كان من المقدر للدراما السورية الجديدة أن تفرض مزاجها الخاص مع انتشارها
الواسع على الفضائيات العربية، بما في ذلك أبطال حكاياتها والنجوم الذين
قاموا بتجسيد تلك الحكايات.
إلا أن ما طفا على السطح هو استهلاكية وجود هذه الدراما الجديدة، إذا ما
قيس حضورها بحضور الدراما السورية القديمة ونجومها عند الجمهور العربي، رغم
أن هذه الدراما عُرفت -من قبل- على نطاق ضيق من المشاهدين في وقت كان
التلفزة العربية مقتصرة على المحطات الأرضية التي بالكاد تلتقط من مدن
البلدان الأخرى الحدودية.وإذا ما انتبهنا إلى محلية المواضيع التي تصدت لها
الدراما السورية القديمة، سننتهي إلى سر يكمن في عفوية الطرح الذي جاءت به
هذه الدراما، والذي كان الحامل له بالضرورة «كركترات» تمثيلية أحببناها،
لعل أهمها شخصيتي «غوار الطوشة»، و«حسني البورظان»، وهما شخصيتان ولدتا من
رحم الشارع، لذلك كانتا الأقرب إليه عندما ظهرا في مربع الشاشة الصغيرة.
بالواقع تحفل التجربة الفنية السورية بمجموعة كبيرة من الشخصيات الدرامية «الكركترات»
التي أسرت المشاهد وقت عرضها وعززت من حضورها في ذاكرته، ونجاح تلك
الكركترات وديمومتها بدا مرهوناً بمصداقية علاقتها مع الناس والتصاقها
بحياتهم اليومية.
وكما أسلفنا فقد كان الشغل على البناء الدرامي لتلك الكركترات بما يتقاطع
مع شخصيات قريبة من حياة الناس، هو العامل الحاسم في تكريسها شعبياً
واحتلالها ركناً في الذاكرة عصي على النسيان، وهذه حقيقة أدركها المشتغلون
في الدراما من خلال التجريب. فشخصية «كارلوس» المكسيكي التي ظهر من خلالها
الفنان دريد لحام لأول مرة، لم تلق رواجاً شعبياً.
وقد التقط الرجل سر غياب الود بين شخصيته تلك وبين الناس حين استبدله
بكاركتر «غوار الطوشة» الشهير، والذي أكد الفنان دريد، أكثر من مرة، أنه لم
يخترعه وإنما عثر عليه في إحدى حارات دمشق الشعبية، وفي ذلك واحد من
الأسباب التي أدت إلى تخليده في الذاكرة الشعبية.
وإلى جانب شخصية غوار الطوشة ولدت شخصية حسني البورظان التي أداها الفنان
نهاد قلعي، وشكل الاثنان ثنائي «دريد ونهاد»، الذي بدأت معه مرحلة جديدة من
الدراما السورية، انطلاقاً من «سهرة دمشق» التي أخرجها خلدون المالح.
وقد وجد هذا الثنائي تعبيره الأمثل في الكوميديا أو في الدراما المفبركة و
في سياق «المونولوج» أو الغناء الشعبي الانتقادي. وجميع تلك الاتجاهات
الفنية كان الخيار الشعبي فيها هو الحاسم...إلا أن ديمومة هذا الثنائي كان
في قدرته على التطور والتلاؤم مع في كل مرة حكاية جديدة، فضلاً عن قدرته
على استيعاب ممثلين آخرين بكركترات تخصهم..تتكامل بحكايتها وحكاية كركتري
غوار الطوشة وحسني البورظان.
ثنائي دريد ونهاد الأول والأبقى
الفضل الأساسي في مرونة ثنائي دريد ونهاد وتجدده كان في الحقيقة للكاتب
الموهوب نهاد قلعي الذي عاد ليبلور ثنائية «غوار الطوشة وحسني البورظان» في
أكثر من عمل درامي إلى أن التقى مع الفنان رفيق السبيعي الذي قدم شخصية أبو
صياح على المسرح، ولمع نجمه، آنذاك، بتقديم الغناء الناقد الشعبي واشتهر
بمونولوج «يا ولد لف لك شال»..وهكذا شكل هذا الثلاثي مادة درامية أساسها
البيئة الشامية، اشتهر منها مسلسلات «مقالب غوار»، و«حمام الهنا».
في مسلسل «صح النوم» الذي كتبه الفنان نهاد قلعي عام 1970 غاب الفنان رفيق
سبيعي، إلا أن شخصيات درامية عديدة ولدت منها شخصية «أبو عنتر» صاحب
المشاكل التي أداها المرحوم ناجي جبر، وشخصية «بدري بك أبو كلبشة» رئيس
المخفر التي جسدها المرحوم عبد اللطيف فتحي، شخصية «فطوم حيص بيص» حبيبة
غوار التي قدمتها الفنانة نجاح حفيظ، وشخصية ياسينو شغيل الفندق وأبو كاسم
بائع الخيار، و اللحام أبو رياح..وسواها.
