميركي، وعمق من مضمونها
الذي عرى جشع أصحاب الشركات الكبرى وسرقتهم ثمار حركة العقل المبدع
والخلاق، كما جرى مع مخترع الحركة التدريجية لماسحات الزجاج الامامي في
السيارة، روبرت كرينس، وكيف انتزعت، شركة فورد للسيارات، بالخداع كل حقوق
ابتكاره ونسبتها الى نفسها.
اختراع المتاعب
لم يخطر في بال، المهندس والدكتور المحاضر في جامعة ميشيغان للعلوم
الميكانيكية كرينس، ان ومضة العبقرية التي قدحت في ذهنه، وقادته الى
التفكير في تغيير عمل ماسحة الزجاج الامامي للسيارة من حركة ميكانيكية
ثابتة الى حركة متغيرة السرعة تتناسب مع كثافة المطر المتساقط عليها طرديا،
أنها ستجره الى مواجهة مع أكبر شركات صناعة السيارات الكبرى في بلاده،
وأنها سوف تحطم حياته الهانئة والمستقرة، بدلا من توفير السعادة التي كان
يتخيلها، وهو يرى اسمه منقوشا على الاختراع الذي كان يمكن ان يعم بفائدته
عائلته وملايين المستهلكين، كما كان يأمل.
في ذروة تأزمه، يرجع الشريط (فلاش باك) ليقص علينا حكاية صاحب «ومضة
العبقرية» عندما صعد شرطيان الى باص عمومي وبدأا استجواب رجل كان يجلس في
داخله. من كلامه المرتبك الذي يدعي فيه انه على موعد مع نائب الرئيس
الأميركي يفهم الشرطيان انه مختل عقليا وأن من أخبرهما عنه كان محقا. وعبر
جلسات الطبيب النفسي معه ندرك حجم عذابه وحجم الشعور بالغبن والحيف الذي
كان يشعر به «بوب» كما كان يسميه المقربون، بعد خروجه من المصح نعود الى
متابعة قصة الرجل من بدايتها.
في حي هاديء في ولاية صناعة السيارات الأميركية ديترويت، وفي بداية
الستينيات، كان المهندس بوب يوزع وقته بين زوجته فيليس (الممثلة لورين
غراهام) وأولاده الستة، وعمله في الجامعة. أما أوقات فراغه فكان يقضيها في
مخزن بيته لتطوير اختراعاته وإشراك عائلته في ابحاثه.
ذات يوم أخبرهم عن اختراع جديد بدأ بتطبيقه على حوض أسماك قديم. لقد برهن
لهم صحة فكرته وإمكانية تحويلها الى عمل ملموس. وراح خياله بعيدا حين تمنى
ان يصنع اختراعه بنفسه ويؤسس شركة عائلية يشكلون هم مجلس ادارتها. بعد عرض
فكرته على أحد أقاربه، اقترح عليه الأخير بيعها الى شركة فورد للسيارات بعد
تسجيل براءة الاختراع باسمه. وبسرعة البرق رتب مسؤولو الشركة لقاء معه،
اقترحوا عليه خلاله فكرة شراء حق الاختراع مقابل مبلغ من المال. لكنه أصر
على تولي إنتاجه بنفسه. عندها لجأوا الى حيلة أخرى أقنعوه فيها بضرورة عرض
اختراعه على خبرائهم، مع تأمين كل مستلزمات صناعته لحسابه الخاص. هنا شرع
المهندس بترتيبات للاقتراض من المصارف، وفي خضم العمل يأتي اليه قريبه
ليخبره ان شركة فورد قد سحبت نفسها من المشروع فجأة، فيغرق الرجل في الديون
ويظل يركض وراءها في محاولة يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. غرق الرجل في
أزمة هزت حياته كلها وأثرت على علاقته بعائلته. ويتابع الشريط بدقة مذهلة
المتغيرات التي طرأت على حياة المهندس بوب والمحيطين به. خلال الثلث الأول
من الشريط يتمكن المشاهد من الإلمام بشخصية الرجل وطريقة تفكيره. لقد أبدع
الممثل جريج كينر في تقمص الشخصية الحقيقية وقدم ملامحها الهادئة والطيبة
والحساسة بما يتناسب مع أسلوبه الذي يجمع المرح والطيبة والجد معا، كما في
أدواره السابقة في: «مدينة الأشباح»، «روبورتات» و»أمة الأكلات السريعة».
لكن ملامح جديدة في الشخصية كان عليه اداؤها في الأجزاء المتبقية من
الفيلم، وكان مستوى الشريط بأكمله متوقفا عليها. عليه الآن التصعيد ومن ثم
العودة الى حالة استقرار تامة عند نهايته.
سرقة وأرباح
يبلغ التصعيد ذروته عندما يكتشف بوب ان اختراعه قد سرقته شركة فورد وطبقته
على سيارتها الجديدة. لقد جنت الملايين من زيادة مبيعاتها نتيجة تطوير
ماسحاتها. ومن حينه بدأ يطالبهم باسترداد حقه. كان ردهم دوما عنيفا، وفي
النهاية ادعوا ان مهندسيهم هم من طور الاختراع . لقد وجد بوب نفسه أمام
جدار هائل الارتفاع، فتقزم أمامه. ومع هذا رفض الانصياع رغم نصيحة الجميع
له بترك قضيته والانتباه الى نفسه بعد أن تركته زوجته وأخذت أطفاله معها.
ومع إصراره وضعف حيلته انهارت أعصابه فنقل الى مستشفى للأمراض العصبية، كما
رأيناه في المشهد الأول من الفيلم. إذن نحن الآن أمام مشاهد سينمائية مرتبة
زمنيا وما علينا سوى متابعة نهايتها، ومواكبة تصاعد توترها الدرامي.
بالتدريج يأخذ بوب في استعادة تماسكه، ويشرع مع أولاده، الذين عادوا إليه،
بالتخطيط لعمل طويل وخطير، خصوصاً بعد رفضه كل عروض ومساومات الشركة ومنها
عرضها مبلغ 30 مليون دولار مقابل التنازل عن القضية. شرع بدراسة الحقوق
وطلب من المحكمة الموافقة على توليه الدفاع عن نفسه بنفسه، فوافقت على
طلبه. ولعل مشاهد الدفاع هي أطرف ما في الفيلم وأشدها حساسية، لجهة اقناع
لجنة المحلفين والمحكمة بعدالة قضيته، هي الأكثر درامية. جابه بوب أشد
محامي الشركات خبرة وسمعة وانتصر عليهم. أعادت المحكمة له حقه، وطالبت
الشركة بتعويضه عشرة ملايين دولار، فعاد معها أطفاله إليه بعد فراق سنوات.
ربما يسجل على الفيلم تركيزه المفرط على بطله وتهميش المحيطين به، كزوجته
وأولاده، الذين لم نفهم لماذا عادوا وآزروه بهذه الطريقة الميكانيكية. ومع
ان القصة الحقيقية كان بطلها موضوعيا رجلاً واحداً، إلا ان الفيلم كان في
حاجة الى تطوير شخصياته لإضفاء مزيد من الإقناع عند المشاهد. ولهذا نعتقد
ان نهايته الهوليوودية الطابع جاءت إثر هذا التهميش، مع ان مخرجه هو من
المتميزين بأسلوبه خصوصاً في فيلميه «لنذهب الى السجن» و«كل أولاد الرجال».
لقد عرى «ومضة العبقرية» في نهايته، كما هو في الواقع، جشع الشركات
الكبيرة وأصحابها وفتحت قضية بطلها الباب أمام الكثير من الذين سرقت حقوق
اختراعاتهم وومضات عبقريتهم للمطالبة بحقوقهم. يبقى التذكير بأن القضية
الحقيقية أخذت اثني عشر عاما في المحاكم، وان صاحبها قد توفي في العام 2005
بعدما حصل على أكثر من ثلاثين مليون دولار، تعويضا عن خساراته من أكثر من
شركة، ومع هذا ظل الثمن الذي دفعه الرجل من حياته غاليا وغالياً جدا.
الأسبوعية العراقية في
03/05/2009 |