جميع الكركترات الجديدة التي قدمها مسلسل «صح النوم» شكلت علامة فارقة في
تاريخ الدراما السورية وتاريخ أصحابها الفني..إلا أنها سرعان ما تفاوت في
نسبية تطورها، وفرض خصوصيتها فيما بعد لاعتبارات، في الغالب، تتعلق
بأصحابها، لتبقى شخصية غوار الطوشة الذي قدم الحس الشعبي.
والذكاء الفطري وربما السذاجة..الكركتر الأشهر على مستوى الوطن العربي، وقد
تم تطويره وتطويعه بآن واحد من قبل الفنان دريد لحام على مرحلتين في
المرحلة الأولى ساعده الفنان نهاد قلعي، وفي المرحلة الثانية كان للكاتب
محمد الماغوط الدور الكبير في تبلور شخصية جديدة لغوار الطوشة.
ربما كانت شخصيات من أمثال غوار الطوشة، حسني البورظان، «فطوم حيص بيص» هي
محور الحكاية في ذلك الوقت، والأبرز بين شخصياتها، لذلك كانت الأكثر حضوراً
بين الناس، ولكن الشخصيات الأخرى كانت لا تقل أهمية عن هؤلاء ضمن مساحة
أدوارها..وهو الأمر الذي يؤكده بقاء عبارة مثل «أصابيع البوبو يا خيار»
معادلاً في الذاكرة لشخصية أبو كاسم..
كما كانت عبارة «أنفي لا يخطئ» لصيقة بشخصية بدري بك أبو كلبشة
وسواها...وقد ساهم في تكريس هذه الشخصيات بمجملها، توثيق علاقتها مع الناس
من خلال استمرار حضورها في أكثر من عمل درامي وفق خط سير واحد لسلوك
الشخصية، أضف إلى ذلك أن هذه الكركترات لم تأت من فراغ، وقد قدمت نفسها في
أعمال شابهت شكلها بطريقة ما، فقدمت واقعاً متطابقا مع شروط ومتطلبات
الكركتر نفسه، وكان لاستثمار تلك الشخصيات سينمائيا عبر مجموعة من الأفلام
المحلية والعربية سبباً إضافياً في منحها عمراً أكبر في الذاكرة.
القصدية في بناء الحدث الدرامي
إلا أن امتياز هذه الكركترات الأساسي كان في طريقة كتابة تفاصيلها، حيث
ساهمت القصدية في بناء الحدث الدرامي على مقاس هذه الشخصيات إلى حد كبير في
ترسيخها في الذاكرة، وقد عٌرف عن الفنان الراحل نهاد قلعي- مبدع هذه
الشخصيات- أنه كان يكتب شخصياته الدرامية السابقة لممثلين معينين،.
وكانت هذه الكتابة تتم خطوة خطوة، ووفقاً لما تتطلبه ظروف العمل، ولم يكن
الفنان قلعي يحبذ أن يكتب شخصية لفنان معين ويؤديها ممثل آخر...وكأن
بالراحل قلعي كان يريد أن يقول أن الشخصية التي يؤديها الممثل هي أكثر من
كلام وصفات على الورق ينقله الممثل أمام الكاميرا بإحساسه.
القصدية في الكتابة الدرامية، ستعود فيما بعد لتساهم في ثمانينات القرن
الماضي في ترسيخ كركترات أخرى جاءت من عمق المجتمع، واختارت الكوميديا
لتقدم نفسها كما حال كركترات السبعينيات، ونجحت فعلاً في تكريس حضورها في
أذهان المشاهد لفترة لا بأس بها مثل شخصية «بهلول»، وجاء الشكل الخارجي
ليدعم كركتر شخصية مثل «ديبو» في ذلك الوقت، إلا أن هذين الاسمين بقيا دون
حضور بقية الكركترات الأخرى...فالأول لم يتح له الموت تكريس شخصية «بهلول»
رغم أنه قدم أكثر من عمل بهذه الشخصية، والثاني لم يجد من يستثمر شخصيته
فبقيت أسيرة ذاكرة ما قدمته مع بهلول.
ولعل من مفارقات تلك الكاركترات، ومنها كركترات الثمانينات بطبيعية الحال،
هو تأثيرها في حياة الناس لدرجة أن شخصيات مثل غوار الطوشة، وحسني البورظان،
وأبو صياح، وأبو عنتر وأبو رياح وأبو كاسم.. وفيما بعد شخصيتي بهلول وديبو،
بدت مشهورة أكثر من أسماء أصحابها الحقيقيين، وبل فشل الكثيرون منهم
بالتمرد عليها، و إلا لماذا كان الرجوع إليها بعد هجرها أصحابها لفترة في
أعمال مثل «يوميات أبو عنتر»، و«عودة غوار».
البيان الإماراتية في
05/07/2009 |